السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كيف نسمّي هذه «الأمريكا»؟

كيف نسمّي هذه «الأمريكا»؟
16 فبراير 2017 16:10
ما يثيره الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» من اهتمام أميركي وعالمي لا يقتصر على الأبعاد السياسية والاستراتيجية التي وعد بها جمهوره أثناء الحملة الانتخابية، وإنما تستدعي خطاباته السابقة وقراراته الاستعجالية، التي اتخذها بمجرد دخوله البيت الأبيض، مساءلة المضامين الثقافية التي تحتوي عليها. ذلك أن أغلبية المثقفين والفنانين والإعلاميين والقضاة الأمريكيين يعتبرون أن هذا الرجل تمكن من صياغة خطاب «ديماغوجي» عن «شعب أسطوري»، وعن الأولوية المطلقة لأمريكا، وعن «عظمتها»، ولأجل إعادة بناء هذا «المتخيل» انخرط في حرب شعواء ضد النخب، بكل تخصصاتها ومجالات اشتغالها، وضد المهاجرين، والأقليات، والنساء. يلاحظ بعض المختصين في شؤون الولايات المتحدة الأميركية أن صعود «ترامب» تساوق مع تحولات بنيوية كبرى شهدها المجتمع، وتبدلات عميقة في القيم، حيث أصبح لممثلي الأقليات حضور ظاهر في المجال السياسي، وللنساء أدوار لافتة، كما أعطت هجرة مواطني أميركا اللاتينية وآسيا للنسيج المجتمعي الأميركي تعبيرات ثقافية متنوعة ومتعددة. وزاد من توجّس شرائح واسعة من الأميركيين البيض، صعود رجل أفريقي الأصل إلى قيادة أميركا لولايتين، مما ولّد لديهم إحساسا قويا بفقدان المكانة والسلطة. وقد تبين هذا التوجس في الموقف الرافض، بشكل علني أو متستر، لتبوء امرأة المسؤولية الأولى في البلاد. ولعله من بين أسباب التشنج الذي بدأ به «ترامب» عهده، يتمثل في نسيانه - أو استخفافه حتّى - أنه أصبح رئيسا للجميع بعد انتخابه، وأصر على إصدار قرارات في منتهى السرعة للبرهنة على أنه يحمل مشاريع سياسية واقتصادية وثقافية مناقضة تماما لعهد «أوباما». الأمر الذي دفع مؤسسات وهيئات وجمعيات إلى التحرك للاحتجاج على هذه القرارات، ومقاومة ما يعتبره الكثيرون طعنا للدستور الأميركي وللثقافة الأميركية التعددية. وفي هذا السياق لم يتردد وزراء العدل في 16 ولاية يوم 29 يناير من إصدار بيان إدانة للأمر التنفيذي الذي يحظر «ترامب» بموجبه سفر رعايا سبع دول إسلامية، حيث اعتبروا أن هذا الأمر «يتعارض مع الدستور ومع قيم أميركا... وعلى الحكومة الفيدرالية أن تخضع للدستور، وأن تحترم تاريخنا كأمة تأسست على الهجرة وأن لا تسقط أحدا فقط بسبب جنسيته وإيمانه». كما تعبأ عدد لا بأس به من القضاة لجر «ترامب» إلى المحاكمة، حيث أعلن المدعي العام لولاية واشنطن، يوم 30 يناير، رفع دعوى قضائية ضد الرئيس بسبب الأمر التنفيذي بمنع دخول رعايا 7 دول إسلامية لأمريكا. قرار يضرب مفهوم الحرية لا يتعلّق الأمر بمساجلات قانونية وسياسية، فقط، وإنما باعتبارات تهمّ المفهوم العميق للحرية التي بدأ «ترامب» يتضايق منها، كما تمس الأسس الثقافية التي بُني عليه التنوع الأميركي، في أبعاده الرمزية، والجنسية، والإثنية، والدينية. وهذا ما يشكل مصدر حيرة للعديد من الناس، حيث تتوزع المرء مشاعر متناقضة حيال الولايات المتحدة الأميركية، وتتداخل في مخيلته صور الحرية، وثقافة المبادرة والإبداع، والتقدم، والاقتدار الهائل على استقطاب كفاءات العالم وإنتاجاته الرمزية، مع صور العنف، والتفاوت، والعدوان، والغطرسة، ولغة التهديد. فجاذبية أميركا لا تقل سطوة على المرء من