الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حلقات متصلة من الكاتب إلى الجمهور

حلقات متصلة من الكاتب إلى الجمهور
17 فبراير 2010 20:28
تحاول هذه المداخلة أن تقترب من تصور استراتيجي لمستقبل المسرح في الإمارات، يستلزم خططا تكتيكية وتنفيذية لتحقيق هذا التصور الاستراتيجي على الأرض. تتأسس استراتيجية الإبداع المسرحي في الوعي بقيمة المسرح كفضاء حواري، ينبذ المونولوج الذاتي، ويتجاوز حدود الحوار اليومي، ليبدو كمؤسسة ديمقراطية تطرح الرأي والرأي الآخر، فتلغي التجمد وتصور امتلاك اليقين الكامل، وتربي بالعقل فضيلة الاعتراف بوجود الآخر واحترام عناصر قوته، فضلاً عن فضيلة التعبير عن الذات بصيغة حوارية وصورة حضارية تقوم على التعاون بين فريق العمل الجمعي لخروج العرض المسرحي إلى النور، وتلقى استجابات المتلقين أيضا بصورة جمعية لا يتحقق الإبداع المسرحي دونها. ولهذا فلابد من غرس الفن المسرحي في المدرسة منذ الصغر، وإدخال دراسته ضمن المناهج التعليمية، وصولا إلى الجامعة، ليس بهدف خلق كوادر تعمل بالمسرح، بل من أجل بناء جمهور يتذوق فيه الطبيب والمهندس ورجل الأعمال فن المسرح ويترددون على فضاءاته، وعيا بقيمه الفكرية والجمالية، وليس باعتباره وسيلة ترفيهية فقط، وهو ما قد ينعكس بالضرورة على سلوكهم الديمقراطي في المجتمع. المبدعون يحتاج العرض المسرحي لمجموعة من المبدعين الذين ينجحون في التعبير عن واقع مجتمعهم بموهبة عالية وحرفية قادرة على تحقيق المتعة والإفادة لمتلقيها في المجتمع الإماراتي، والذي تشير بوضوح ورقة العمل إلى أنه (مجتمع عمل) “مركب من مجموعة كبيرة من الجاليات العربية والأجنبية” فضلا عن المواطنين الأصليين، غير أن المهم هو أنه مجتمع “تتجاور فيه كل الجنسيات دون أن تتعايش مع بعضها”، مما يعنى أن لدينا عدة ثقافات متجاورة على ساحة الحياة الإماراتية، تقف في قلبها، أو يجب أن تقف الثقافة الإماراتية، وذلك لأن الوافد مهما كان عمق ثقافته، يبقى وافدا، وإن كان لابد من فرز مجموعة الثقافات المتواجدة (تجاورا دون ذوبان) ومدى تأثيرها على النشاط المسرحي ومبدعيه سلبا وإيجابا، وهذا يتطلب دراسة سوسيوثقافية خاصة، تضع هذه الثقافات المتجاورة أمام المخطط، لمعرفة: ـ ثقافة المواطن الأصيل: وهي بالضرورة ثقافة عربية ذات جذور تاريخية، وعمق تراثي، وبالضرورة أيضا مختلطة مع ثقافات تاريخية أحاطت بالمنطقة. ـ ثقافة الوافد العربي: لمعرفة المشترك تاريخيا وثقافيا مع ثقافة المواطن الأصيل، وكذلك المختلف الذي يمكن الاستفادة منه في تأصيل الظاهرة المسرحية، والمختلف الآخر الذي قد يعوق هذا التأصيل. ـ ثقافة الوافد غير العربي: والذي نعتقد أن غالبيته من الهند وجنوب شرق آسيا، والذي لا يتقن اللغة العربية، التي سيقدم بها المسرح الإماراتي، وقد تجذبه العروض الغنائية الاستعراضية. هذه الهوية العربية هي التي تعني أن مسرحنا في أبوظبي كتّابا ومخرجين وصناع عرض عليه أن يعرف أنه يعبر عن مجتمعه العربي ويخاطبه في ذاته، وما بين (التعبير) والتوجه تبرز عناصر الإبداع التالية: المؤلف المسرحي كان ازدهار المسرح العربي في ستينيات القرن الماضي (في مصر وسوريا ولبنان) نتيجة لظهور الكاتب المسرحي في مصر وسوريا المتمرس على صياغة نص عربي متكامل البناء، منذ بداية المعرفة بالمسرح الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر، بداية من “مارون نقاش” و”أبو خليل القباني” مرورا بتوفيق الحكيم وأحمد شوقي وعزيز أباظة وعلى أحمد باكثير، وصولاً إلى كوكبة كتاب الخمسينيات والستينيات من نعمان عاشور والفريد فرج وسعد الدين وهبه وميخائيل رومان ومحمود دياب وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور إلى آخر هذه الكوكبة من الكتاب الذين أعادوا صياغة “سبك الذهب الإفرنجي في هيئة عربية”، ولهذا فإن تكوين الكاتب الدرامي المسرحي له أهمية كبرى في تأصيل الظاهرة المسرحية في أبوظبي ودولة الإمارات، والأمر لا يتوقف عند حد الموهبة واجتهاد صاحبها في مجال المعرفة المسرحية، بل هو يتجاوز ذلك إلى ضرورة خلق بناة مسرح من الكتاب الواعين بالحرفة، وهذا يتطلب ما يلي: 1 ـ إرسال البعثات من الشباب الموهوب للدراسة الأكاديمية بمعاهد المسرح في القاهرة ودمشق والكويت وتونس، لامتلاك حرفة الكتابة الدرامية للمسرح. 