الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعراء تونس عاتبون على المشرق

شعراء تونس عاتبون على المشرق
28 فبراير 2008 04:43
يشتكي الكثير من الشعراء التونسيين اليوم من تجاهل المشرق لهم رغم اعتراف ادونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش بوجود وهج شعري جديد في تونس· فهل صحيح ان الشابي حجب عنهم طريق الوصول الى المشرق والخليج العربي مثلما يقول البعض منهم؟ وهل اصاب المنصف المزغني عندما أكد ان الشابي حوّله النقاد الى نخلة لتغطية الواحة؟ أبو القاسم الشابي توفي وهو في الخامسة والعشرين من عمره في التاسع من شهر اكتوبر 1934 (1 رجب 1353 هجري) اثر مرض لم يمهله طويلا· ورغم وفاته وهو في ريعان شبابه فإن اسمه بقي حيا ورسخ شعره ـ أو على الأقل بعض قصائده ـ في ذاكرة التونسيين والعرب جميعا، وطبقت شهرته الآفاق وشاعت بعض ابياته وذاع إنتاجه الأدبي - على قلته ـ بين الناس مشرقا ومغربا· الشابي لم يترك الا ديوان شعر واحد هو: ''اغاني الحياة'' وقد نشر بعد وفاته، وبعض المحاضرات اشهرها ''الخيال الشعري عند العرب'' (وقد طبعت في كتاب)، ورسائل، ومجموعة مضبوطة مؤرخة من ''مذكّرات'' (نشرت في اول طبعة بعد وفاته بـ32 عاما) قيّدها الشاعر في صفحات قليلة يوما بعد يوم مسجلا فيها خواطره وملاحظاته ونقده لمجتمعه وآراءه في الأدب والناس الحياة· واليوم وقد مرت على وفاة الشابي 73 عاما، فإن مكانته قد زادت تألقا ووهجا، فما من شاعر أو ناقد عربي سئل عن الشعر في تونس الا وذكر الشابي، ونالت آثاره الأدبية القليلة من الدراسات العلمية والبحوث الاكاديمية ما لم ينله اديب تونسي غيره· طوقان والشابي وهذا الاهتمام بالشابي أثار حفيظة بعض الشعراء التونسيين، ومنهم الشاعر منصف المزغني (مدير بيت الشعر) الذي لم يتردد في القول: ''ابوالقاسم الشابي حوّله النقاد الى نخلة لتغطية الواحة، وأخذوا من هذه النخلة سعفة ليضربوا بها أي شاعر تونسي آخر ينشد البروز· إنهم يريدون ان يرتاحوا من الشعر التونسي ويريدون تلخيصه في الشابي''· والكثير من الشعراء التونسيين يشاطرون منصف المزغني رأيه لاعتقادهم أن الشابي حجب عنهم طريق الوصول الى المشرق العربي، بل إنه اصبح يمثل للبعض منهم ''عقدة''، و يوم زارت الشاعرة الراحلة فدوى طوقان منذ سنوات قليلة تونس لم تذكر، وهي تتحدث عن الشعر في تونس، الا الشابي معترفة بأنها ''أحبته دائما وتأثرت به في مسيرتها الشعرية'' ووصفته بأنه ''شاعر كامل العبقرية''· وقد لاحظ الشاعر القيرواني محمد الغزي عند زياراته العديدة الى مختلف بلدان المشرق العربي: ''ان الكثير من المشارقة لم يبق لهم في اذهانهم من اسماء الشعراء التونسيين إلا ابو القاسم الشابي، وهذا بلا شك يثير نوعا من الاستغراب، ولكن هذا لا يعني ان الشابي ليس قامة كبيرة في شعرنا العربي''· ويقرّ محمد الغزي ان الشعر في تونس قد خفت صوته بعد الشابي، الا ان جيل السبعينيات والثمانينيات قد استطاع من جديد ان يعيد للقصيدة الشعرية العربية في تونس تألقها وجمالها ويجعلها حاضرة في المحافل الادبية