الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الصمت» ناطقاً..

«الصمت» ناطقاً..
9 أكتوبر 2013 21:36
جمال إدريس ما بين “صمت الحملان”، إخراج جوناثان ديم، عام 1991، إلى “صمت” الذي من المنتظر عرضه عام 2015، إخراج مارتن سكورسيزي، يبقى “الصمت” عنواناً جاذباً للعديد من الروائيين، وصانعي الأفلام، قد يراوغ، ويتجاوز أحياناً، لكن تظل المفردة حبلى بالكثير من الحكمة، والحالات، ولها الكثير من الصور المتنوعة، والظلال بدرجاتها، والألوان بأطيافها. صمت سكورسيزي المنتظر مأخوذ عن رواية لـلكاتب الياباني الراحل شوزاكو إندو، وفيها يروي قصة رجل دين عاش في القرن السابع عشر، وسافر إلى اليابان لنشر الإنجيل والبحث عن “المُعلم”، لكنه تعرض، وزميل له، إلى حملة من العنف والاضطهاد. اختار سكورسيزي الممثل الشاب، أندرو جارفيلد، لأداء دور رجل الدين في هذه الدراما التاريخية، مع اليابانيين كين واتانابي وإيسي أوجاتا. سيناريو الفيلم، الذي كتبه جاي كوكس محاط بالكتمان، لكن “الصمت” في الرواية حمل أكثر من معنى، وكان صمت من يمارس العنف والاضطهاد دون صوت ضمير أو عقل، وصمت الساكت عن الحق غير القادر على رفع الصوت في مواجهة ما لا يرضاه، في المجتمع المحيط به، وصمت ضحية الوقائع الصاخبة في أجواء أسطورية تعكس الحياة في اليابان خلال القرن السابع عشر. موسم العام الجاري في أحيان أخرى تكون أجواء الصمت مثقلة بالتوتر والرعب، وإلى درجة قد تتطلب التنبيه على أصحاب القلوب الضعيفة، قبل مشاهدة هذا الفيلم أو ذاك، وهو التنبيه الذي اقترن بفيلم وجد طريقه إلى مهرجانات الأفلام، ويعرض خريف العام الجاري. الفيلم اسمه “من الصمت”، إنتاج أميركي للمثل والمخرج جيريميا سايس، وتدور أحداثه حول رجل مريض كانت مهنته الغوص إلى أعماق البحار، ومع المرض والتقاعد واجه العديد من الصعاب، وداهمته الكثير من الذكريات المرعبة، التي تزداد رعباً بفعل الموسيقى التصويرية المجسدة للصمت وللظلام. أجواء أعماق البحر، وأعماق الإنسان البائس، تخلق حالة من الصمت الرهيب الذي يجعل المشاهد يظن أن الفيلم من أفضل أفلام الرعب، بينما يرى النقاد أن وراء الجودة والإتقان ميزانية إنتاج صغيرة تجعلهم ينتظرون مشاهدة فيلم آخر، للمخرج نفسه، بميزانية إنتاج كبيرة. “الصمت” كان أيضاً عنواناً لفيلم جديد يعرض منذ مايو الماضي في أكثر من دور عرض أوروبية وأميركية، وهو فيلم ألماني، بشريط ترجمة باللغة الإنجليزية، كتب قصته وأخرجه باران بو أودار، بممثلين وفنيين ألمان. تدور أحداث “الصمت” في مدينة يقع على أطرافها حقل من حقول القمح، يشهد وللمرة الثانية خلال عقدين من الزمان، جريمة تبدأ قتل الطفل “سينيكا” البالغ من العمر 12 عاماً، والعثور على دراجته في حقل القمح. قبل 23 عاماً، كان الحقل مسرحاً لجريمة قتل بشعة راحت ضحيتها فتاة صغيرة. عندما تقع الجريمة الثانية يتذكر ضابط تحريات الشرطة المتقاعد “كريشان” الجريمة الأولى التي فشل في العثور على مرتكبها، ويشعر أن الجريمة الثانية من فعل الجاني نفسه، ويقرر رغم تقاعده، أن يعثر على القاتل. ذكريات الجريمة الأولى لا تزال تطارد ضابط الشرطة المتقاعد، وخاصة في حالات صمته وتفكيره في ألغاز الجريمتين. يتجلى الصمت أيضاً، ومنذ البداية، في كل مشاهد حقل القمح الذي يبدو الصمت المحيط به وكأنه صمت الحزين المتألم. ومع تصاعد أحداث الفيلم، وتعاون ضابط تحريات شاب، مع الضابط المتقاعد، تبدأ الخيوط تتضح في الجريمتين، وتتكشف حالات أخرى من الصمت، بمعنى عدم البوح، ولأسباب متعددة غامضة، التي انتابت أسرة الطفل المختفي، والطفلة التي قتلت قبل اختفائه بعقدين، ويتبين أن “الصمت” كان فاعلاً أساسياً في الجريمتين. من مواسم سابقة تساق الحملان إلى المسلخ صامتة، وبالقرب منها تقف الطفلة “كلاريس” صامتة أيضاً، تراقب المشهد وعينها على حمل وديع أحبته ولم