الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغسق الخرب عن شاعر مات في زمن المحنة

الغسق الخرب عن شاعر مات في زمن المحنة
28 فبراير 2008 04:44
(الشجعان) ''لقد كنتم مأثرة وها أنتم صرتم نواحاً، وصباحاً قاتماً للأوفياء· صرتم شظايا محنّطة، تنقضّ بلا رحمة على الموتى الذين يتقدمون متلفّعين بالأمل نحو حياتهم صرتم غسقاً خرِباً وأيدي تلوّح بلا سبب· كخيال قطيعٍ ينقضّ على خياله وحيداً أقلّب ما تركتموه والنفير يعلن عن معركة لن توجَد''· (''عقيل علي، طائر آخر يتوارى''، ص18) في بغداد، كانت هناك ضجة قبيل وفاة الشاعر العراقي عقيل علي في الخامس عشر من أيار/ مايو 2005 سببها نشر صور له في موقع إلكترونيّ مرمياً على أحد أرصفة بغداد· ذهبت بالناس الظنون، وتشعبت آراؤهم بصدد عيشته هذه وموته ذاك، فمن قائل إنه يمارس الرفض في هذه العيشة، والتمرد على الأعراف السائدة، والتعبير بالسلوك عما لا يمكن التعبير عنه بالقول، أما موته فقيل فيه إنه جاء بسبب رفض موظفي الإسعاف نقله إلى المستشفى، أما لأنه وجد سكرانا أو للظن أنه ''إرهابيّ''· والالتباس عزز فروضاً أخرى تتعلق بشعره وموته· والمسألة رفعت إلى مستوى تفلسف يروج في أوساط المثقفين كلّ حين، فقيل إنه أعلن ''الحرب على الضياع بالضياع''، وإنه اختار ''الفناء المطلق''، وقيل إنه مبدع ''من مبدعي البروليتاريا العظام''، وجعلها بعضهم ممارسة لموقف الرفض، أو تأكيداً للعبث منطلقاً لتجربته وحياته، وقال آخر إنه ''شهيد السياسة العراقية''، وما إلى ذلك من أوصاف تأثرية نابعة من طبيعة الفاجعة وراهنيتها· نهج معتمد الشعراء العراقيون دأبوا على مواصلة مثل هذا النموذج، فكلما مات أحدهم على قارعة، ظهر ثانٍ يعوّض هذا الغياب، وعلى كليهما أسبغوا معاني الرفض والتمرد عبر العبث والحياة البوهيمية· حدث ذلك مع عبد الأمير الحصيري (توفي في العام 1978 في بغداد)، ومع جان دمو (توفي في العام 2003 في سيدني)، ومع عقيل علي المتوفى على رصيف ببغداد يوم الخامس عشر من أيار / مايو ،2005 ولعل التعويض آتٍ وقريب· ولأذكّر هنا بالسياب العظيم الذي ستصادف ذكرى وفاته يوم 24 تشرين الثاني / نوفمبر القادم· فالقصائد الغزيرة التي أبدعها السياب في حياته القصيرة المليئة بالملمّات، لا سيما تلك القصائد التي أتحفنا بها في فترة مرضه العضال، لا تقوم دليلاً على الصبر والعناد حسب، بل على حبّ الحياة وعلى قوة مناعة باطنه وجوهره· ومرض السياب، من ناحيته، يذكر بمرض نيتشه الذي مثّل له مرضه حافزاً للإقبال على الحياة؛ إذ مادام ''الجوهر معافى'' فلن يتوقف الإحساس بالحياة، بل هو سيعمد إلى اكتشافها من جديد· أما عقيل علي فلم يكن مريضاً، لكنه مع ذلك كفّ عن حبّ الحياة منذ أن ارتضى الرصيفَ مأوىً والصمتَ كتابةً· وكلاهما، المأوى الشاذ والصمت، لن يتمكنا من التحوّل إلى ظاهرة فاعلة في الحياة الشعرية· ولن يبقى من عقيل علي سوى ما كتبه خارج الرصيف وبعيداً عن الموت عليه· من بين ما كتبه من نصوص رائعة نصّ ''الشجعان''· وفيه يتبع الشاعر استراتيجية فريدة، إذ يمارس لأول مرة لعبة الهزء بما هو متعارف عليه، والسخرية من القيمة الأصيلة الكامنة في معنى الشجاعة· يشجب عقيل علي معنى الحرب التي يموت فيها الشجعان· ويسخر في هذا النصّ الفريد والهائل من الحرب ومن وقودها: الشجعان· إنه يرى فيهم ضرراً على الأحياء، ضرر الأموات على الأحياء يجليه الشاعر عبر هذه السخرية من الشجعان، حتى بات النصّ يشكل مفارقة للقيم السائدة، القيم الاجتماعية والنصيّة، فالشجعان اجتماعياً ممدوحون، وفي النصّ مدانون، والشجعان عنواناً للنصّ يشكلون مفارقة يدوّن عبرها الشاعر هُزءه بالبطولة في الحرب: يقول لنا ''الشجعان'' إن عذاب الحرب ونارها لا يطولان ''الشجعان'' الأموات، بل الأحياء الذين صار الشجعان ذكرى في رؤوسهم· يطلق عقيل علي فكرة جديدة عن ضحايا الحرب الحقيقيين؛ إنهم الأحياء وليس الأموات· فالأموات أما ذوو منقبة أو مثلبة، إنهم كانوا مأثرة، ثم صاروا لدى الشاعر نواحاً وشظايا تبعثر الأمل، بل هم أيضاً الخراب والعبث· إنهم ليسوا شجعاناً أبداً، هم أحزان للآخرين تحيل صباحات أحبّتهم إلى سواد مظلم· إدانة صريحة بهذه الرؤية الواعية، وبهذا القصد المبيّت، وبهذه اللغة المواربة والذكية، قال عقيل علي إدانته الصريحة للحرب وأبطالها من الأموات والأحياء، في زمن لم يكن الكلام يعني غير الموت، أما الكلام على الحرب والأبطال فمدعاة للانتحار· فهل يجوز بعد ذلك الحديث عن بوهيمية عقيل علي وعدم مبالاته بنفسه وبالآخرين كطريقة ممكنة للتعبيرعن رفضه الواقع القائم، وهل يكفي تسويغ ذلك كله بنزعة التمرد الذي لا يكلّ، وأن هذا النمط من التعبير هو خيط ممتد لدى الشعراء العراقيين في زمن الخراب والحرب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©