سواء في المغرب العربي أو في المشرق· قتل الأب وللشاعر يوسف رزوقة موقف متفرد، فهو يرى ''ان الشابي لا بد منه للشعراء التونسيين حتى يشعرون أن أمامهم حواجز للتجاوز وأبا للقتل''· اما محمد الطاهر الضيفاوي فهو ازاء الشابي ''تتملكه رغبة عقوق حد القتل بعيدا عن ابحاث علماء النفس حول القتل حبا'' ـ على حد تعبيره ـ وهو يرى في الشابي ''سلطة قامعة بأتم معنى الكلمة، فلا حديث عن شبهة الشعر مع أي كان في تونس الا ويذكر الشابي مرجعا اساسيا وبداية ونهاية كأن لم يكتب أحد الشعر قبله ولا بعده''· السؤال واللافت للنظر ان الكثير من الشعراء التونسيين يشتكون من تجاهل المشرق لهم رغم تردد الكثير منهم على الندوات والمهرجانات، ورغم إلقائهم لقصائدهم في المحافل الرسمية والشعبية في كثير من البلدان المشرقية ونشرهم لإنتاجهم في بعض الصحف والمجلات· ولكن الحقيقة ان القليل القليل منهم رسخ اسمه او شعره في الذاكرة الجماعية في بلدان المشرق· نعم إن الشابي أفرزته مرحلة كانت فيها ذائقة المتقبل العربي ظمأى لصوت جديد، فالشابي كما يقول محمد بنيس جاء في اللحظة الاولى من القطيعة بين شاعري النهضة البارودي وشوقي من جهة، وشعراء التحديث من جهة أخرى· والسؤال المطروح: لماذا لا تلاقي اصوات شعرية ثابتة اليوم في تونس، مثل جعفر ماجد واحمد اللغماني ونور الدين صمود ومنور صمادح ومحمد الغزي وجميلة الماجري ومحيي الدين خريّف وغيرهم كثير من الكلاسيكيين او الصغير اولاد احمد والمنصف المزغني وآمال موسى وغيرهم كثير ايضا من المجددين، الشهرة التي هم جديرون بها في المشرق رغم اعتراف أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش على سبيل المثال بوجود وهج شعري جديد في تونس؟ تجارب أم قصائد؟ الغريب أكثر أن النقاد التونسيين أنفسهم خاصة في كليات الآداب بالجامعة اهتموا بدراسة الخطاب الشعري المشرقي كثيرا ولم يلتفتوا إلا نادرا الى الخطاب الشعري التونسي بشهادة محمد الغزي نفسه الذي هو شاعر واستاذ جامعي ايضا، معللا ذلك باسباب عديدة من بينها أن النقاد يهتمون فقط بما هو معترف به· وذهب محمد لطفي اليوسفي، وهوجامعي تونسي وناقد جاد واكاديمي متمكن، الى حد الاعلان في محاضرة له منذ سنوات في ابوظبي ''بأنه لا يرى في تونس شعراء تجارب بل شعراء قصائد''، وهو ما أثار عاصفة وقتها وردود فعل كثيرة· المركز والهامش الملفت للانتباه ان من الشعراء التونسيين ـ ربما كرد فعل لتجاهل المشرق لهم ـ من يذهب الى التأكيد على أن منطقة المغرب العربي التي كانت في السابق تعتبر هامشا في الثقافة العربية اصبحت اليوم مركزا، فالشاعر الصغير اولاد احمد قال صراحة: ''لماذا يجب علينا الذهاب الى المشرق لكي يقع الاعتراف بنا مثل ما فعل الشابي··· فأنا لا أعتبر المشرق هو المركز، فالأدب في المغرب العربي يتسم بجرأة لا أجدها كثيرا في المشرق''· بين الشابي وأبوشادي فعلا ومثلما ذكر الصغير اولاد احمد، فإن لمصر وجماعة ''ابولو'' فضلا فيما بلغه ابوالقاسم الشابي من شهرة· فالشابي كان جسرا بين جناحي الوطن العربي ومن خلال صوته وقصائده