الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

فيلم «السيد لزهر»: قلب مضيء في عتمة المنفى

فيلم «السيد لزهر»: قلب مضيء في عتمة المنفى
15 أكتوبر 2011 01:15
(أبوظبي) - هل يمكن لأربع وتسعين دقيقة ـ كزمن قياسي لفيلم روائي طويل ـ أن تختصر لنا حياة كاملة، وسيرة فائضة، من البؤس والتمزقات والمرارات التي لا تخلو بدورها من بعض المباهج والأفراح والانتشاءات العابرة؟ وهل يمكن لهذا الحيز الزمني المكثف أن يصطحبنا ويمتد بنا طويلاً وبعيداً نحو طفولتنا الشخصية المرتبطة بفصول الدراسة، ويرتحل أيضاً إلى ذاكرتنا الغائمة والموغلة في الضباب والغفلة والنسيان، كي تتولد وتتحقق من خلال نظرتنا المنقلبة إلى الداخل؟ كل هذه الأسئلة الوجودية المحيرة تتمحور حول قلق الهوية ورعب المنفى وعزلة الذات وسط عالم موحش ومتوحش وملوث بسوء الفهم، والحكم على الآخرين اعتماداً على أصولهم العرقية ومرجعياتهم الاثنية، هذا الحكم الذي لن يستند أبداً في مسوغاته ومبرراته على وضوح الحقيقة وعلى حيادية المنطق. إنها أيضاً المجابهات الصادمة والعنيفة مع الذات والآخر التي يضعها أمامنا المخرج الكندي الشاب فيليب فالاردو في فيلمه الروائي الطويل: “السيد لزهر” والذي دشن مساء أمس الأول عروض مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الخامسة بالمسرح الخارجي لفندق فيرمونت (باب البحر) بأبوظبي. فيلم “السيد لزهر” سبق له الفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان لوكارنو السينمائي في سويسرا قبل أشهر قليلة من الآن، وسيكون من ضمن الأفلام المنافسة على جائزة أفضل فيلم أجنبي في الدورة القادمة من احتفالية الأوسكار، وهو مؤهل لنجاحات مدوية في مهرجانات قادمة، ولعل اختيار إدارة المهرجان لهذا الفيلم بالذات كي يفتتح عروضه جاء من منطلق البحث الجمالي والإنساني عن جذور المعاناة البشرية المتمثلة في صراع الهويات وتطاحنها وسط مجتمعات مختلطة بأجناسها وحائرة أيضاً في تحديد طرق تواصل مناسبة مع الآخر أو مع الغريب الذي يفد إليها، ويجد نفسه محاطاً بالشكوك والتوجسات، خصوصاً إذا كان موطنه الأصلي أرضاً ومنبعاً للإرهاب والحروب والمحرمات ـ حسب تفسير أيديولوجي بائد وحسب وجهة نظر معاكسة ومشوشة من الطرف المقابل ـ وهذا الاختيار الفني لفيلم مفعم بالمشاعر المتداخلة وبالتأويلات المتعددة يؤكد قدرة الصورة السينمائية في تذويب حواجز ذهنية واجتماعية صلبة وهائلة تقف في وجه التناغم الكوني والتواصل السلس والشفاف الذي يجمع بين الأفراد المتمايزين شكلاً ولوناً، وبين البيئات والحضارات المختلفة في ظاهرها والمتوحدة في جوهرها الإنساني الصرف. طيف المعلمة يبدأ فيلم “السيد لزهر” على مشهد لطلاب صغار في إحدى مدارس مدينة مونتريال الكندية، ومن خلال لقطة علوية توضح لنا الحضور القاسي والكئيب لفصل شتاء، نرى مجموعة من الطلبة موزعين على الساحة الخارجية وكأنهم في حالة انفصال كبير رغم اجتماعهم في مكان واحد، ولن يمهلنا الفيلم طويلاً كي نشتبك بصرياً وروحياً مع فضائه المأساوي الصادم، عندما يتسلل الطفل (سايمون) ـ يقوم بدوره إيميلون نيرون ـ إلى الردهة الداخلية للمدرسة كي يأخذ صندوق الحليب لأصدقائه في الساحة، وعندما يطل من الباب الموارب على غرفة الدراسة يفاجأ بمشهد مروع لمدرسة اللغة الفرنسية وهي معلقة بحبل وسط الغرفة، مشهد الانتحار هذا سوف يصدم طفلة أخرى في المدرسة هي (آليس) ـ تقوم بدورها صوفي نيليس ـ والموت الاختياري هنا رغم أنه تجسّد في لقطة خاطفة وسريعة، مثل الشهقة الأخيرة للميت إلا أنها ستكون اللقطة المحورية للفيلم برمته، وستكون حاضرة مثل طيف سميك وثقيل في كل تفصيلة قادمة وفي كل مشهد يطل علينا في الزمن المتبقي من الفيلم. وستكون كل هذه المشاهد بمثابة درس تشريحي في كيفية مزج اللقطات وفصلها وتوزيعها بشكل ممنهج حتى تصل فكرة الفيلم إلى المتفرج، من دون خطابات مباشرة، أو حوارات