مشاعر النفور مما سببته وتسببه لأكثر بقع العالم من مآس ومظالم. مشاعر متناقضة ومستويات إدراكية يتشابك فيها ما تمت مشاهدته من صور أمريكية، وما تمت قراءته من قصص وروايات وكتب، وما حصل الاطلاع عليه من دراسات وتحاليل عن أشكال حضور أميركا في العالم، وأنماط تدخلها فيه، وطرق فرض هيمنتها عليه. لم تعد الولايات المتحدة الأميركية في موقع امتلاك القدرة الاستثنائية على فرض حقيقتها الوحيدة في العالم، بعد التحولات السياسية والاستراتيجية في السنوات القليلة الأخيرة في العالم. هل سيخضع هذا الواقع لتبدلات ريح آتية، مع النزوعات الملتبسة للرئيس الجديد المنتخب؟ لا أحد يمكن أن يتكهن بذلك مهما كانت قدراته على التنبؤ، كما لم يكن أحد يتوقع سقوط الاتحاد السوفييتي، وانسحابه من التوازن الدولي بتلك السرعة والتفكك الدراما تيكي.... كانت أميركا هي من يشرع للحرب وللسلم في نفس الآن، في أكثر بقع الأرض أهمية. هناك من كان يعبر عن بعض المقاومة، الخجولة أو الجسورة، حسب الدول والمصالح والجهات، وهناك من يذعن لمنطق الأمر الواقع الذي فرضته أميركا في علاقاتها الدولية وتعاملها مع المؤسسات الأممية. ومهما كانت القيم التي رفعتها الولايات المتحدة الأميركية والمبادئ التي قالت بها، في كل المراحل التي قطعتها طيلة القرن العشرين وفي بداية هذه الألفية، فإن المصلحة هي المحرك المطلق لتحركاتها ولقراراتها، ولاشيء آخر غير المصلحة. فالعقل البراجماتي تكوَّن لكي يجد كل المسوغات الممكنة والمتخيلة للقول بالمصلحة في كل معانيها وأبعادها. هل لأن أميركا بنت مصيرها على المستقبل في غضون أكثر من قرنين من تاريخها الرسمي يجعلها في منأى عن أي ارتباط قدسي بالماضي، كما هو الشأن بالنسبة للأمم التي تملك تاريخية تراثية ثقيلة؟ أم أن تكوينها الاجتماعي والإثني والثقافي، المخترق بكل أشكال الاختلاف، جعل من الانتماء السياسي قاعدة جوهرية لتشكيل الهوية الأميركية. المصلحة أولاً هذه هي أميركا، بلد نقائض ووطن مفارقات، والعقل الأميركي، في الأول والأخير، لا تزعجه الأخلاق. فأمام المبادئ والمصلحة لا يتردد لحظة واحدة في اختيار الأخيرة، حتى ولو كان ذلك على حساب ترسانة من الالتزامات والتعهدات. داخل المجتمع الأميركي أديان وعقائد وطقوس، ولكل إثنية مرجعياتها وأعرافها وأشكال التعبير عنها. لكن العقل الأداتي، المنظم والمسير لمؤسسات الدولة، لا يعير أية أهمية للدين والأخلاق والقيم. فالدولة منفصلة، دستوريا، عن العقائد الدينية، وهي تعبر عن الوحدة القومية وتدافع عن «الطريقة الأميركية في الحياة»، من خلال حماية المصالح الكبيرة للفئات المالكة لوسائل التمويل والإنتاج. ولا يضيرها في شيء أن حصل ذلك على حساب شعوب أخرى، أو على حساب فئات داخل المجتمع الأميركي نفسه. هذا ما ولد بؤرًا للتوتر وحالة دائمة من الصراع، ومواجهات تتخذ في كل مرة طابعًا مختلفًا، ترجع تارة لأسباب إثنية أو ثقافية أو دينية، وتعود تارة أخرى لأسباب اجتماعية أو نفسية أو سياسية. كل شيء مركب في المجتمع الأميركي من جراء التكوين الفسيفسائي لنسيجه العام، إلا أن الأساس المركب يختزن كثيرا من عناصر التفجر، تعبر عن نفسها في شكل نزاعات دائمة يعجز النظام القضائي الأميركي على حلها، وإن وجد لها حلولا فإن ذلك يستغرق وقتا طويلا تتحول فيها طول الفترة إلى عامل إضافي لتعميق النزاع وتعقيد الحلول. ومن البديهي أن النزاع يسكن في