التي نشرتها له مجلة ''ابولو'' المصرية تعرّف قراء المشرق وادباؤه على شاعر من تونس رغم ان الاستعمار وقتها عمل على ترسيخ القطيعة الفكرية والثقافية بين المشرق والمغرب العربيين· والملفت للانتباه ان الدكتور زكي ابوشادي صاحب مجلة ''ابولو''، وهو الشاعر والكاتب والاديب الكبير، قبل ورغب ان يخرج للناس بديوانه ''الينبوع'' مقدّما من صديقة ابي القاسم الشابي· وقد روى الاديب والناقد المصري الراحل د· غالي شكري في ندوة انعقدت بتونس انه لما كان تلميذا بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة عام 1947 (وكان مضى وقتها على وفاة الشابي ثلاثة عشر عاما) في مدينة صغيرة من مدن الدلتا هي مدينة ''منوف''، وكانت هناك مظاهرة وطنية من طلاب وتلاميذ المدارس الاخرى تدك ابواب مدرسته وتهتف: اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر وقال غالي شكري: ''يومها عرفت اسم الشابي للمرة الأولى''· الديوان التهمة الحقيقة ان بعض ابيات الشابي اصبحت اكثر شهرة من اسمه في تلك الفترة يهتف بها المتظاهرون في وجه الطغاة· فشهرة الشابي في المشرق لم تأت صدفة انما شعره الوطني والانساني هو الذي بلغ الى وجدان الامة بأسرها ووصل صوته الثائر الى بلاد الشام والخليج العربي، وقد روى الدكتور عبدالعزيز المقالح الباحث والمفكر اليمني بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاة الشابي، وهو يتذكر فترة الخمسينيات وما حفلت به من احلام وحدة عربية، قائلا: ''وكان من آثار تلك الاحلام العظيمة ان استطاع الشابي ان يصل الى صنعاء وان يقطع بصوت روحه المعذبة آلاف الاميال من الارض العربية وان يجد في اليمن اهله الغائبين وان تتعانق لغته الشعرية المتالقة مع اصوات الرعاة واغاني الحقول· كانت اليمن يومئذ تعاني مرارة الجهل وتشهد ألوان الحرمان والهوان وكان النابهون من طلاب مدرسة دار العلوم التقليدية يساقون الى السجن بتهمة قراءة ديوان الشابي···''· وهكذا فإنه يمكن الجزم بأن الشابي لم يكن تعبيرا محليا تونسيا عن الحياة القاسية الحزينة أيام الاستعمار الفرنسي البغيض وانما كان تعبيرا عربيا ونموذجا للشاعر العربي العميق الاحساس الذي تختزل تجربته الشعرية القلقة عذاب الانسان العربي، وهذا ما يفسر أحد اسباب انتشار شعره وذيوع اسمه في المشرق· رغم الداء والأعداء نشأ أبوالقاسم الشابي بين الحربين العالميتين الاولى والثانية ايام كان العالم العربي يتعثر بين حاضره الاليم وماضيه القريب ودعاة الاصلاح وانصار التجديد في تلك الفترة الانتقالية يلقون جحودا وأذى· كان الشابي متعلقا بتيار التجديد الذي كان يمثله شعراء المهجر من امثال ايليا ابوماضي وجبران خليل جبران، وكان في شعره ومحاضراته ومقالاته ناقما على الجمود ويدعو إلى تكسير الاغلال ''واعتناق الحياة'' على حد تعبيره، وقد رفض بشدة كل المكبلات التقليدية التي كانت ترزح تحتها الحركة الادبية وقتها، وبسبب ذلك واجه الشاعر الشاب العواصف وتصدى للاصوات الخانقة التي كانت تعلو ضده·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©