وعظية زائدة، وكأن بالمخرج يسعى وبكتمان متعمد إلى تمزيقنا من الداخل ليشعرنا بحجم الألم الذاتي المكدس والصارخ في نفسيات الشخوص التي يضعها أمامنا بكل ما تحمله من أسرار ميول وهواجس. ورغم أن الفيلم يبدو ظاهرياً وكأنه مغلف بهدوء بصري ذي منحى أفقي يعززه هذا السرد المتمهل والصبور، إلاّ أنه وفي العمق ينطوي على أحاسيس هائجة وضارية تصل لحدود الكارثة واللعنة والخراب المهيمن على الروح. إنه فيلم قائم تماماً على دراسة الشخصية والدوافع المحركة لها كي تكون في الوضع الحرج الملتبس الذي يصنع أزمتها الدائمة، اعتماداً على ظروف ومسببات قاهرة لا يمكن التحكم بمساراتها العبثية والخطرة في أغلب الأحيان. ..وحضور الجزائري تتكون هذه المسارات وبكامل قسوتها الخفية والمندسة عندما يأتي المدرس بشير لزهر ـ الجزائري الأصل ـ كي يعوض الفراغ الذي تركته المدرسة المنتحرة (مارتين لا شانس) التي يسخر الأطفال من اسمها لأنه يعني بالإنجليزية (مارتين غير المحظوظة)، يأتي لزهر ويقدم أوراقه لمديرة المدرسة التي توافق على تعيينه دون مماطلة حتى تسد الفجوة النفسية الكبيرة التي تركها الغياب المأساوي للمعلمة المنتحرة، يجابه المدرس الجديد ومنذ يومه الأول بتحديات خارجية صعبة، وبأسئلة داخلية أكثر صعوبة حول الأسباب التي دفعت المدرسة مارتين لاختيار غرفة التدريس مكاناً لانتحارها، يتمثل التحدي أيضاً في رغبة لزهر القوية في دفع الطلبة إلى تخطي هذه التجربة المريعة والغامضة بالنسبة لهم، ورغم الملاحظات العنصرية التي يبديها الآباء تجاه أسلوبه في التعليم، ورغم امتعاض المديرة من بحثه عن مسببات الانتحار، إلا أن لزهر يصر على أسلوبه التربوي المختلف الذي يميل للهوى الشرقي وتغليب العاطفة وأساليب الترغيب والتوبيخ المتبعة في بلده. وفي منحى درامي مفاجئ، يكشف لنا المخرج سبب اهتمام لزهر بدوافع انتحار المدرسة، عندما نكتشف أنه بانتظار موافقة السلطات الكندية على منحه حق اللجوء السياسي، بعد أن ماتت زوجته وابنه في حادث حريق متعمد في بلده الجزائر أثناء الأزمة الداخلية في التسعينات، وانتحار ابنته في الحادثة ذاتها عندما رمت بنفسها إلى الشارع خوفاً من أن تلتهمها النيران، فهذا التراكم الكبير من الأسى الداخلي سوف يدفعه للبحث عن علاج سلوكي ونفسي متبادل بينه وطلابه المتأزمين مثله، والذين يمكن للمسة حانية أو شحنة عاطفية وجوّانية دافئة أن تعيد لهم الصفاء المفتقد والسوية النفسية التي باتت ذاوية ومعطّلة. امتاز فيلم “السيد لزهر” بالأداء السلس والهادئ والعفوي للممثل الجزائري محمد فلاق الذي تمكن من نقل حطامه الداخلي وحزنه المتواري إلى ملامحه وتصرفاته المصرة على تجاوز محنته الشخصية، ومجابهة فضاء النبذ والإقصاء المحيط به والذي يجعل من وطأة الهجرة والاغتراب والمنفى أكثر شراسة من وطأة الذاكرة الجريحة والنازفة فيه، أما الطفلة صوفي نيليس التي قامت بدور آليس فقدمت أداء مذهلاً ومتفوقاً، خصوصاً في المشهد الذي اعترفت فيه بمدى إحساسها بالفقد مع غياب المدرسة مارتين، وإصرارها في الوقت ذاته على أن المدرسة مكان جميل وسيظل جميلاً رغم الحزن المهيمن عليه، واستطاعت من خلال تماهيها مع حس البراءة المعذبة للأطفال أن تلامس هذا الوتر الرهيف الذي يرنّ في دواخلنا عند مرورنا بحوادث مأساوية فادحة، لا نريد أن نستذكرها، ولكنها تظل وعلى الدوام مثل الموجة السوداء والماكرة التي تعصف بنا دون رحمة أو أمل. عموماً، فإن فيلم “السيد لزهر” يقدم درساً سينمائياً مجانياً في كيفية التعامل مع المواضيع التراجيدية، من دون إفراط في الشرح الدرامي والسردي للحالة التراجيدية نفسها، لأنه وببساطة يمكن للصورة الموحية والدالة وحتى في أكثر لحظاتها سكوناً وصمتاً أن تشفينا من علة الاختلاف والارتياب والأنانية التي تضعنا خلف جدران عالية ومغلقة ومقيتة من سوء الفهم والخوف من الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©