السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شبكات المثقفين السرية

شبكات المثقفين السرية
8 أكتوبر 2015 08:09
في عام 1945، كانت أوروبا مدمرة بفعل الحرب، مما جعلها تصبح رهان صراعات التأثير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللذين رغبا في السيطرة على العالم. ولكي توقف تقدم الأحزاب الشيوعية في أوروبا، قادت حكومات الولايات المتحدة، بدءا من عام 1947، سياسة تدخلية معتمدة على الخدمات السرية، وعلى وجه الخصوص وكالة المخابرات المركزية «سي آي ايه» C.I.A.. يتعلق الأمر بتنمية جماعة من النخب المناصرة للولايات المتحدة، من خلال مشروع مارشال، بالتناوب في فرنسا مع مفوضية بلان، ومن ناحية أخرى تمويل المثقفين المناهضين للشيوعية. خلال خمسة وعشرين عاما، جندت منظمة حرية الثقافة، المثقفين وأسست شبكات متينة للتدخل في أوروبا، تحديدا في فرنسا، البلد الموسوم كهدف أولي لواشنطن. صمدت هذه الشبكات حتى تفسخها وأعيد تجديد نشاطها من قبل إدارة بوش. اليوم، تمثل «المربط» الأوروبي للدبلوماسية الثقافية للمحافظين والليبراليين الأميركيين الجدد، التابعين لنفس صفوف منظمة حرية الثقافة. ولادة منظمة تأسست منظمة حرية الثقافة في يونيو 1950 في برلين، في المنطقة الخاضعة تحت السيطرة الألمانية. السكرتير العام، ملفين لاسكي، صحافي نيويوركي يقيم في ألمانيا منذ نهاية الحرب. مناضل يساري معاد للستالينية، رئيس تحرير مجلة «الشهر» Der Monate، وهي مجلة صدرت في 1947 بفضل الدعم الذي قدمه مكتب الحكومة العسكرية للولايات المتحدة وتحديدا بفضل الجنرال لوكيوس كلاي، حاكم المنطقة الخاضعة للنفوذ الأميركي في ألمانيا. مدعوما من قبل مجلس لا حكومي ومستقل، عمل ملفين لاسكي على تجميع المثقفين الليبراليين والاشتراكيين في منظمة فريدة، منظمة «عالمية» مضادة للشيوعية. تضمن مجلس الدعم شخصيات مثل الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، الاشتراكي ليون بلوم، كتاب مثل آندريه جيد وفرانسوا مورياك، جامعيين مثل ريمون آرون ومثقفين أميركيين أمثال جيمس بورنهام وسيدني هوك، وهما من أبرز منظري نيويورك ثقافيا. ركيزة آيديولوجية ارتكنت منظمة حرية الثقافة على بيان، وهو كتاب «الثورة الإدارية» لجيمس بورنهام الصادر في 1941. ساعد هذا الكتاب على ظهور آيديولوجيا جديدة: البلاغة التكنوقراطية. في مواجهة فلسفة التاريخ الماركسية، التي ترتكز على صراع الطبقات، ركز جيمس بورنهام على الإخفاق الاقتصادي والآيديولوجي للاتحاد السوفياتي وأعلن صعود «عصر المنظمين». حسب أفكاره، في الشرق كما في الغرب، هناك طبقة جديدة متحكمة ضمنت ضبط الدولة والمؤسسات، وهذه الطبقة هي طبقة المديرين، التي وضعت بطريقة جديدة الفصل بين رأس المال والعمل. إذا، دحض بورنهام، بصورة غير مباشرة، أطروحات فلسفة التاريخ الماركسي (بالتأكيد على أن التفرع الثنائي رأس المال/‏ أجر تم تجاوزه) وبعد انتصار الديموقراطيات البرلمانية (بذريعة أن القرار يمضي من البرلمان إلى المكاتب). في الواقع حلت طبقة جديدة من التقنيين والمديرين محل السياسات والملاك التقليديون. بفضل هذه النظرية، بدون أي جهد يذكر للحكومة التكنوقراطية «الجماعية» في الثلاثينيات، أصبح الناطق الرسمي للرؤية المستقبلية البديلة، «الذي