الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوحج بريشة الفنانة الأميركية هانا مازوتو

لوحج بريشة الفنانة الأميركية هانا مازوتو
9 أكتوبر 2013 21:37
عائشة الكعبي أول مرة حدث له ذلك، كاد قلبه أن يتوقف. لكنه تمالك نفسه في آخر لحظة، وقرر أنه واقع تحت تأثير إجهاد العمل المتواصل ليس إلا. ابتلع بضع حبات منومة واستيقظ في اليوم التالي مقتنعا بأنه تخيل أمر اختفائه.. وأن الحمام الساخن الذي أخذه قد أفقده توازنه وبعض وعيه، فهيأ له أن جسمه بدأ يبهت تدريجيا فور خروجه من الحمام، حيث كان يراقب يديه وهي تفقد لونها الحنطي ثم تصبح شفافة كخرقة من الدانتيل الأبيض، إلى أن اختفت تماماً. اليدين.. ثم الرجلين.. بعدها اختفى جذعه بالكامل. وما هي إلا لحظات حتى أصاب رأسه ما أصاب بقية جسمه. كانت فرحته عندما استفاق ورأى جسده من جديد أكثر من فرحة النائم الذي يرى في المنام أنه ميت ثم يستيقظ ليجد نفسه حياً يرزق، وكيف لا يفرح من كتبت له حياة جديدة؟! ما هي إلا بضعة أسابيع، وإذا بالحادثة عينها تتكرر معه. هذه المرة لم يكن مجهداً ولا متعباً، بل استيقظ من النوم مرتاحاً فأخذ حمامه الساخن. ووقف أمام المرآة وقفته المعتادة حين يكون غير مستعجل أو يكون مزاجه رائقاً للغناء والاستمتاع بتصفيف شعره الرطب إلي الخلف. لم يتطلب الأمر سوى دقائق مذ بداية ملاحظته لشحوب لونه، ثم اختفاء أطرافه وأخيرا اختفائه هو بالكامل. دار حول نفسه هلعاً. قطع شقته الصغيرة راكضاً يرتطم بالأشياء لكنه لا يرى أثراً لنفسه في كل مرايا البيت. جاءته فكرة فأسرع إلى المطبخ، أخرج علبة الطحين ورفعها فوق رأسه دالقاً ما بداخلها عليه، محاولاً تغطية أكبر مساحة ممكنة من جسمه. أسرع إلى أقرب مرآة ليرى النتيجة. لكنه ما أن لمح ما بدا في المرآة كالشبح المرقط بلا ملامح حتى تراجع مرعوباً. بكى كالطفل.. صرخ بأعلى صوته. كان عقله كحاسوب أصابه فيروس ففتح كل الملفات والبرامج دفعة واحدة. ألف فكرة كانت تمر برأسه في ذات الوقت دون أن يعقلها. يفكر أحياناً بحلول، وأحياناً بتفاسير، وأحياناً بردود أفعال من حوله، وأحياناً بأشياء لا تتعلق بالكارثة التي هو فيها. وجد نفسه يستلقي في حوض الاستحمام ويفرك جسده بكل ما أوتي من قوه، علَّ الدم يجري في عروقه من جديد ويعيد له لونه. وحين آلمه جسمه من شدة الفرك خرج، واستدرك أنه لم يكن يرتدي ثياباً، فقد يتبيَّن له وجهه لو ارتدى ثيابه. تناول قطعتين من خزانته ولبسهما على عجل. وقف أمام المرآة، فقط ليرى ثيابا منتصبة أمامه وكأنها معلقة في خزانة. جن جنونه وألقى بالثياب على الأرض. قرر تنفيذ الحل الأخير: سوف يخرج عارياً إلى الشارع، لابد أن الناس ستراه وستنكر عليه عريه. وحينها سيشعر بوجوده. اندفع من باب شقته يطوي السلالم طياً، كان الوقت قد تجاوز ساعة خروج الناس إلى العمل والجادة الضيقة تخلو من المارة. تلفت حوله ولم يصدف مرور أي شخص ساعتئذ. وجدها!!.. الدكان الصغير في طرف الشارع. توجه إليه مسرعاً واقتحمه كممثل مسرحي منفعل. كان البائع منشغلا بصف بعض السلع على الرف، وقف هنيهة منتظراً أن يستدير البائع ليكلمه. لكن البائع واصل عمله ولم يبدو أنه شعر بوجوده على الإطلاق. ابتلع ريقه وتمتم: سلام.. وانتظر.. انتظر دون ردة فعلٍ من البائع على الإطلاق. قالها مجدداً بصوت أوضح: سلااام.. طامة أخرى حلت عليه. لم يكن صوته مسموعا للآخرين أيضاً. صرخ بأعلى صوته: أنا هنا.. أنا موجود!! لم