2 ـ الاستفادة من تجربة المسرح في سلطنة عمان، حينما استقدمت أوائل ثمانينيات القرن الماضي الكاتب المصري “منصور مكاوي” لصياغة الموضوعات التاريخية والحكايات التراثية العمانية في نصوص مسرحية قدمت للمواطن العماني، مثل مسرحية “الوطن” التي تدور حول تاريخ عمان في ظل الاحتلال البرتغالي، وأخرجها المصري د. مصطفى حشيش، ومسرحية “الطير المهاجر” عام 1983 وتتحدث عن شخصية الفنان العماني “سالم بن راشد الصوري”، واقترح فكرتها وأخرجها أول مخرج عماني محترف وهو “محمد سعيد الشنفري”، وهو ما يمكن أن يحدث في أبوظبي ولكن من خلال ورشة كتابة يشرف عليها كاتب مخضرم ومتخصص أو أكثر في تدريس حرفية الكتابة للمسرح، تنتهي بنص درامي مكتوب عن هموم إماراتية، وبلغة فصحى مخففة، دون أن يفقد المذاق الخاص للحياة في أبوظبي، ويخاطب الذائقة الخاصة بالمواطن الإماراتي الأصيل، والمواطن العربي الوافد. 3 ـ إقامة مسابقة للنص الدرامي المسرحي، تكون جائزتها إنتاج النص الفائز بفضاء المسرح، بشرط أن يتوافر فيه الموضوع المحلي المرتبط بتراث المنطقة وأفقها العربي المتسع، واللغة السهلة على اللسان الناطق والمفهومة من الجمهور المشاهد، بالطبع كل ذلك في بناء درامي متماسك وقابل للعرض المسرحي. الفنانون والصنّاع ونقصد بهم المخرج والممثل ومصمم السينوجرافيا ومجموعة الفنيين الذين يتحملون اليوم مهمة أكبر من مجرد نقل نص الكاتب سمعيا ومرئيا بفضاء المسرح، بل إبداع مواز لإبداعه، يتطلب ثقافة ووعيا وحرفة وفهما لإمكانات المسرح والميديا الحديثة بصورة متكاملة، ومن ثم لابد من إعدادهم داخل مؤسسة مسرح أبوظبي حين تكاملها، باستضافة مجموعة من المتخصصين في الإخراج وتصميم وتنفيذ السينوجرفيا والإضاءة وإدارة المسرح لعمل ورش تنتهي دوماً بعمل محقق على المسرح، وأيضا إرسال المتميز منهم لبعثات عربية وأجنبية. الإبداع هو المادة الأساسية التي يقوم عليها الفن المسرحي، والمكون من نص درامي ورؤية إخراجية تقود مبدعي العرض من ممثلين ومصممي سينوجرافيا وموسيقى لصياغة بناء مرئي سمعي بفضاء المسرح. وتكشف غالبية الدراسات المتعلقة بالتأريخ للمسرح العربي، والخاص بازدهار هذا المسرح في عقد الستينيات وقبله وبعده، عن أن هذا الازدهار قام أساساً على أكتاف (الكاتب الدرامي) الذي عبر عن مجتمعه بصورة نقدية، جعلت من المسرح (برلماناً) للمواطنين، يناقشون داخله كل قضايا المجتمع، ويهبون إليه لأنه يلمس العصب العاري من عقولهم، والذي للأسف الشديد تضاءل وجوده وأهميته في ساحة الإبداع، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، حينما وفدت إلينا مع تيارات التجريب المختلفة فكرة أن العرض المسرحي ليس بحاجة لنص متماسك، وأن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي، وأدواته كثر، منها النص الدرامي، وليس هو ركيزته، مما أدى الى عدم ظهور أجيال جديدة في حقل الكتابة الدرامية للمسرح، وتوجه المواهب الشابة للكتابة في حقل الدراما التلفزيونية، الذي مازال للنص المكتوب (السيناريو) أهميته في الإبداع الدرامي، مما يتطلب إعادة التأكيد على أهمية إبداع النص المسرحي، ومد جذوره في التربة التراثية لمجتمعه، وامتلاك مبدعه لثقافة تتأسس على النصوص التقليدية الأولى في العالم، وفهم أبنيتها المختلفة، ودراسة المدارس الإبداعية المختلفة من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وتعبيرية وغيرها، فبدونها لا يمكن إبداع نص حديث أو حتى حداثي. المؤسسة الإنتاجية وهي في حدود المتحدث عنه اليوم (مسرح أبوظبي) الذي يقترب من عامه الرابع، مزوداً بأحدث الأجهزة السمعية والبصرية الرقمية، ويتبع نادي تراث الإمارات، الذي يعمل بدوره على نشر وترسيخ التراث العربي في دولة الإمارات، بما يتلاءم مع طبيعة العصر ومتطلباته، جامعاً بين التأصيل والتحديث، اللذين يعنيان أن يكون الإنتاج المسرحي في جوهره تراثياً ممتد الحضور زمانياً منذ القدم حتى يومنا هذا، وأن يكون صياغة حداثياً لا ينفصل عن إبداع المجتمعات العربية والدولية التي تعيش داخل كون منفتح على بعضه، وتواجه تحديات آنية واحدة، بمعنى ألا ينغلق الإنتاج المسرحي داخل المكان فتنقطع علاقته بزمنه، وألا يذوب في زمنه، فيفقد علاقته بمكانه وأرضه وناسه. من منظور خارجي، لا تتوافر أمامه كل فاعليات مؤسسة مسرح أبوظبي، نرى أهمية تفعيل هذا الدور، لخلق (مؤسسة مسرحية) متكاملة الصياغة، تكاد تقترب من النموذج الذي قدمه المخرج الإنجليزي العالمي “بيتر بروك” في (المركز الدولي لأبحاث المسرح) الذي أسسه في باريس عام 1971، ويتكون من مركزين أحدهما للبحث العلمي عن ماهية المسرح وأفضل سبل إبداعه وتواصله مع جماهير مختلفة الأعراق والثقافات، والآخر للإبداع مهمته الاستفادة من نتائج أبحاث الأول وتقديمها في عرض إبداعي جماهيري، ويضم المركز جماعات أثنية وثقافية مختلفة، يعد المركز نقطة لقاء وانطلاق لها للبحث عن مسرح إنساني شامل، وهو ما يمكن أن يكون (مسرح أبوظبي) على شاكلته، فيعمل على دراسة الواقع المجتمعي الإماراتي، وتراثه العربي، ليحقق ما يلي: إنتاج عروض مستمرة داخل مواسم ثابتة، مثل موسم شتوي يمتد لنحو ثمانية أشهر؛ من أكتوبر إلى مايو، يتم فيه تقديم أربعة عروض متنوعة المدارس من إنتاج المسرح، يمكن أن يكون أحدها من إخراج مخرج محترف من خارج الإمارات، وأربعة عروض أخرى مستضافة من دولتين عربيتين ودولتين أجنبيتين. دعم الفرق المستقلة والخاصة، إذا كانت موجودة، أو العمل على حث الشباب على تكوينها، بحيث يمكن عرض عدة عروض من هذه الفرق بالتوازي مع عروض المسرح والعروض المستضافة، وفق برنامج يحدد منذ البادية. إنشاء ناد للمسرح تكون مهمته في المرحلة الأولى عرض أسبوعي لمسرحية مسجلة بالفيديو أو مصورة سينمائيا، من العروض المشهورة عالميا (مثل البؤساء الذي قدمه مسرح وينز بلندن The Queen’s Theatre وحقق شهرة كبيرة في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي) والعروض التي شاركت في المهرجانات العربية مثل دمشق والقاهرة وقرطاج وفازت بجوائز، وكذلك المسرحيات التي تم تصويرها سينمائيا كمسرحيات مصورة (مثل مارا ـ صاد لبيتر بروك) ومناقشتها مع الجمهور، لتعميق الثقافة المسرحية لدى مبدعي وجمهور المسرح. الجمهور يعيدنا الحديث عن الجمهور إلى ما طرحناه حول التعدد الثقافي للقاطنين في الإمارات، مما يتطلب دراسة دقيقة للمشترك والمختلف بيت هذه الجماعات العرقية والثقافية المتجاورة، وفهم جوهر تعاملها مع الاحتفاليات الدينية والشعبية التي تمارسها، بما فيها تجمعها في صلوات الجمع والأعياد، والملابس التي ترتديها، والطقوس التي تقوم بها، والعمل على مسرحة هذه الطقوس في عروض مسرحية، تجذب هذه الجماعات وتصهرها في بوتقة الإبداع الجمعي، وهو ما يتطلب أن يصاحب كتاب ومخرجي وصناع المسرح مجموعة من الباحثين في مجالات الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتراث الشعبي، بإدراك أن غرس الظاهرة المسرحية في وعي الجماعة الشعبية يحتاج لجهد علمي وإبداعي مشترك حتى يحقق المطلوب منه، فيصير المسرح غذاء يوميا، واحتياجا معرفيا وجماليا لابد من السعي لامتلاكه. د. حسن عطية عميد المعهد العالي للفنون المسرحية (أكاديمية الفنون) ـ القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©