لا ينتمي إلى اليسار ولا إلى اليمين» حسب تعبير ريمون آرون. وهو ذا الموضوع: تعبئة، في الحرب المضادة للشيوعية، المحافظين، ولكن على وجه الخصوص مثقفي اليسار اللاشيوعي. هذه الأطروحات غير اجتماعية في المسار الاجتماعي للمؤلف. ابن مدير شركة سكك حديدية، بعد انتهائه من دراساته في أوكسفورد وبرنستون، انضم جيمس بورنهام إلى تأسيس مجلة «سيمبوزيوم». هجر النظرية التومائية (نسبة إلى فلسفة توما الاكويني اللاهوتية والفلسفية)، واهتم بترجمة العمل الأول لتروتسكي «تاريخ الثورة الروسية». قابل سيدني هوك، وانخرط معه في الحركة التروتسكية مع تأسيس «حزب العمال الاشتراكي» في عام 1937. بعد مرحلة نضالية (انتسب وقتها إلى الأممية الرابعة)، أفضى نقاش مع تروتسكي إلى تحوله السياسي. في عام 1950، انضم إلى تأسيس منظمة الثقافة العالمية في برلين، حيث اهتم بموقع قراري مهم حتى نهاية الستينيات. ومع ذلك، رغم التزامه في شبكات المنظمة «المفخخة»، فقد موقعه الجامعي خلال المرحلة المكارثية بسبب ماضيه الثوري. بلاغة الطريق الثالث بلاغة الطريق الثالث («نهاية الآيديولوجيات»، «الجدارة التقنية للموجهين») تضم- في كافة دول أوروبا الغربية - جماعات سياسية تم توظيفها لخدمة أنشطة المنظمة، لإعداد آيديولوجيا مضادة للشيوعية مقبولة في أوروبا من قبل اليمين المحافظ واليسار الاشتراكي والإصلاحي. في فرنسا، هناك ثلاث تيارات سياسية ساهمت مع المنظمة: مناضلو الآر دي آر RDRالسابقين (روسيه وآلتمان)، مثقفون ديغوليون من مجلة «حرية الفكر» أمثال آندريه مالرو، والفيدراليون الأوروبيون. أعدت العقيدة الرسمية للمنظمة من قبل مثقفي نيويورك. انتشرت مطبوعاتهم في الدول الأوروبية بواسطة عابرين «للأطلسي» ضمنوا وظائف «المربط» كريمون آرون، الذي ترجم عصر المنظمين، جورج فريدمان الذي تناول بدوره أطروحات دانيال بل، مؤلف «نهاية الآيديولوجيا» المنشور في عام 1960... في فرنسا، كان العابرون، تحديدا، من المثقفين المهمشين في الفضاء الجامعي، مركز الدراسات السوسيولوجية مثل أحد أماكن التجنيد للمنظمة، في إطار مفوضية بلان. عرض المخططون، في الواقع، الأبحاث على اقتصاديين وسوسيولوجيين بهدف تجنيدهم لكي يشرعنوا قراراتهم. ادغار موران، جورج فريدمان، اريك دو دامبيير، باحثو مركز الدراسات السوسيولوجية، حضروا حفل المنظمة في عام 1960. مثقف من الجيل الأول ريمون آرون، المنضوي في نشاطات المنظمة حتى فضيحة 1967، مستورد أطروحات مثقفي نيويورك. ترجم في 1947 كتاب «عصر المنظمين» لصديقه جيمس بورنهام (الطبعة الأولى منه صدرت بمقدمة الاشتراكي ليون بلوم) وأسس انتشار نظريات الطريق الثالث. بعد نشره «الإنسان ضد الطغاة» في عام 1946 و»الانشقاق العظيم» في عام 1948، وهما يعتبران بياني المحافظين الفرنسيين، انخرط ريمون آرون في شبكات المنظمة منذ إنشائها في عام 1950. منخرطا بقوة في بنياتها التنفيذية، كما ميشال كولينيه ومانيس شبربر، عرف ريمون آرون كواحد من المنظرين الكبار «للأممية» المضادة للشيوعية. في عام 1955، في مؤتمر ميلانو، كان واحدا من خطباء حفل الافتتاح، مع هوغ جايتسكل وميكائيل بولاني وسيدني هوك وفريدريش فون هايك. في نفس العام، أصدر «مخدر المثقفين»، نص مستلهم من أفكار جيمس بورنهام، أنكر فيه