السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تودوروف.. والنزعة الإنسانية

تودوروف.. والنزعة الإنسانية
14 فبراير 2017 23:06
المفكر الذي فارقنا بالأمس القريب شخص محترم. إنه يستحق التقدير ليس فقط لأنه كان ناقداً أدبياً كبيراً، ومفكراً عميقاً، وإنما لأنه كان مفعماً بالطيبة والنزعة الإنسانية. وهذا شيء أغلى من الذهب. إنه أندر مما نتصور. فهناك مفكرون ومثقفون وأكاديميون كبار مثله وربما أكبر منه، ولكنهم ليسوا جميعا إنسانيين أو أخلاقيين أو طيبين. لقد علمنا جان جاك روسو منذ أكثر من قرنين أنه لا توجد علاقة أتوماتيكية بين تزايد المعرفة وتزايد الأخلاق، وذلك على عكس ما نظن، فقد تكون أستاذاً عالمياً شهيراً وأكاديمياً خطيراً وتكون حقيراً على المستوى الشخصي. وقال لنا بأن كل علم الأرض لا يساوي قشرة بصلة أمام الطيبة العميقة والمعدن الشخصي. وقبله علمنا رابليه «أن العلم بلا ضمير ما هو إلا خراب للروح». ومعلوم أن جان جاك روسو هو إحدى المرجعيات الكبرى لتزفيتان تودوروف. فقد كرس له كتابات عديدة ومئات الصفحات. فمن هو تودوروف يا ترى؟ هذا ما سنحاول أن نلقي عليه بعض الضوء هنا. كنت أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا لا أسمع له حساً ولا حسيساً منذ سنتين أو ثلاث سنوات.. أين اختفى؟ ماذا يفعل؟ ما سر هذا الصمت الطويل؟ فقد جرت العادة أن يتحفنا بكتاب جديد وأحياناً كتابين كل عام تقريباً. كما كان يتدخل في القضايا السياسية العامة التي تهز العالم وما أكثرها هذه الأيام. وكان يدلي أيضاً بالمقابلات للصحفيين، إلخ. ولكنه سكت وحيرني سكوته. ثم قرأت مصادفة في إحدى الجرائد الفرنسية أن زوجته الروائية الكندية المعروفة نانسي هوستون تركته بعد عشرة طويلة دامت ثلاثين سنة، وذهبت مع رجل آخر إلى سويسرا. وهو فنان رسام أصغر من تودوروف بعشرين سنة. المهم أن المدام تجدد شبابها. وعاشت معه ولا تزال قصة حب كبيرة. فهل هدته هذه القصة يا ترى؟ هل أثرت عليه؟ لا أستبعد ذلك على الإطلاق. ضعوا أنفسكم مكانه. أقول ذلك وبخاصة أنها أم ولديه، ابنه وابنته. وربما كانت السبب في المرض العصبي الذي أصابه وأودى به. وذلك لأنه كان يحبها على ما يبدو ومتعلقاً بها جداً. هذا ما نلمحه من كلامه عنها في أحد كتبه الذي يشبه المذكرات. العقدة الحقيقية والآن ماذا يمكن أن نقول عن تودوروف؟ لقد قابلته شخصياً مرة واحدة أو مرتين: الأولى في مكتبه بالجامعة، والثانية في بيته. وكان ذلك منذ سنوات طويلة أخشى أن أعدها.. كنت أنا آنذاك مشغولًا جداً بمسائل النقد الأدبي، بل وكرست أطروحة الدكتوراه له تحت عنوان: «اتجاهات النقد الأدبي الحديث بين عامي 1950 – 1975». وهي أطروحة لم تترجم إلى العربية ولم تنشر قط. ولهذا السبب قابلته. ولكن ما كنت أعرف أنه سيحصل لي ما حصل له تقريباً، فأنا أيضاً تخليت عن النقد الأدبي بعد ذلك وما عاد يشبع همومي العميقة. ولهذا السبب انخرطت في الدراسات الإسلامية والفكرية والفلسفية، وأدرت ظهري كلياً للنقد الأدبي. لماذا تخلى تودوروف عن النقد الأدبي الذي برع فيه وشغله طيلة سنوات عديدة إلى درجة أنه كان أحد أقطاب المدرسة البنيوية الفرنسية؟ لسبب بسيط: هو أنه جاء إلى فرنسا من بلد شيوعي توتاليتاري هو بلغاريا. وبالتالي فعقدته الحقيقية كانت الشيوعية، مثلما أن عقدتي الحقيقية أنا هي الأصولية. ولكي يتخلص منها ويفككها راح ينخرط في الدراسات الفلسفية العميقة، ولكنه شخصياً ما كان يحب أن يُدعى بالفيلسوف وإنما بمؤرخ الأفكار فقط. وكان بارعاً جداً في التأريخ للأفكار. وأعترف بأني استفدت منه كثيراً وعاشرت كتبه طويلًا وبمتعة حقيقية. في العام الماضي فقط قرأت له كتابين متلاحقين. فقد كان له صوت دافئ وإنساني حنون تشعر به حتى ولو لم تتعرف عليه شخصياً. وأنا معرفتي به كانت سريعة ومحدودة جداً. وبالتالي فالمعرفة الحقيقية هي معرفة الكتب. المؤلف موجود فيما كتبه. هذا ما سيبقى منه على الدهر اللهم إذا كان كاتباً حقيقياً. كان تودوروف معجباً جداً بالأنظمة الليبرالية الديمقراطية على الطريقة الفرنسية أو الأوروبية الغربية عموماً، ويتحسر لأن أوروبا الشرقية محرومة منها. ولذلك كانت فرحته عظيمة عندما استطاع الهرب إلى فرنسا عام 1963 وهو في الرابعة والعشرين من عمره. وكانت أعظم عندما سقط جدار برلين والاتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي برمته. ويمكن القول بأنه حقق نجاحاً منقطع النظير بعد تركه بلغاريا. فقد استطاع أن ينافس المثقفين الفرنسيين في عقر دارهم، بل ويتفوق على الكثيرين منهم بفضل ذكائه العبقري ونزعته الإنسانية العميقة. وهذا الأمر ليس بالشيء اليسير. بل إنه من أصعب الصعب. فأنت «غريب الوجه واليد واللسان» كما يقول المتنبي. وينبغي أن تغير لغتك لكي تنجح في بلاد الفرنسيين. ومعلوم أن تغيير اللغة لا يقل خطورة أحياناً عن تغيير الدين. إنه يشبه الإعدام للغة الأم، ولكن بما أن اللغة البلغارية ليست عالمية الانتشار كالعربية مثلا فبإمكانك التخلي عنها ولو على مضض لكي تنجح في لغة عالمية كالفرنسية. على أي حال فهو أحد اثنين من المثقفين البلغاريين الذين هجموا على باريس ونجحوا فيها بشكل صارخ: هو وجوليا كريستيفا. لا أعرف شخصاً ثالثاً. هذا ويمكن اختصار تودوروف بمرحلتين أساسيتين: الأولى هي المرحلة البنيوية التي شغل فيها بالنقد الأدبي بشكل رئيسي. والثانية هي المرحلة الفكرية أو الفلسفية التي تلتها وغطت عليها. يلاحظ القارئ على مدار المقال أني أخلط نفسي به أو أحشر حالي حيث لا مكان لي. والسبب هو أنه كان أحد الرموز التي التقينا بها نحن الطلبة العرب الباحثين عن شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي بباريس إبان السبعينات والثمانينات. وبالتالي فأنا لا أقحم نفسي على الموضوع تعسفاً، وإنما لتوضيح الصورة فقط. من الشكلانية إلى العمق أتذكر أني شعرت براحة نفسية كبيرة عندما أصدر كتابه «نقد النقد» عام 1984. وهو يقصد به نقد البنيوية بكل غلاظاتها الحرفية الشكلانية الفارغة التي صدمتني فور وصولي إلى باريس ونغصت عيشي. لقد تحول النقد الأدبي على يديها إلى مجرد معادلات رياضية أو أرقام إحصاء مفرغة من نبض القلب وأحاسيس الوجدان، بل ومفرغة من المعنى أو المضمون. النص لم يعد معنى وإنما شكل فقط. كم هو عدد الأسماء في النص؟ كم هو عدد الأفعال بصيغة الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ كم هو عدد حروف الجر؟ إلخ. ما هذا السخف؟ ما هذا الهراء؟ وهكذا يقطعون النص ويشرحونه تشريحاً حتى يتحول إلى جثة هامدة.. شيء مخيف. بهذا الكتاب أدار تودوروف ظهره كلياً للبنيوية وجفافها القاحل الماحل وانخرط في مغامرة فكرية ضخمة حتى نهاية حياته. وحسنا فعل. فلولا ذلك لما بقي منه شيء كثير. وقد بدأها بكتاب كبير يحمل العنوان التالي: نحن والآخرون الصادر عام 1989. لماذا شغله هذا الموضوع؟ لأنه هو أيضا آخر أو غريب حل في أرض الفرنسيين وأصبح جزءا منهم دون أن ينسى أنه بلغاري الأصل. يضاف إلى ذلك أن مشكلة الأنا والآخر مشكلة عالمية. في عصر العولمة الكونية نحن نختلط بالآخرين كل يوم، ولكن ذكاءه في طرح الإشكالية يكمن في أنه لم يستعرض رأيه الشخصي في المشكلة وإنما آراء كبار المفكرين الفرنسيين، ولذلك فإن العنوان الثانوي للكتاب هو: التفكير الفرنسي حول التعددية البشرية. قبل أن ندخل في صلب الموضوع سنقول بأن رأيه يتلخص بعبارة واحدة: «هناك جنس بشري واحد وثقافات متعددة». وبالتالي فلا داعي للتعصب والتزمت والانغلاق على الذات ورفض الآخر. لا ريب في أنه يحق لنا أن نحب لغتنا وتراثنا العربي أكثر من لغات الآخرين وتراثاتهم. هذا شيء بدهي وتحصيل حاصل، تماماً مثلما يحق للفرنسي أو للصيني أن يفعل نفس الشيء.. ولكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى كره الآخرين، فقد نجد عندهم أشياء جديدة مفيدة يمكن أن نضمها إلى ثقافتنا لكي تغتني بها. وعلى أي حال فلو ولدنا في بلادهم لكنا مثلهم. فنحن أيضا آخر بالنسبة للآخر. وبالتالي فأنا «إنسان بالضرورة ولكن فرنسي بالصدفة»، كما كان يقول المفكر الشهير مونتسكيو. فلو ولدت في اسطنبول لكنت تركياً. هذه العبارة العظيمة تقضي فوراً على كل انغلاق وتفحم التعصب والمتعصبين فلا يحيرون جواباً. في هذا الكتاب الضخم، أكثر من خمسمئة صفحة، يستعرض تودوروف آراء المفكرين الكبار بمسألة الآخر والانفتاح أو الانغلاق عليه. إنه يستعرض نظريات مونتيني، وغوبينو، ورينان، وشاتوبريان، وكلود ليفي ستروس.. إلخ.. كتاب مهم جداً لمن يريد أن يخرج من الانغلاقات الضيقة وينفتح على العالم. الإنسان الغريب أنتقل الآن إلى كتاب آخر مهم لتودوروف بعنوان: الإنسان الغريب، أو الإنسان المقتلع من جذوره. هنا أيضاً نلتقي بنفس الإشكالية: إشكالية الأنا/‏ والآخر، إشكالية الوطن/‏ والمنفى. فهو مقتلع من جذوره البلغارية وملاعب طفولته