يلتفت البائع لصراخه، إلا حين ارتطمت يده بصفٍ من العلب المعدنية وأوقعها أرضاً. جاء البائع بكل هدوء وبدأ يرتب العلب من جديد. لم يكن يصدق ما يراه، ظل يحملق في البائع حتى ولج زبون للمحل، واذا بالبائع يترك ما بيده ويتوجه لتحية الزبون. أمسك رأسه بكلتا يديه، وتداعى في زاوية المحل منخرطا في بكاءٍ مرير يبدو أن الرجلين لم يسمعا منه شيئاً. حين هم الزبون بالمغادرة تعثر بقدمه وكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقفه البائع، وداعبه قائلا: على مهلك. ابتسم الآخر وانصرف دون أن يهتم لمعرفة سبب عثرته. خرج من الدكان، كان بعض الصبية يلعبون أمام مدخل بنايته. مرَّ من بينهم عارٍ تماماً.. شتمهم بأقذع الألفاظ. دون أن تصدر عن أيهم أدنى التفاتة. كان باب شقته لا يزال مشرعا كما تركه. وبالكاد كانت قدماه تقوى على حمله. بحث عن الحبوب المنومة. أخذ ثلاثاً منها وخر نائماً على الأريكة بعدها بقليل. كانت تلك المرة الثانية، وبلتأكيد المر للواقعة الأولى التي أدرك أنها ستتكرر. لم يكن يعلم ما الذي يحفزها أو يسببها لكنه ربطها بالاستحمام. لذا حين استيقظ ليجد نفسه مرئيا بعد الحادثة الثانية، قرر تفادي الاستحمام، استطاع الصمود لمدة أسبوع. بعدها قرر أن يستحم ليس لأنه لا يستطيع العيش بدون استحمام، ولكن لأمل كان يداعب نفسه بأن ما حصل كان مجرد كابوس مزعج ولن يتكرر. قرر المجازفة. وإن حدث ما يخشاه فعلى الأقل سيكون هذه المرة أكثر استعداداً لوقوعه. خرج من الحمام وجلس عاريا على طرف السرير، مقابلا ًمرآته الطويلة. مترقبا الخوف الذي قد يداهمه في أي لحظة. وحدث ما كان يخشاه. بدأ لونه يبهت.. بدأ طيفه في المرآة بالتلاشي.. اختفى كلية بعدها بدقائق. بكى كثيراً، بل انتحب. كسر المرآة، ثم استلقى على ظهره وفكر: هل أتصل بأختي الكبرى لأخبرها ما حل بي؟! هي الوحيدة المتبقية لي من أسرة حصدها الموت سريعاً. تمنى الموت على أن يكون هذه حاله. هل يخبر صديقته؟! هل ستتفهم؟! هل يعري نفسه أمامها بإشراكها في مصابه؟! لم يكن في حالة تسمح له باتخاذ قرار، وحين أدرك ذلك قرر أن يفكر في هذا لاحقاً بعد عودته إلى حالته الطبيعية. اذ يبدو أن النوم هو الحل الوحيد لظهور جسده من جديد. لكنه لن ينم الآن.. فقد كان غاضبا ًجداً.. لماذا هو بالذات من حلت على رأسه هذه المصيبة العظيمة؟! في تلك الأثناء كان صوت الصبية يتعالى من أطراف الشارع. ضحكاتهم وصيحاتهم الساخرة كانت تستفزه. هذا الإزعاج هو آخر ما يحتاجه الآن وهو في هذه الحالة. رأسه يكاد أن ينفجر. سيؤدبهم وينفِّس عن غضبه. نزل مسرعاً إلى الشارع حيث كان الصبية يهمون بلعب مباراة كرة قدم ولا زالوا منشغلين بتقسيم الأدوار. وقف خلفهم مباشرة. صاح فيهم: توقفوا يا كلاب! لكنه بكل عريه وغضبه كان غير موجودٍ بالنسبة إليهم. شتمهم. شتم آباءهم وأمهاتهم. لكن أحداً منهم لم يشعر بوجوده. استشاط غضباً فركل أحدهم بقدمه. سقط الصبي على وجهه، لكنه سرعان ما استدار ونهض لينقض على الصبي الآخر الذي كان يقف بجواره. التحم الاثنين في عراكٍ دامٍ، وهب الصبية يحاولون التفريق بينهم. فجأة.. شعر براحة شديدة. ابتسم، ثم ما لبث أن غمره شعور عارم بالضحك. ضحك عالياً.. لم يستطع التوقف عن الضحك.. ثم بدأ بالغناء. غنى بصوتٍ عالٍ يطغى على صوت الشتائم المنهمرة من أفواه الصبية.. ثم توقف فجأة.. فقد خطرت له فكرة ما..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©