صلب كل جماعة بشرية وأَحْرى إذا كان الكيان مؤسسا، في جوهره، على التنوع والتعدد الإثني، والثقافي والديني. والنزاع شيء طبيعي طالما أن الأمر يتعلق بعلاقات قد تكون متكافئة أو مختلة التوازن، لكن حين يغدو النزاع عنيفًا ويتحول إلى صراع تضطر فيه الأطراف المتنازعة إلى تعبئة قوتها على المساومة ودورها السياسي، وخزانها الرمزي في المواجهة، فإن القضاء بمؤسساته لا يستطيع، دائما، مواكبة حجم النزاعات ولا طبيعتها ولا النتائج المترتبة عنها. لهذه الأسباب فرَّخت في أميركا مراكز ومؤسسات كثيرة لحل النزاعات. كل أشكال النزاعات، من المدرسة إلى الأسرة إلى الخلافات الإثنية والاجتماعية، إلى الصراعات المهنية والمؤسسية، إلى النزاعات الوطنية والدولية. أضحت مراكز حل النزاعات تجارة تدر الأرباح، وتتعاقد معها مؤسسات الدولة والخواص، سواء بإنجاز بحوث أو تدريب وسطاء، أو توظيف حكام أو التدخل لحل النزاع. مجتمع منتج للمفارقات، ومنتج بالموازاة مع ذلك، لآليات التخفيف من حدتها، لكن ما مدى قدرة هذه الآليات على احتواء النزاعات؟ وماهي الأسس السياسية الكامنة وراء إرادة تسييس أو حل النزاعات؟ وهل النزوعات التمييزية التي يحملها الرئيس «ترامب» لا تحمل في ذاتها عوامل تؤجج من التوتر والمواجهة؟ قد يكون من قبيل تحصيل القول إن تاريخ الوجود البشري اقترن، في جوهره ومساره، بالنزاع والصراع والتوتر. تنقص نسبة الصراع ودرجة التوتر أو تتأجج. يأخذ النزاع أبعادًا درامية أو يتم تقليصه في صيغ من التعايش الهش. المهم أن العلاقات بين الأفراد، والفئات، والجماعات، والشعوب، والدول، والكتل، تسكنها النزاعات في كل مستوياتها ومراحل تطورها. وما دام الإنسان لا يكف عن التعبير، بكل الوسائل، عن رغبته في السيطرة والتحكم، وترتيب شروط المصلحة والتملك، فإن ذلك يكون حتمًا، على حساب الآخرين، الأمر الذي يولد ردود أفعال ومقاومات، وميولات للدفاع عن الذات والمحافظة على وجودها. خزّان نزاعات إن النزاع تعبير عن علاقة بين جماعتين أو أكثر، تعمل الواحدة منها في اتجاه السيطرة على الحقل الاجتماعي، أو على المواقع الاقتصادية والاستراتيجية لعلاقتهما. ينتج عن ذلك حالات من الصراع، ولحظات من التوتر، تتصاعد وتخفت حسب موازين القوى، ونوعية الثقافة السياسية المؤطرة لنمط العلاقات والتبادل. تسكن النزاعات كل مجالات الحياة لدرجة يغدو فيها، أحيانا، عامل تنشيط للعلاقات العامة. لكن حين يتخذ النزاع طابع العنف، فالأمور تختلف جذريًا، حينذاك يفترض العنف آليات خصوصية لتسييره، ولضبط تجاوزاته، ويستلزم شروطا معقدة لإنهائه والتحكم في مصادره. لكن هل يمكن التعلم من النزاع دون اللجوء إلى العنف؟ وماهي الطرق الممكنة للتعامل مع تعبيرات الخصومة، أو صور العدو، سواء كان حقيقا أو متخيلا؟ وكيف السبيل لإقصاء مصادر العداوة؟ قد يتفجر النزاع بين فئات متعارضة المصالح، وبلدان، وبين أجناس وإثنيات. وقد يتولد لأسباب دينية أو ثقافية.... الخ، ولأن النزاع، كما تمت الإشارة إلى ذلك، ظاهرة يتكرر وقوعها، باستمرار، فإن لكل جماعة آليات تفرزها لحل خلافاتها ونزاعاتها. قد يكون الحل عبارة عن تسوية لتخفيف التوتر، أو ترتيب شروط لخلق التوازن في المصالح والمواقع والأدوار، وقد يفضي الحل إلى بناء أطر مؤسسية ومواثيق تضبط النزاعات، تقننها وتنتج فاعلين اجتماعيين لتسييرها. ونظرا للتركيبة الفسيفسائية للمجتمع الأميركي، وللتاريخ العسكري والصراعي الذي تميز به منذ أن قام على أنقاض الجماعات الأصلية التي كانت تستوطن الأراضي الأميركية منذ قرون، وبسبب التعدد الإثني والعرقي والديني والثقافي الهائل الذي يختزنه النسيج الاجتماعي والثقافي الأميركي، وفي ضوء التعبيرات العدوانية التي تعبر عنها بعض الفئات لإعلان فروقاتها واختلافاتها، ولا سيما حين يتم ترجمة ذلك، بشكل مباشر، من طرف رئيس الدولة.... الخ، فإن مؤشرات عدة تنذر بتنامي النزاعات والصراعات داخل المجتمع الأميركي. ومع ذلك يمتلك المجتمع المدني الأميركي ما يلزم من القدرات لإدانة هذه النزوعات التمييزية والعدوانية، ولمحاصرة وتطويق أسباب النزاعات والصراعات والحد من مضاعفاتها، أو على الأقل لتسييرها، بطرق لا تضر بالجماعات المختلفة داخل النسيج المجتمعي. ولهذا الغرض تكونت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عشرات، إن لم يكن مئات من المعاهد والمراكز والمؤسسات المختصة، بالدرجة الأولى، في ما يسمى ب «حل النزاع». ويبدو أن عهد «ترامب»، إذا ما توفرت له شروط الاستمرارية، يؤشر على تعبئة جديدة لهذه المؤسسات والآليات قصد القيام بدور «الضابط» للتجاوزات العنيفة التي تحصل ما بين الشرائح المكونة للمجتمع الأميركي. كيف نسمي، إذن، هذه الأمريكا؟ وهل لا يزال منا من يتوهم بأنه يمكن تطبيق مقاييسه الخصوصية عليها، أو الحكم على مفارقتها وتناقضاتها انطلاقا من مرجعيته المعيارية الخاصة؟ بلد النقائض هذه هي أميركا، بلد نقائض ووطن مفارقات؛ والعقل الأميركي، في الأول والأخير، لا تزعجه الأخلاق. فأمام المبادئ والمصلحة لا يتردد لحظة واحدة في اختيار الأخيرة، حتى ولو كان ذلك على حساب ترسانة من الالتزامات والتعهدات. داخل المجتمع الأميركي أديان وعقائد وطقوس، ولكل اثنية مرجعياتها وأعرافها وأشكال التعبير عنها. لكن العقل الأداتي، المنظم والمسير لمؤسسات الدولة، لا يعير أية أهمية للدين والأخلاق والقيم. فالدولة منفصلة، دستوريا، عن العقائد الدينية، وهي تعبر عن الوحدة القومية وتدافع عن «الطريقة الأميركية في الحياة»، من خلال حماية المصالح الكبيرة للفئات المالكة لوسائل التمويل والإنتاج. ولا يضيرها في شيء أن حصل ذلك على حساب شعوب أخرى، أو على حساب فئات داخل المجتمع الأميركي نفسه. تركيبة تنتج الصراعات قد يتفجر النزاع بين فئات متعارضة المصالح، وبلدان، وبين أجناس وإثنيات. وقد يتولد لأسباب دينية أو ثقافية... الخ، ولأن النزاع، ظاهرة يتكرر وقوعها، باستمرار، في المجتمع الأميركي، فإن لكل جماعة آليات تفرزها لحل خلافاتها ونزاعاتها. قد يكون الحل عبارة عن تسوية لتخفيف التوتر، أو ترتيب شروط لخلق التوازن في المصالح والمواقع والأدوار، وقد يفضي الحل إلى بناء أطر مؤسسية ومواثيق تضبط النزاعات، تقننها وتنتج فاعلين اجتماعيين لتسييرها. ونظرا للتركيبة الفسيفسائية للمجتمع الأميركي، وللتاريخ العسكري والصراعي الذي تميز به منذ أن قام على أنقاض الجماعات الأصلية التي كانت تستوطن الأراضي الأميركية منذ قرون، وبسبب التعدد الإثني والعرقي والديني والثقافي الهائل الذي يختزنه النسيج الاجتماعي والثقافي الأميركي، وفي ضوء التعبيرات العدوانية التي تعبر عنها بعض الفئات لإعلان فروقاتها واختلافاتها، فإن مؤشرات عدة تنذر بتنامي النزاعات والصراعات داخل المجتمع الأميركي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©