وصباه وشبابه الأول ومغروس في الأرض الفرنسية. صحيح أنه نجح نجاحاً باهراً، ولكنه يظل في أعماقه شخصاً غريباً. وهذا ليس بعيداً عن أبي تمام: نقل فؤادك ما استطعت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل يقول تودوروف في هذا الكتاب ما معناه: عندما يغادر المرء وطنه، عندما يُقتلع من جذوره، فإنه يشعر بالحزن والحنين، بالألم والعذاب. لم تعد أمامه نفس المشاهد، ولا نفس العادات والتقاليد، ولكن فيما بعد قد يتكشف الاغتراب عن تجربة خصبة ومثمرة، فأنت تتعرف على بلاد أخرى ومناظر أخرى وعادات أخرى، وعندئذ تدرك لأول مرة أن قيم وطنك ليست مطلقة، وإنما نسبية. وتالياً تفهم معنى التسامح وضرورته لأول مرة. عندئذ تفهم معنى العلاقة بين النسبي/‏ والمطلق. ثم يضيف تودوروف: بعد أن انتقلت من بلغاريا إلى فرنسا عرفت أن الأشياء نسبية لأن العادات الفرنسية غير العادات البلغارية. في السابق كنت أعتقد أن جميع الناس ينبغي أن يعيشوا ويتصرفوا ويضحكوا.. مثل البلغاريين. وقد صدمتني العادات الفرنسية لأول وهلة. ولم أتقبلها وأتعود عليها إلا بعد فترة. بعدئذ عرفت أن هناك عادات أخرى في العالم وتقاليد أخرى غير عاداتنا وتقاليدنا. وينبغي أن نقبل الآخر في غيريته واختلافه. ولكن الاغتراب علمني أيضاً معنى المطلق، فالنظام الشمولي التوتاليتاري الشيوعي الذي نشأت فيه وترعرعت كان بالنسبة لي كمعيار نموذجي للشر. من هنا إعجابي الشديد بالنظام الديمقراطي التعددي، بل وحتى انبهاري بالغرب حيث لا يوجد حزب واحد وإنما عدة أحزاب، ولا توجد جريدة واحدة تردد كالببغاوات ما يقوله النظام، وإنما عدة جرائد ومنابر مختلفة ومتنوعة. ولكن فيما بعد اكتشفت مساوئ الغرب ونواقصه، وأخطرها النسبوية الأخلاقية أو بالأحرى العدمية الأخلاقية، صحيح أن الحرية جميلة جداً ولكن الغرب أساء استعمالها وتطرف في الاتجاه المعاكس، ووصل به الأمر إلى حد القول: كل شيء يتساوى مع كل شيء. لا شيء أفضل من شيء. هذه النسبوية العدمية السائدة في الغرب أرفضها رفضاً قاطعاً. كما وأرفض تلك الثنائية القطبية المتطرفة: إما أبيض وإما أسود. أين هو التدرج بينهما؟ أين هو اللون الرمادي؟ أنا شخص يحب الاعتدال ويكره التطرف. خير الأمور أوسطها. ونضيف من عندنا: وهذا هو جوهر الإسلام. مرحلتان يمكن اختصار تودوروف بمرحلتين أساسيتين: الأولى هي المرحلة البنيوية التي شغل فيها بالنقد الأدبي بشكل رئيس. والثانية هي المرحلة الفكرية أو الفلسفية التي تلتها وغطت عليها. أقوال - الحياة تخسر المعركة ضد الموت، ولكن الذاكرة تربح المعركة ضد الفناء. - إذا كنت أتساءل اليوم لماذا أحب الأدب؟ فإن الجواب الذي يخطر على بالي بشكل عفوي هو التالي: لأنه يساعدني على الحياة، على الاستمرار في الحياة. - كيف يمكن أن نفرح بالانتصار على عدو حقير إذا كنا مضطرين لأن نصبح حقيرين مثله لكي ننتصر عليه؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©