الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختراق «التابو» السياسي

اختراق «التابو» السياسي
9 أكتوبر 2013 21:35
توفيق عابد ربما تكون “شرفة الهاوية” للروائي إبراهيم نصر الله الأكثر جرأة وشجاعة في مشروعه الثقافي “الشرفات” في اختراق وكسر “التابو” السياسي عبر تعرية منظومة الفساد في عاصمة عربية، من السهل معرفتها بسهولة كما يستشف من أحداثها وأمكنتها وشوارعها ووصف مسارها. والرواية 332 صفحة من القطع المتوسط الصادرة عن الدار العربية للعلوم “ناشرون” في بيروت قبل أيام تمتاز عن مثيلاتها بالمغامرة، وهذا يحسب للروائي نصر الله الذي نعرف عنه حذره الشديد من خلال لجوئه للتلميح وليس التصريح المباشر تاركا القارئ حرية الوصول للمعنى المقصود واستخلاص استنتاجاته الخاصة. والمتصفح لرواية “شرفة الهاوية” تستوقفه ملاحظتان، الأولى سهولة مفرداتها من جهة واستخدام الروائي أسلوب المذكرات اليومية أثناء تحريك شخصياته ورسم معالمها من جهة ثانية وهي فيما يبدو حقيقية. الناقد والشاعر عبدالله رضوان استطلع الرواية مرتين، وأعد قراءة استطلاعية بعين ناقدة ورؤية ثاقبة أكد في بدايتها “أن دولة عربية تسمح بنشر مثل هذا الطرح المتمرد الذي يطال مؤسساتها الأمنية دولة قوية تؤمن بقدر كبير من الحرية لأبنائها ومبدعيها.. واثقة من ذاتها تتطلع للديمقراطية وحرية الرأي باعتبارهما حقا من حقوق المواطنة”. وقال في مستهل قراءته أنه سعيد بأن يمتلك أحد مبدعينا هذه الجرأة في انتقاد المؤسسة الأمنية والواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي السائد بهذه الجرأة والقوة والتماسك من دون وجل من التبعات “فإذا ذهبنا للرواية فإننا نفاجأ بالثيمة المركزية التي تقدمها الرواية وهي تعرية وإدانة للمؤسسة الأمنية لدورها في التغاضي عن الفساد ليكون منظومة اقتصادية اجتماعية سياسية متكاملة”. فسلمان بك محام جريء وقوي الشخصية يختاره “مدير الدائرة” ليتعاون معه في التحقيق مع غير اليساريين الذين باتوا يمثلون الخطر الأكبر على أمن الدولة، معتبرا أن الجهد الذي ذهب في التحقيق مع اليساريين والقوميين ومتابعتهم لسنوات كان خطأ، فهم ليسوا الأعداء الحقيقيين من دون أن يحدد الأعداء المستهدفين هذه المرة وإن كانت الإحالة غير المباشرة تذهب للإسلاميين والمتشددين بخاصة، واعدا إياه بعد تقديم الخدمة المطلوبة بمنصب وزير.. يوافق سلمان ويستمر تعاونه الميداني لمدة سنتين يتحسن خلالهما وضعه المادي وتتعمق علاقاته الاجتماعية والاقتصادية حسب الرواية. وفي إحدى سهراته مع أقرانه في المزرعة ـ وهذا يذكّرنا بسهرات المزرعة واختيار الوزراء في رواية جمال ناجي الموسومة بـ “عندما تشيخ الذئاب” ــ يأتيه التليفون من مدير الدائرة بأنه قد أصبح وزيرا، وخلال توليه الوزارة تحال اليه العديد من الملفات الاقتصادية، فيقوم الوزير بتمريرها وإكمال عمليات البيع عن طريق الخصخصة مقابل “هبرة” مالية يتقاضاها وجماعته. وما أن تنتهي وزارته حتى يكون أحد أعمدة المجتمع سواء عبر عضوية اللجان أو المشاريع الاستثمارية والصفقات المالية، التي توجهه الدائرة للدخول فيها، وهكذا يصبح “سلمان بك” أحد أعمدة المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، هذا المجتمع الذي تحركه “الدائرة” وتتحكم به لدرجة انتقاء من سينجح بالمجلس النيابي لتكون حصة من عليهم قضايا في المحاكم “ثمانين” نائبا، كما تقول الرواية طبعا بهدف توجيه المسار التشريعي حسب رغبة وسياسات “الدائرة”. ويطرح خطاب الرواية تحكّم “الدائرة” شبه الكامل في مسار الأحداث داخل الدولة وتعمّد اختيار أصحاب القضايا في المحاكم ودفعهم الى المجلس النيابي لغايات التحكم في أدائه واختيار أشخاص أقوياء والاستفادة منهم في العمل “الأمني” وتهيئتهم لمواقع متقدمة وأدوار سياسية