حيادية مثقفي اليسار اللاشيوعي. وفي عام 1957، حرر مقدمة «الثورة الهنغارية، تاريخ الهبة» لملفين لاسكي وفرانسواز بوندي، الشخصيتين البارزتين في المنظمة. صانعة المثقف ميشال كروتسيير، مفتاح آخر، من الممكن أن نعتبره كمنتوج مصنوع من قبل شبكات المنظمة، التي دخلها في نهاية عام 1950، مسعاه على رسم طرق استعمال المثقفين الشباب في إطار الدبلوماسية الثقافية الأميركية. في بداية الخمسينيات، كان كروتسيير مثقفا شابا معروفا بفضل ما لاقاه مقاله المنشور في «الأزمنة الحديثة»، التي كان سارتر يديرها عصر ذاك، من نجاح. في هذا المقال «هندسة الإنسان»، جابه المؤلف بعنف «النيو ديل»، مدينا تجنيد العلماء ومنكرا وسائل الهيمنة. المقال، أساسا، «مضاد للنزعة الأميركية»، غارقا في اليسارية. فضلا عن ذلك، انتسب كروتسيير إلى جماعة «اشتراكية أو بربرية» التي كان يقودها كورنيليوس كاستورياديس، وأسس «عدالة الشعب»، مجلة عالم ثالثية، التي كان التروتسكي الفرنسي دانييل جيران يدعمها. في عام 1953، قطع ميشال كروتسيير علاقته مع شبكات التروتسكية الفرنسية وانضم إلى جماعة «فكر» حيث نشر مقالا نقد فيه انتلجنسيا اليسار. هذه القطيعة كانت مدفوعة بمقابلته في عام 1956 بدانيال بل، المندوب الباريسي للمنظمة، والذي أهداه منحة دراسة في ستانفورد. في عام 1957، انضم إلى فرع المنظمة بفيينا، ومداخلته حول النقابية الفرنسية نشرت في «أدلة». منخرطا في شبكات العابرين، انضم ميشال كروتسيير إلى لجان التحديث وأصبح واحدا من المنظرين الكبار مع ريمون آرون «للطريق الثالث». حرر جزءا من بيان «نادي جون مولان»، وهو عبارة عن اتحاد يجمع شخصيات قريبة من المخططين (جورج سوفرت، جون ريبرت، كلود جروسون). هذا النص يلخص بوضوح الأسطر الجوهرية للدعاية عن «الطريق الثالث»: نهاية الآيديولوجيات، العقلنة السياسية، انتماء العمال إلى إدارة المؤسسة، تنشيط العمل البرلماني وإعلاء التكنوقراط... في عام 1967، بفضل دعم ستانلي هوفمان (متعاون مع مجلة «فكر» ومؤسس «مركز الدراسات الأوروبية»)، جند كروتسيير في هارفارد. قابل هنري كيسنغر وريتشارد نويشتاد، المستشار السابق لترومان، ومؤلف الكتاب الذي حقق أعلى مبيعات «قوة الرئاسة». عبر وسيط النادي الذي نظمه نويشتاد، تردد كروتسيير على جو بوير، حامي ماكجورج بوندي، رئيس أركان كينيدي وجونسون ورئيس طاقم موظفي مؤسسة فورد. بعد فضيحة 1967، عمل ميشال كروتسيير، المثقف «المناصر لأميركا»، الذي صنعته المنظمة، على إعادة بناء تنظيم معاد للشيوعية. فضيحة التمويل في عام 1967، انفجرت فضيحة تمويل منظمة حرية الثقافة جماهيريا، وسط حرب فييتنام، بفعل وسائط الإعلام. منذ عام 1964، نشرت «النيويورك تايمز» تحقيقا عن مؤسسة فيرفيلد، الممول الرئيسي للصناديق الرسمية للمنظمة وعلاقتها بال»سي آي ايه». في هذا الوقت، أزمع مكتب الاستعلامات الأميركي، عبر الوسيط جيمس آنجلتون، على مراقبة ميزانية المنظمة. قام مديرو المنظمة «بتطهيرها» بمساعدة مؤسسة فورد التي اضطلعت منذ عام 1966 بغالبية التمويل. بصدد إعادة ترتيب التنظيم، اقترح ماك جورج على ريمون آرون العمل على إعادة بناء المنظمة، غير أن الأخير رفض خائفا من أصداء الفضيحة المترددة في أوروبا. في هذا العام، أثار مقال منشور بمجلة «رامبارتس»، رغما