الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابك كالنساء طائرة لم تركبها كالرجال!

ابك كالنساء طائرة لم تركبها كالرجال!
11 أكتوبر 2013 20:13
كانت الصالة الأخيرة قبل الصعود إلى الطائرة مكتظة بالحجاج، رجالاً ونساءً، ومن مختلف الأعمار، ويبدو أن اتفاقاً غير معلن وقّعه الجميع يقضي بإعطاء الأولوية لكبار السن، خصوصاً بعد أن طال انتظارنا، فكان مرافقوهم يخترقون الصفوف ويأخذونهم إلى أقرب نقطة ممكنة من باب الخروج. كنت في هذه اللحظات أقف منتظراً مع أفراد من عائلتي في الصفوف الخلفية، أحلم باليوم الذي أكون فيه عجوزاً تشق لي الصفوف، لأموت سعيداً بعد ذلك. فجأة اخترقت مجموعة من الرجال والنساء الصفوف وفُتح أمامهم الباب ودخلوا ثم أُغلق الباب من جديد. وبدأ الناس يجأرون بالشكوى ويذمون هذا التصرف، وسمعت أن هؤلاء من عائلة واحدة، وينتمون بصلة قرابة لأحد مسؤولي شركة الطيران. بعد دقائق مشينا في ذلك اللولب الضخم الذي يؤدي مباشرة إلى مدخل الطائرة، وكان من الطبيعي أن نرى أفراد تلك المجموعة وقد اتخذوا أماكنهم قبل الجميع، وكان من الطبيعي أيضاً أن يتعمد بعض من لا ناقة لهم في الطيران ولا حمامة، الغمغمة بصوت مسموع، تعبيراً عن رفضهم لما حصل، خصوصاً أن الطائرة كانت تعمل بنظام الحافلات، فلم تكن هناك مقاعد محجوزة حسب التذكرة، وإنما من يصل قبلاً، يجلس في أي مكان يشاء. جلستْ تلك المجموعة على مقاعد متقاربة، لذلك لم يكن من العسير تمييزهم عن غيرهم، وبالمصادفة كان أحد أفراد تلك المجموعة يجلس في مقعد قريب من مقعدي، وهو الوحيد منهم الذي كنت أستطيع رؤيته بوضوح من مكاني. نحن في الطريق إلى الديار المقدسة لأداء إحدى الشعائر الدينية، وليس الوقت وقت الدعاء على الناس بأن تنشق الطائرة من تحتهم ويشفطهم الهواء ويتفتتوا في الجو، وإنما وقت طلب الرحمة والغفران. ومع هذا، بقيت أختلس النظر إلى ذلك الشاب، وأحاول منع نفسي من التفكير به: بالله عليك، هل أنت مقتنع بأنك متجه إلى أداء شعيرة دينية أهم ما فيها هو مشهد المساواة بين الناس، بينما أنتم ميّزتم أنفسكم عن الناس منذ اللحظة الأولى؟ يا أخا العرب: ما المكسب الذي حصلتم عليه من تخطي الناس والدخول قبلهم وعدم مراعاة كبار السن، وعدم مراعاة الذوق، وعدم الاهتمام بمشاعر الآخرين؟ قل لي الآن، وفوراً، ما الفرق بين مقعدك ومقعدي؟ لا شيء! لكن الفرق فيمن يجلس على المقعدين: أنت الذي تشمخ بأنفك وبجاهك في الدنيا، وأنا الفقير إلى الله، والغني عنك. حسناً، أنتم دخلتم قبل الآخرين لمجرد أن تجلسوا إلى جانب بعضكم بعضاً، فماذا أنتم فاعلون حين ستموتون فرادى، وتبعثون فرادى، حيث لا أنساب ولا قرابة؟ يا هذا، ألا تعلم بأننا جميعاً مسجلون ضمن حملة حج واحدة، وبأننا سنقيم في مكان واحد، نأكل معاً، ونصعد الحافلة معاً، ونؤدي الشعائر معاً، فكيف سيكون حالكم هناك حيث لا مجال للتميز على الآخرين؟ يعني بالعربي: إذا جلسنا إلى مائدة واحدة غداً، وكنتُ سعيد الحظ وأتشرف بالجلوس إلى جانب مقامكم الرفيع، وكانت هناك قطعة كباب واحدة موجودة في طبق موضوع بيننا، فهل تعتقد بأنني سأتركك تتلذذ بأكلها يا جنابك؟ لا والله، لزوال السماوات والأرض أهون عندي من أن تأكل تلك القطعة دوني! وبالعربي أيضاً: إذا كنت تقف إلى جانبي أثناء رمي الجمرات، وهذا شرف كبير لي، فهل تعتقد بأنني لن أتعمد «فلع» رأسك بحصاة واحدة كنوع من التأديب، خصوصاً أنك ستواصل هذا الاستعلاء على الناس وستعتقد بأنك مميز طوال الوقت؟ إذا كان إبليس يستحق تلك الجمرات على أم رأسه، فأنت مثله، لأنك تزعم أنك خيرٌ منا، كما زعم رئيس قبيلتكم إبليس. بل لم الانتظار إلى يوم الرمي، لم لا أقترب منك الآن وأضربك على رأسك ضربة ترتج معها الطائرة؟ كنت أحاول منع نفسي من طرح تلك الأسئلة الغبية وتداول تلك الأفكار الشريرة، وفي الوقت نفسه كنت لا إرادياً أواصل النظر إلى ذلك الشاب الذي كان يجلس في صمت ولا يشارك جماعته الصخب الذي كانوا يحدثونه. وبدأت ألاحظ شيئاً غريباً، فدموع الرجل تجري على خديه محاولاً تنحيتها بالتظاهر بأنه يفرك عينيه. لماذا تبكي الآن؟ ربما كنت تحلم بمقعد قائد الطائرة مثلاً؟ ربما كنت تعتقد بأن أنفاسك المباركة لن تختلط بأنفاس عامة الناس مثلي؟ ربما كنت تظن بأننا سنلتف حولكم لأخذ توقيعاتكم؟ ولأن كل هذا لم يحدث، فأنت الآن تبكي! كانت الطائرة قد أقلعت منذ نصف ساعة تقريباً، والرجل لا يزال يبكي ذلك البكاء الذي بدأ مكتوماً، ثم تحول إلى أنين، ثم نحيب، وها هو الآن يحاول أن يكتم شهقاته، بينما قريبة له، ربما كانت زوجته، تحاول تهدئته. قلت في نفسي: «ابكِ كالنساء طائرة لم تركبها كالرجال»، لكن ربما يبكي أطفالاً تركهم في البيت مع خادمة حبلى بالمفاجآت، أو أماً تعاني الشلل لا أحد لها في الدنيا سوى حضرته، أو ربما يبكي لأنه يحتاج إلى غيار بعد أن امتلأ «بامبرزه» بالأشياء، على الرغم من أن وجهه مليء بالشعر مثل الغوريللا، وشاربه كثيف كأنه مكنسة يدوية. ساعتان أو ثلاث كانت مدة الرحلة، لم يتوقف خلالها هذا الأخ عن البكاء، لدرجة أنه لم يتناول طعامه، وأنا لم أتوقف عن محاكمته والبحث عن تفسير لدموعه الجارية واهتزاز كتفيه أثناء محاولاته بلع شهقاته. والغريب أن جماعته لم يصمتوا لحظة عن الكلام بنبرة المنتصرين، ما عدا تلك المرأة التي تجلس إلى جانبه، والتي كانت تكلمهم تارة، وتكلمه تارة أخرى. بعد وصولنا إلى الديار المقدسة بأيام، لم ألتق فيها بذلك الشاب ولله الحمد، لمحته في الحافلة يجلس بالقرب مني، فرسمت على وجهي ملامح الانزعاج، وأخذت أرمقه بنظراتي لعله ينظر إليّ ويرى أنني متأهب لشرب دمه إن نظر إليّ بطريقة فوقية.. لكنه بدا شارد الذهن، فقلت في نفسي إنه ربما يفكر في مقعد مميز في طائرة العودة. ثم التقيت به مرة أخرى وثالثة، ولم أستطع ضبطه متلبّساً بممارسة الاستعلاء، فهو يسير بمفرده مطأطئ الرأس في الغالب، ولا يتحدث إلا مع أفراد قلائل، ويحاول الابتعاد عن التجمعات، ليتكئ على جدار ويدخن بعض السجائر. في يوم النحر، لم أعد أحمل أي مشاعر سلبية تجاه ذلك الرجل، خصوصاً بعد أن حلقت شعر رأسي، وشعرت بأنني مولود جديد لا علاقة له بكل ما حصل لي أو معي، قبل أن يبدأ الحلاق تمرير «الموس» على رأسي. ورأيته في أثناء العودة إلى السكن وهو يسير بمفرده في بعض الأزقة، فاتجهت إليه مباشرة وتبادلنا الكلام للمرة الأولى، وبارك لي وباركت له، ووجدته بشوشاً سهل التعامل، فلم أستطع منع نفسي عن سؤاله عن سبب بكائه في الطائرة. بعد لحظات من الصمت، نكس رأسه ثم اغرورقت عيناه بالدموع، وقال إنه كان يبكي لأنه تقدمنا ودخل الطائرة قبلنا، وأنه لم يكن بيده حيلة لأنه كان تحركاً جماعياً من أفراد عائلته. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©