الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

تركيا هل تعيد حساباتها حيال الأرمن

30 يناير 2007 02:26
أنقرة - سيد عبد المجيد: لماذا العجلة أيها القاتل؟ ألا تنتظر قليلا حتى يحل إبريل، فيه تفعل فعلتك البغيضة، وبالمرة يكون الصراخ والعويل الذي تعودت عليه البلاد مرة واحدة في السنة بدلا من مرتين· كلمات بليغة مفعمة بالإثارة قيلت تعليقا على اغتيال الصحفي ''هرانت دينك'' وجاءت على لسان رجل بسيط لا علاقة له بالسياسة وأهلها، بيد أنه بالكاد يقرأ صفحات الرياضة متتبعا أخبار ناديه المحبوب ''بيشتطاش'' ''الحجارة الخمس''· ففي الأحوال العادية تتعرض تركيا في كل عام، ومع بداية الربيع لامتحان الأرمن، والذي تبلغ ذروته في الرابع والعشرين من إبريل، والذي يتوافق مع ذكرى المذابح التي تعرض لها الآلاف من الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى· ولأنها قضية مزمنة، فالواضح أنه لا شاطئ لها قريب أو مرفأ، بل العكس هو الصحيح، بمعني أن تظل النار مشتعلة· وحتى وإن هدأت فثمة جمر تحت الرماد ينتظر لفحة هواء بسيطة كي ينفجر من جديد، فها هو مدافع عن أرمن تمت أبادتهم قبل أقل من مائة عام ( 1915) يدفع حياته ثمنا ليس لدفاعه عن الأرمن الذي يفسر دائما بأنه ضد القومية التركية بل لأن ''هرانت دينك'' في الأصل ارميني ولم يشفع له أنه ولد في تركيا وحمل جنسيتها مثله مثل الخمسة والثمانين ألفا من الأرمن الذين يعيشون في فضاء الأناضول هذا على مستوى الداخل· أوروبا المتحفزة دوما أما على صعيد الخارج فالأزمة الأرمينية تبدو مروعة، بيد أن ''الإنسانية عليها ألا تنسى مأساة الآلاف من الأرمينيين الذي سقطوا أثناء الحرب العالمية الأولي'' على حد تعبير الرئيس الأميركي جورج بوش قبل أقل من عام، مع ملاحظة أن الولايات المتحدة الأميركية هي الأكثر تعاطفا مع أنقرة مقارنة بالغرب الأوروبي بيد أن الأخير - المتحفز دائما - يشترط اعتراف تركيا بتلك المذابح قبل سعي أنقرة للعضوية الكاملة بالنادي الأوروبي· من هنا بدا ''دنيز بيكال'' زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، محقا حينما قال تعليقا على حادث مقتل الصحفي التركي، بأن الحادث مقصود لتشويه صورة تركيا في العالم· ومن فرط صدمته أكد ''رجب طيب اردوغان'' رئيس الحكومة أن هناك في الخارج من يريد إحراج تركيا بهدف تعطيلها عن الركب الأوروبي· وعلى الرغم من وجود أصوات أدانت العمل الهمجي إلا أنها في الوقت نفسه أبدت تحفظها على ثورة الغضب التي اجتاحت أوروبا التي بدت من وجهة نظرهم غير منصفة فكم من الأفلام التركية التي راحت في جرائم مماثلة أشد قسوة ودموية لم تلق هذا الصخب رغم أنها كانت تنادي بنفس قيم الغرب وهي الحق والعدالة والحرية فضلا عن إيمانها بأن الأناضول جزءا لا يتجزأ من أوروبا· المؤامرة لن تجدي فهل هي مؤامرة تحاك ضد الشعب التركي؟ سؤال تصدر أحاديث قطاعات من الناس في أركان الأناضول والتي لم تخل بدورها من مرارة وتوجيه اتهامات لأعداء تركيا· فتارة تسمع أصواتا غاضبة تندد بالحاصل في شمال العراق، وما تقوم به الفصائل الانفصالية التي لا تريد سوى تفتيت وحدة الأناضول واتهامها بالسعي إلى زرع فتنة بينهم وبين أوروبا· قطاعات أخرى لم تستبعد ضلوع قوى متطرفة بأوروبا نفسها بوقوفها وراء مقتل ''هرانت دينك'' بهدف تكريس الصورة الهمجية للأتراك والتي لم تتغير منذ القرون الوسطي في الذهن الأوروبي· لكن هيهات فلا أحد على ما يبدو في القارة العجوز على استعداد لسماع اتهامات من هذا القبيل والمصوغات في هذا الشأن عديدة ودامغة: فالذي حاول اغتيال البابا يوحنا الثاني قبل عقدين كان تركيا قوميا