واقتصادية مهمة. كما يطرح غض الطرف عن ممارسات المقربين “للدائرة” حتى ولو أوغلوا في الفساد واستغلوا موقعهم لصالحهم وصالح مجموعتهم المقرّبة والتحكم في تعيين المواقع القيادية بما في ذلك تعيين الوزراء. ولكي يوصلنا الراوي الى نمذجة الشخصيات الرئيسة وبخاصة “سلمان بك”، فإنه يعمل على تقديم مشاهد تنير المفاصل في حياة أبطاله، فسلمان خريج كلية الحقوق ومعارض للحكومة و”للدائرة” في بداية حياته ثم متعاونا معها ليصبح لاحقا جزءا من مكوناتها.. فصيح الخطاب وقوي الشخصية يتزوج مرتين، الأولى اختارتها والدته لا يلبث أن يهجرها بعد أن أنجبت ولدا وبنتا.. الأم نورة والطفلان خالد وردينة التي ما تلبث أن تصبح صديقة الطالبة الجامعية “نهى” التي يتعلق بها الدكتور كريم بهوس جنسي مبالغ فيه. والثانية المحامية المجتهدة والمتميزة “ديانا” التي تنبهر بشخصية سلمان ومنطقه الفصيح المتماسك فتتزوجه لتكتشف أنه يتصف بالبخل غير المسبوق، ويحصي ما يقدمه لزوجته حتى عدد مرات الجماع، ومحاسبتها وكأنها كائن آخر عبر شراكتهما في مكتب المحاماة، ويهمل أبناءه ويرفض التعامل الإنساني معهما أو مع أمهما إلا ضمن الحد الأدنى وبعد ضغط زوجته “ديانا” وتهديداتها المتكررة. ومن صفاته حسب الرواية الرفض الحاد بأن يسمح لـ”ديانا” أن تنجب أبناء تعميقا لأنانيته لتحافظ على جسمها وتظل له فقط، والقسوة في التعامل التي تصل الى درجة القتل عند التعرض لشيء قد يخصه، كما حدث حين أمر بقتل “الدكتور كريم” لأنه اكتشف علاقته مع زوجته “ديانا” التي تمردت على حياة زوجها وسلوكياته، وبدأت تبحث عن حياة خاصة بها فتعرفت على الدكتور “كريم” ليدفع حياته ثمنا. هذه هي الصفات ـ منظومة السلوك ـ التي حددت مواصفات هذا الأنموذج السلبي عبر نموذج الأكاديمي المنفتح وعيا وسلوكا “الدكتور كريم”، الذي يوظّف مهاراته ووعيه ووسامته لإيقاع طالباته في حبائله، لكنه يدفع الثمن فيطرد عند اكتشاف فضيحته عبر تلاعبه بالعلامات في المرة الأولى مع الطالبة المجتهدة والمؤدبة “نهى”، ثم يكشف مرة أخرى بتآمر واحدة من طالباته الجديدات تكاد تشبه “نهى” شكلا وذكاء وأدبا (سامية رمضان) التي رفضت الخضوع لاستغلاله، وبالتعاون مع زملائها وزميلاتها يتم اصطياده في غرفة فندق، فيطرد من جديد ليقتل أخيرا بأمر من “سلمان” لأنه بات على علاقة مع “ديانا” ذات السيارة المعروفة بـ”الكورونا السوداء” زوجة “سلمان بك” ليكون “كريم” أنموذجا سلبيا هابطا للدكتور الأكاديمي الذي يوظّف معرفته ووعيه وموقعه لاستغلال طالباته في الجامعة. وما يستوقفنا في البناء الروائي لرواية “شرفة الهاوية” ـ حسب الناقد عبدالله رضوان ـ هو التدوير الزمني في بعديه الإيقاعي والدلالي، فالرواية تكشف تراجع قيمة الإنسان باعتباره قيمة مطلقة لا يجوز المس فيها ليصبح مجرد ذات تابعة لا قيمة لها يسهل إلغاء وجودها تماما عبر القتل إذا تجاوزت دورها أو تطاولت على سيدها. واعتمد نصر الله في بناء روايته لتقسيمها إلى أربعة أقسام رئيسة ضمن عناوين مركزية: “ذلك الأحمر النحيف الذي اختطف قلب أبي”، و”السعادة السرية”، و”الخروج إلى الداخل”، و”السلحفاة التي فقدت درعها”. لكن مجمل التفاصيل تدور حول الشخصيات الثلاث الرئيسة (سلمان وكريم وديانا) لينتهي العمل بقتل الدكتور كريم وتحوّل مسار الشخصية الرئيسة (سلمان بك) باتجاه مجموعة جديدة تتفق مح التحوّلات الرئيسة في الدولة وتكوين “شلّة” مقربة من القوميين واليساريين والمستوزرين، أي أن النظام ممثلا بـ”سلمان بك” يعيد إنتاج نفسه بنماذج وأيديولوجيات جديدة تنسجم مع تغير مفهوم العداوة/ الصداقة وتوظيف القوميين واليساريين. أما الفساد ومنظومته ممثلا بـ”سلمان بك” فهو القادر على الاستمرار ولو بوجه جديد هذه المرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©