تكن قادرة على إنقاذه، أو حتى الاعتراض على ذبحه مع غيره من الحملان، ثم سلخه. يترسخ المشهد الأليم في ذاكرة الطفلة، ويتحول إلى كابوس راح يكبر معها ولا يفارقها، في الفيلم ذائع الصيت المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه من تأليف توماس هاريس. في “صمت الحملان” المنتج عام 1991، والحاصل على العديد من جوائز الأوسكار، تعيش “كلاريس” في عزلة قاسية صامتة، ناجمة عن طفولة بائسة، تتلقى تدريباتها كمحققة في “مكتب التحقيقات الفيدرالية” FBI الأميركي، ويستدعيها المسؤول عن “وحدة علوم السلوكيات”، في مهمة للتواصل مع طبيب نفسي شهير، هانيبال ليكتر، المعتقل في مصحة نفسية، لكونه من آكلي لحوم البشر، ويفضل المخ والكبد، وقد انعكست مهنته على نفسيته فتراكمت السلوكيات الشاذة وحولته إلى حالة إجرامية شرسة وخطيرة، لكنه يمارسها بهدوء، وصمت، وبلمسة رومانسية، وخاصة في تعامله وعلاقته بالمحققة كلاريس التي سعت إليه للاستفادة من “خبراته” للوقوف على أبعاد شخصية إجرامية أخرى، “بافالو بيل” القاتل المتسلسل المهووس الذي لم يعتقل بعد، لكنه أكثر إجراماً في تعذيب ضحاياه من النساء ونزع جلودهن وتعذيبهن قبل قتلهن. تألقت جودي فوستر في دور “كلاريس”، كما تألق أنتوني هوبكنز في دور “ليكتر” وحازا على جائزتين من جوائز أوسكار، ونال مخرج الفيلم جوناثان ديم جائزة أوسكار ثالثة، كما نال كاتب السيناريو جائزة أوسكار رابعة، أما صاحب الرواية الأصلية، توماس هاريس، فقد ذكر في مقدمة الطبعة الثانية لروايته بأنه استلهم شخصية “هانيبال ليكتر” من طبيب مكسيكي اسمه “سالازار”، التقاه أكثر من مرة في أحد السجون، في مدينة “مونتراي” المكسيكية، بهدف الوقوف على صفات سجين آخر متهم بقتل ثلاثة أشخاص. يقول صاحب “صمت الحملان” إن الطبيب “سالازار” كان متوسط الطول، يتميز بأناقة ملحوظة وقدرة فائقة على الحفاظ الدائم على الهدوء. هذه أيضاً كانت من سمات شخصية “ليكتر”، الصامت دوماً، الذي لا يتكلم إلا باقتضاب بالغ، والقادر، دوماً، على نيل مأربه من ضحاياه، في سرعة البرق، وبدون ضوضاء. الصمت، في “صمت الحملان” يتجاوز العنوان الذي يتكئ على المشهد الكابوسي، ليشمل أيضاً ضحية المشهد نفسه “كلاريس” الصامتة عن طفولة عاشتها يتيمة في رعاية أسرة تعيش في مزرعة تساق فيها الحملان إلى الذبح صامتة، وصمتها لا يختلف عن صمت ضحايا قاتل النساء المهووس، وهن يشاهدنه، صامتات، لا زلن على قيد الحياة ولكن تحت وطأة سكرة الموت سلخاً، وهو يصنع من جلودهن ثياباً نسائية تلبية لهوس إجرامي مرضي يعاني منه، وحوله إلى قاتل متسلسل. هذا القاتل نفسه، يمارس شذوذه المرضي في صمت وهدوء مجنونين. نجاح “صمت الحملان” كان دافعاً لإنتاج فيلم آخر مكمل باسم “هانيبال ليكتر”. وكما كان “الصمت” اسماً لأعمال لاحقة، وسيظل، كان أيضاً عنواناً لأعمال سابقة نذكر منها، في الختام، فيلم “صمت” الأميركي الذي أخرجه جون كورتي وعرض عام 1974، بعنوان إضافي هو “جاك المجنون والصبي”. يروي الفيلم قصة الشاب “إريك” المصاب بالتوحد، وقد تاه داخل غابة عندما كان مع أسرته في زيارة إلى المناطق البرية في كاليفورنيا الأميركية. تنظم الأسرة مجموعات للبحث عنه، لكن ناسكاً يعيش معتزلاً في الغابة، ومعروف باسم “جاك المجنون”، يكون أول من يلقى الصبي، لنعيش معهما حالة من الصمت المزدوج: صمت الناسك الذي لقب بالمجنون لأنه يعيش داخل نفسه وعالمه الصامت دون أن يلتفت إلى صخب الآخرين، وصمت الصبي المصاب بالتوحد، الذي يجعله يبدو وكأنه لا يسمع الآخر. ووسط صمت الغابة، ورغم صمت الناسك، وصمت الصبي، تتوالى المشاهد ويحدث التواصل، بشكل مغاير ومختلف عن السائد والمعروف في عالم يعيش الضجيج معظم الوقت، ويحن إلى التواصل وقد لا يجده، ولا يجيد الصمت، بمعناه المباشر: السكون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©