عن التشهير الذي نظمته الخدمات السرية، موجة من الفضائح غير المسبوقة في تاريخ منظمة حرية الثقافة. توماس برادن (الذي تقلد السي آي ايه في عام 1950، لكي ينظم التقسيم العالمي لمعارضة الشيوعية) أقر بتمويل المنظمة في مقال يحمل عنوانا موحيا «أنا فخور بأن السي آي ايه غير أخلاقية». بعد أحداث مايو 1968، رجع جون - جاك سيرفان - شرايبر، أحد أبرز شخصيات نادي جون مولان ومؤلف الدراسة الذائعة الصيت ما وراء الأطلسي («التحدي الأميركي» الصادرة في عام 1967 والتي حققت أعلى المبيعات في حينها)، رجع إلى برنستون كشبه رئيس للدولة (...) وهو مندهش للغاية. «ميشال كروتسيير مشغول بتحرير نتائج ندوة برنستون عن الصحافة العالمية (...) ندوة برنستتون هي أول اجتماع للجمعية العالمية». بدءا من 1973، قلل ماك جورج بوندي تدريجيا من أنشطة مؤسسة فورد في أوروبا. فقدت الجمعية بريقها في أوروبا وكفت عن الوجود (رغم خلق تنظيمات موازية) في عام 1975، تاريخ توقيع اتفاقيات هلسنكي. على نفس خطى خطة مارشال، اللجنة الأوروبية لأوروبا الفيدرالية والجناح العسكري (ستاي - بهايند) Stay- Behind، ساهمت منظمة حرية الثقافة في توطيد ـ في سياق الحرب الباردة - عملاء تابعين للولايات المتحدة في أوروبا من أجل تحقيق دبلوماسية التدخل التخيلي لواشنطن. إنه دعم يتتابع حتى اليوم عبر وسيط المساعدات التي تقدمها مؤسسات الولايات المتحدة إلى مثقفي الطريق الثالث الفرنسي. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة الأميركية شبكة من النخب الثقافية المناصرين لسياستها ولمواجهة التأثير السوفياتي في أوروبا.. مولت الولايات المتحدة منظمة حرية الثقافة، التي مر عليها عدد لا بأس به من المثقفين الأوروبيين، كان من بينهم في الصف الأول ريمون آرون وميشال كروتسيير. خلال الحرب الباردة، انشغلت هذه الشبكات في تهيئة آيديولوجيا مضادة للشيوعية مقبولة في أوروبا من قبل اليمين المحافظ واليسار الاشتراكي والإصلاحي، وجددت نشاطها عبر إدارة بوش. اليوم، تمثل «المربط الأوروبي» للمحافظين الجدد الأميركيين. «مارشال» الاقتصادي والسياسي مشروع مارشال هو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947 والذي أعلنه بنفسه في 5 يونيو من ذلك عام (1947) في خطاب أمام جامعة هارفارد وكانت الهيئة التي أقامتها حكومات غرب أوروبا للاشراف على إنفاق 12.9925 مليار دولار أميركي قد سميت «منظمة التعاون والاقتصادي الأوربي» وقد ساهمت هذه الأموال في إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية. لقد تحركت يومئذ الإدارة الأميركية، ومعها البرجوازيات الأوروبية واليابانية، في اتجاهين: 1- مشروع مارشال لإعادة بناء رأس المال في أوروبا عموماً، بهدف إيقاف المدّ الثوري التحرّري في المقام الأول، وخاصة في فرنسا وإيطاليا، وأيضاً بهدف السيطرة على رأس المال في كل من هذين البلدين. 2- إعادة بناء رأس المال في ألمانيا واليابان اللتين تميزت مجتمعاتهما بالضعف النسبي النقابي والسياسي، الأمر الذي كان يعني مردوداً ربحياً أكبر لرأس المال الأميركي وللبورجوازيتين الألمانية واليابانية، ناهيكم عن توفّر القدرة الأكبر للنمو والتوسع في هذين البلدين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©