الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«الطيب.. الشرس.. والسياسي» بين المألوف والفني

«الطيب.. الشرس.. والسياسي» بين المألوف والفني
16 أكتوبر 2011 09:17
(أبوظبي) - صنع ثلاثة مخرجين مصريين شباباً فيلماً غير تقليدي في شكله ومألوفاً في مضمونه، فأنقذ الشكل ذاك المضمون، ولو بحثنا عن هذا الشكل المبدع لوجدناه يعود إلى المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني في فيلمه “الطيب والشرس والقبيح”. فيلم اعتمد ثلاثة محاور، الشعب الذي وصف بالطيب والشرطة التي وصفت بالشراسة، وحسني مبارك الذي وصف بالسياسي.. علق الروائي المصري سعد القرشي فقال: “هذه التسمية لا تصح.. لأن حسني مبارك ليس سياسياً”. في عنوان الفيلم انحياز إلى الشعب عبر وصفه بالطيب وتوصيف للشرطة عند وصفها بالشراسة، أما السياسي فربما يحمل تهكمية مبطنة بسخرية فاضحة دللت عليها مشاهد هذا القسم والاشتغال على الصفات العشر التي اعتمد عليها الفيلم وكأن الجزء الثالث نص داخل نص يقود إلى نص أكبر بمعنى أن الأجزاء العشرة “نص أصغر” تقود إلى نص أوسط هو السياسي ومعاً ينتميا إلى نص أكبر هو “التحرير 2011”. أخرج الجزء الأول “الطيب” تامر عزت وأخرج الجزء الثاني “الشرس” آيتن أمين وأخرج الجزء الثالث “السياسي” عمرو سلامة. كل هذه الأجزاء الثلاثة تقودنا إلى المفاضلة، هذا أولاً وكأننا وبعد أن نشاهد الفيلم ندخل في مقارنة غير واعية بين أي الأجزاء الأكثر تعبيراً وإبداعاً استوفت قضيتها ليقودنا ذلك إلى تفكيك النصوص الثلاثة وتحليل صورها ومدى تحقيقها التأثير الأكبر في المتلقي. تغريب الواقع قبل كل شيء لابد أن نفهم حقيقة بسيطة أن فيلم التسجيل الدرامي بحاجة إلى مفاصل ادهاش لأنه يشتغل على المألوف والعادي والمسموع والمرئي سابقاً وعليه تصبح مهمة الفنان أن يحول هذا المألوف في الواقع إلى لا مألوف في الفن وأعتقد هذه النظرية البريختية “التغريب” لسنا بحاجة إلى توضيحها لأن الجميع يعرفها وصارت من المسلمات في الفن والتي أثبتت نجاعتها. إذاً ماذا حصل في فيلم “التحرير 2011”؟ قلت إن عنوان الفيلم حمل قصدية وانحيازاً، كما أنه لم يأت بشيء غير مألوف لم يلتقط شيئاً لم نره من قبل. في القسم الأول “الطيب” قرأنا “بعد سنوات من القهر عاشها الشعب المصري في ظل حسني مبارك”، وشعار آخر “الشعب يريد إسقاط النظام” ويتبعها بالقصيدة المغناة: بلادي.. بلادي.. بلادي. اليوم الثلاثاء 25 يناير صباحاً، تتقدم شهادات، ومشاهد من الإضرابات وتبدأ بشهادة شاب من الإخوان، ويقف المخرج حيادياً عندما يقدم الشهادات وهذا يحسب له ـ غير أن الشهادة محاولة لاختصار القضية في القول وليس في المشهد السينمائي ـ وقد نتساءل؟ ما هي مهمة الكاميرا؟ هل ترى أن مهمتها أن تقف عند وجه شاهد يروي “قولاً” حكاية ثورة أم أن مهمتها تصوير الثورة. حسناً لنأت إلى جمعة الغضب 28 يناير وبهذا الشكل اتبع المخرج تامر عزت التعاقب الزماني فكان تقدماً في مفاصل الفيلم بطريقة تقليدية ليس فيها شيء من روح الفن الإبداعي الخالص. عند تحول تامر عزت إلى شهادة الفتاة المصرية يتحول شعار القضية “الشعب يريد إسقاط الرئيس” وتصاعد القضية بوتيرة شعارية وتحول الحركة الشبابية إلى ثورة عبر ما شوهد من رصاص حي وقنابل مسيلة للدموع. هنا يرفع شعار آخر “الجيش والشعب إيد واحدة”. يجد المخرج أنه لم يحقق غير المألوف بل لا يزال محصوراً في ما هو شائع ومشاهد سابقاً لذا لجأ إلى الجانب الأكثر ألماً وهو “مشاهد الجراحة” عبر الممرضة أو الطيبة المحجبة التي كانت تداوي جرحى الثورة. من حق المخرج أن يقدم ما يريد أن يقدم عبر وسائل كثيرة، الصورة الفوتوغرافية المشهد السينمائي، الشهادة اللفظية، المشهد الوثائقي. حاول المخرج أن يقدم في الـ20 دقيقة التي في حوزته كل شيء عن الطيب، الشاب الذي رجع من الدنمارك، مظهر الخيول والجمال وهي تتراكض بين الناس. وشهادة أسامة ورصاصته التي استقرت في عنقه وشعار جديد “ارحل”. هذه وغيرها الكثير جعلت هذا الجزء تقليدياً إلى حد كبير وكأنه لم يأت بشيء جديد، وحينما صفق الجمهور في قاعة العرض لم يصفقوا للمشهد وقدرته التعبيرية بل صفقوا للقول النثري الذي تلفظه أصحاب الشهادات، عبر إطار شعاري وكأننا لا يعنينا ماذا يقدم الفيلم من مشاهد نريد أن نراها لأول مرة وليس تلك التي رأيناها على قناتي “الجزيرة” و”العربية”. بعد أن وجد المخرج ضالته في شخصية الشاهد الرابع وهو المصور الذي اعتقل من قبل النظام السابق والذي بدأ يشرح عن دور صورته في الثورة تحقق كما يبدو حلم المخرج أو كأنني أقول إن هذا المصور قد أنقذ الفيلم. “يوم الأحذية” “العلاج النفسي” بعد أن امتنع الرئيس عن التنازل ثم شعارات مرحلة الثورة، وأخيراً في الحادي عشر من فبراير عندما يتخلى حسني مبارك عن السلطة وهذا المفصل مع ما جاء بعده من تحقق معرض كلمات من الميدان قاد الفيلم إلى القصصية، إلى الحكائية مما جعل الفيلم أكثر حياة وأقرب إلى ما هو فني بعد أن كان أقرب إلى ما هو تقليدي لا حياة فيه سوى مشاهد قد أعيدت وينفخ الآن فيها روح الحياة. كانت مهمة آيتن أمين أصعب الثلاثة، لسبب بسيط جداً وهو صعوبة التعامل واستنطاق أجهزة الشرطة “المجال الذي اشتغلت عليه” في الشرس وثانياً عدم توفر مفاصل كثيرة تخرج بها عن الشهادة اللفظية إلى المشهد السينمائي. يبدو أن المهمة كانت صعبة حقاً على المخرجة آيتن أمين، التقطت مظاهرة في أحد المشاهد وهي تردد: الجدع جدع والجبان جبان فينا يا جدع جنبات في الميدان وتذهب إلى النقاط شهادات ثلاثة ضباط في الشرطة، ضابط يتكلم في الضوء وآخر يروي في الظلمة وثالث متأنق ومتفلسف، قضية واحدة من وجوه ثلاثة. إذا كان الضابط الأول قد اختار حديثه في الضوء فإنه شرس حقاً ولا يخشى شيئاً، أما الآخر صاحب الظلمة فيبدو أنه كان خائفاً من أن تظهر صورته، فهو بعيد عن الشراسة ومادامت هناك حرية فلماذا الإخفاء. الإظهار والإخفاء اشتغلت آيتن أمين على ثنائية الإظهار/ الإخفاء، في المشهد، الإضاءة القضية والموقف. كانت آيتن أمين تشتغل على منطقة حرجة ـ وهذا ما يحسب لها ـ النقطة الحرجة هنا في توفر المشاهد التي تعين على تقديم “الشرس” وقلتها وثانياً على حساسية هذا الجهاز “الشرس” الذي ربما يستفز فيتحول إلى ذنب قاتل مجنون. استغلت عسكري يهرب أمام الناس بعد أن كانت الناس تهرب منه، استغلت بناية شرطة السيدة زينب المحترقة ثم