متطرفا، واغتيال الراهب الكاثوليكي في ''طرابزون'' شمال الأناضول كان على يد متعصب للقومية الطورانية· أما مصوغات الأتراك، فهي عديدة أيضا، وتتمثل في وقائع اغتيال عدد لا بأس به من الدبلوماسيين الأتراك على يد منظمة أصالة الأرمينية المتطرفة في حقبتي السبعينيات والثمانينات، فلا فائدة منها، أضف إلى ذلك التراشق بكلمات كالمعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين فهذا هو الآخر لا طائل منه، كذلك لن يجدي نفعا القول إن أيادي الأرمن ملطخة بدماء أبرياء من الشعب التركي فضلا عن تواطئهم قبل ثلاث قرون مع الإمبراطورة ''كاترينا'' في روسيا القيصرية في التنكيل بالعرق التركي فيما يعرف الآن بدول وسط آسيا، والخلاصة أن السيف الأوروبي منذ زمن ليس بقريب خرج من غمده وعلى ورثة الإمبراطورية العثمانية أن يعترفوا بما اقترفته أيادي الأجداد في حق الأبرياء من الشعب الأرميني!! أزمة مع كل ذكري وهكذا لا تمر ذكرى المذابح مرور الكرام، فلابد من أزمة تضاف إلى أزمات البلاد، فبلدان عديدة تنتهز المناسبة لصك قانون يحمل الأتراك وزر هذه المأساة الدامية، وقبل شهور تسممت العلاقات التركية الفرنسية ومازالت المحنة التي تعرضت لها لم تنتهي تداعياتها حتى اللحظة بسبب مشروع قانون لا يحمل الأتراك وزر الإبادة الجماعية بل إدانة كل من ينكر هذه الإبادة وهو ما اعتبر هنا في تركيا مسرحية فرنسية عبثية تضاهي عبثيات الايرلندي الشهير ''صامويل بيكت'' ورغم ذلك فمن المحتمل أن تؤدي ''الفعلة الشنيعة'' على حد تعبير الرئيس الفرنسي جاك شيراك والتي أودت بحياة دينك إلى أن يصبح المشروع قانونا مع الذكرى القادمة، وبالتالي فالشعب التركي سيكون مطلوبا القبض عليه وليت الأمر يقتصر على ذلك فحسب بل قد يدفع العديد من البلدان المترددة إلى التخلص من ترددها هذا وسن قوانين على غرار فرنسا وغيرها من البلدان تدين تركيا وتحملها مسؤولية قتل ما لا يقل عن مليون ونصف المليون أرميني· لكن هذا المشهد السوداوي لم يخل من مزحة تندر بها الأتراك على مدار الأيام الماضية، وملخصها ما جاء على لسان وزيرة خارجية اليونان بـ''أن مقتل الصحفي الأرميني ينسف جهود تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي''·· وكأن الأخيرة كانت على وشك إعلان قبول أنقرة لتصبح العاصمة رقم 28 التي يرفرف علمها في سماء العاصمة البلجيكية بروكسل· تعالوا إلى كلمة سواء حسنا فعل رئيس الحكومة حينما ذهب إلى البطريرك الأرميني في اسطنبول ليقدم واجب العزاء في الصحفي ''هرانت دينك''، ومن خلال نفس الباب الذي خرج منه الروائي التركي ''أورهان باموك'' والذي كاد يسجن بسبب تعاطفه مع الأرمن دخل فيه رئيس الحكومة ''اردوغان'' ليفعل نفس الشيء الذي فعله الحائز على نوبل بأن قدم عزاءه الحار لأسرة الصحفي الفقيد· وحسنا ما فعلته وسائل الإعلام (مسموعة ومرئية ومقروءة) وجميعها اعتبر الحادث إهانة كبرى لتركيا، وطعنة نجلاء في قلب الديمقراطية· في المقابل لا بد أولا من إعادة النظر في المادة 301 التي تمثل سيفا مسلطا على رقاب الصحفيين والكتاب ومنعهم من مناقشة قضايا مازال الحديث فيها من الكبائر وعلى رأسها مذابح الأرمن، فقبل شهور هاج القوميون المتعصبون ضد أليف شافاك الروائية التركية لنفس السبب الذي راح من اجله ''هرانت دينك''· إن الملة الواحدة، والقومية الواحدة، واللغة الواحدة ليست مبررا لوأد الماضي وعدم مناقشة أحداثه، أن الدماء التي أريقت في ''شيشلي'' تلك الضاحية الراقية باسطنبول تكشف بوضوح أهمية التوصل إلى حل للمعضلة الأرمينية حتى لا يصطاد البعض في المياه العكرة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©