الوثائق التي عرضت وقد أكلتها النار وأسف ضابط الشرطة عليها كونها وثائق مهمة للدولة، ربما تستفيد منها ثانية لقمع الناس، وشهادات صحفية وصور بالفحم على الورق، وما فعله القناصة التي ربما أرادت آيتن أمين أن تعبر دلالياً - كمعادل موضوعي - عن ما يقوله الضابط عن حرية التعبير حين يسقط شاب قتيلاً في الشارع بوصفه مشهداً عن الدلالة المعكوسة. في “السياسي” الذي لم يكن سياسياً تعرض سيرة حسني مبارك من خلال عيني المخرج الشاب عمرو سلامة. يرصد المخرج حياة مبارك منذ 30 عاماً، مقتل أنور السادات وتحوله إلى رئيس دولة فجأة وبدون مقدمات لرجل عسكري جاء من الظل ليقود بلداً إلى الهاوية والجوع والفساد والدمار. شهادات لشخصيات معروفة في السياسة والإعلام والأدب: محمد البرادعي، وأحمد عكاشة، ومصطفى الفقي، وحسام بدراوي، ووجدي الحكيم، وعلاء الأسواني، وحسام دياب، ويوسف تيمور مصور حسني مبارك. يبدأ سلامة في تقديم تعريف لكلمة “الدكتاتور” وطارحاً قضية “كيف تصبح دكتاتورياً في عشر خطوات” متنقلاً عبر هذه الخطوات العشر وهي “صبغة الشعر، الغناء، الصور، التوريث، الانكار، العدو الوهمي، اكتب لبلدك والقانون والأمن والصحافة والإعلام”. الغاية الفنية تحولت هذه الصفات العشر إلى غير دلالتها المألوفة، إلى ما هو غير مألوف، نقلها سلامة إلى مفاصل أخرى لم يتوقعها المتلقي/ المشاهد وحتى ان كان يتوقع تأويلاً لها سوف يقدم إليه إلا أن المخرج ذهب بها بعيداً إلى أقصى غاية فنية حقاً وبذلك كسر أفق توقع المتلقي بأن قدم مفهوماً مختلفاً “لصبغة الشعر” حيث يوم الأربعاء الذي تحول إلى يوم أسطوري تصبغ فيه قيادات مصر شعرها لأن الرئيس أراد ذلك وكان محظوظاً منهم من يحصل على موعد عند الحلاق نفسه الذي يصبغ للرئيس. قدم سلامة صوراً بورتريهات لحسني مبارك فرعوناً وغيرها وبذلك تدخل فصنع وكانت بصماته واضحة في كيفية اختراع نص يريد أن يروي به قصة هذا الرجل الذي كان يسمى سياسياً عبر عشرة مفاصل. أتساءل: لماذا لم يأخذ المخرج سلامة شهادات أناس بسطاء من الشارع المصري، ورأيهم في السياسة؟ أنت هنا لا تقدم برنامجاً سياسياً، أنت كمخرج تقدم شهادات بشر عن شخصية مأزومة دخلت إليها مدخلاً موفقاً عبر عشرة مفاصل، تعرت أمامك شخصية الدكتاتور وبعد أن تم تعريفها بدأنا نفهم طبيعة الدكتاتور نفسه وليس حسني مبارك شخصياً، انك دخلت إلى ما هو عام عبر الخاص، اشتغلت على الثنائية الإيجابية الفصح/ والكشف. تعرت أمامك لا شخصية الدكتاتور بل الشخصية التي خلقت من هذا الإنسان دكتاتوراً، فلماذا يهمل رأي الناس، أليست طرافة النكتة هي صناعة شعبية، وما دمت قد اعتمدت هذه الطرافة فهل بتصورك ـ كونك مخرجاً ـ تجدها عند محمد البرادعي أو عند مصطفى الفقي أو عند حسام بدراوي، أعتقد أنك يجب أن تعود ـ كونك الأخير إخراجياً ـ أي ثالث ثلاثة بالفيلم كله إلى “الطيب”/ الشعب حين تأخذ شهادته عن حسني مبارك وكأنك بذلك قد خلقت نصاً دائرياً ابتدأ من “الطيب”/ الشعب.. عبر الشرس/ الشرطة إلى السياسي من وجهة نظر الطيب الشعب وبذلك تخلق دائرية تقفل بها قضية الفيلم عبر اطارين شكلي وموضوعاتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©