الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبو القاسم الشابي.. إرادة الحياة المبكرة

أبو القاسم الشابي.. إرادة الحياة المبكرة
26 يناير 2011 19:44
خلال الانتفاضة الشعبية التي هزت تونس في الأسابيع الماضية، وأدت إلى سقوط رأس النظام بعد أكثر من عقدين من تجاوزاته على الحرية والعدالة، كان أبو القاسم الشابي، شاعر تونس المجلي في النصف الأول من القرن العشرين، أكثر الحاضرين في ضمير الناس المنتفضين ووعيهم، ولدى إخوانهم العرب الذين تابعوا حركتهم بإعجاب، مرددين صدى كلمات الشابي المضيئة في كل محطات النضال العربي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. هنا مقاربة لسيرة وتجربة شاعر تونس الأعلى صوتا أبو القاسم الشابي. يقول الكاتب الفرنسي جان جيرودو بأن الاحتفال بمئوية رجل عظيم يمكن اعتباره احتفالا بواحدة من ولاداتنا. والاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد شاعرنا الأكبر أبي القاسم الشابي هو في حقيقة الأمر والواقع احتفال بولادات متعددة. أوّلها ولادة الشعر في تونس. فقبل الشابي، لم يكن هناك شعر في بلادنا بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة. وكان الذين يسمون أنفسهم “شعراء” أو تطلق عليهم هذه الصفة، يبرزون غالب الأحيان في المناسبات العامة، دينية كانت أم غير دينية. وفي جل قصائد صاحب “أغاني الحياة” تحضر نفس الشاعر في جميع تجلياتها، وتحضر تونس بواحاتها، وجبالها، ووديانها وغاباتها وآلامها، ونكباتها. ونحن لا نجد بين الذين سبقوا الشابي، أو عاصروه أو حتى عند الذين جاؤوا من بعده، شاعرا تغنى بتونس مثلما تغنى بها هو. فقد كانت تسكنه مثل الجمرة الملتهبة. ومتمثلا بين مختلف مناطقها منذ سنوات الطفولة الأولى، كان يختزن مشاهدها في ذاكرته ليعيد تشكيلها فيما بعد في أشعاره بشكل آسر، ففي سن السادسة عشرة، كتب قصيدته البديعة “تونس الجميلة” والتي فيها يقول: أنا يا تونس الجميلة في لجّ الهوى قد سبحت أي سباحة شرعتي حبك العميق وإني قد تذوّقت مره وقراحه لست أنصاع للواحي ولو متّ قامت على شبابي المناحة لا أبالـــي.. وإن أريقت دمائي فدماء العشاق دوما مباحة ومع الشابي ولد الشاعر، “المنفرد بنفسه” بحسب تعبير جان جاك روسو. ذلك الشاعر الذي انطلق من ذاته، يكتب قصائده في مختلف الأغـراض من دون أن يكون خاضعا لأي سـلطة. هدفه الوحيد هو إرضاء نفسه. لذا هو لا يستجيب إلا لمطامحه الأدبية تلك التي تسمو بالكلمة عاليا، وتبيح للخيال أن يحلق بعيـدا. وفي جميع رسائله إلى صديقه محمد الحليوي نجد الشابي حانقا على أولئك الذين لا يحترمون “ذات الشاعر” ولا “روح الشعر” ويتحولون إلى مدّاحين يتذللون لأصحاب السلطة والنفوذ. وهو يصف هؤلاء بـ”الأصنام الخشبية” الذين “يعقلون في الشعب روح الحياة” ولا يعرفون كيف يعلمونه “محبة الحق والقوة والجمال”. ولادة شعرية مغايرة كان محمد الحليوي على حق حين كتب متحدثا عن رؤية أبي القاسم الشابي للتجديد في الشعر وفي الحياة. “رسالة الشاعر كما يرى الشابي هي تلك التي توسع أفق الحياة في نفسك، وتجعلها تحس بتيارات الوجود أكثر مما كانت تحس، وتدرك معانيه وأصواته أكثر مما ألفت أن تدرك، وتنسيك وجودك الإنساني لحظة لتستغرق في عالم الجمال المطلق الذي يخلقه الشاعر حواليك ويسبغ منه على نفسك”. ومع الشابي ولدت لغة شعرية لم تكن مألوفة حتى ذلك الحين. كما برزت موسيقى راقصة أزاحت الغبار عن الكلمات، مانحة إياها قوة عجيبة جعلتها قادرة على نقل المشاعر والعواطف، وعلى اختراق الواقع الذي ظل حتى ذلك الحين مخفيا وراء لغة كاذبة، تغلب عليها المحسنات اللفظية وبفضل هذه اللغة الجديدة، وهذه الموسيقى الراقصة التي ابتكرها الشابي، تحرر الشعر التونسي من القوالب الجامدة، وخرج من الأماكن المغلقة التي كان محبوسا في داخلها، ليعانق الآفاق الرحبة: وشفّ الدّجى عن جمال عميق، يشبّ الخيال ويذكي الفكر ومدّ على الكون سحر غريب، يصرّفه ساحر مقتدر وضاءت شـموع النجوم الوضاء، وضاع البخور، بخور الزهر ورفرف روح غريـب الجمال بأجنحة من ضياء القمر ورنّ نشيد الحياة المقدّس في هيكل حالم قد سحر وأعلن في الكون: أن الطموح لهيب الحياة، وروح الظفر إذا طمحت للحياة النفوس فلا بد أن يستجيب القدر ولادة جيل عندما نحتفل بمرور مائة عام على ميلاد أبي القاسم الشابي، فإن هذا لا يعني شيئا آخر غير الاحتفال بميلاد جيل ما أصبحنا نسميه بـ”جيل إرادة الحياة”. ذلك الجيل الذي ولد أبناؤه في بدايات القرن العشرين. وابتداء من العشرينات من القرن المذكور، سوف يخوضون معارك سياسية وفكرية وثقافية كانوا يطمحون من ورائها للنهوض بالمجتمع، ولايقاظ الوعي الوطني، ولتحسيس الشعب بمصيره المظلم. وعندما كان أبناء “جيل إرادة الحياة” أطفالا، كانت النخبة التونسية قد أعادت الحياة للأفكار الإصلاحية والتحديثية التي جاء بها خير الدين باشا التونسي. وبفضل الرموز الكبيرة لهذه النخبة من أمثال علي باش حامبه وعبد العزيز الثعالبي والبشير صفر، والشاذلي خيرالله استعادت الحياة السياسية والثقافية حيويتها، وكثرت النوادي حيث كانت تلقى المحاضرات، وتعقد الندوات، وعرفت الصحافة اليومية والأسـبوعية تطورا هاما أتاح لعامة الناس التعرف على أحوال مجتمعهم، وعلى أحوال العالم بصفة عامة. وخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين شهدت تونس أحداثا سياسية وثقافية واجتماعية أتاحت للنخبة التونسية التمرّس بالواقع، والاطلاع على أحوال البلاد، ومشاغل مختلف الفئات. ففي خريف عام 1903 جاء الشيخ محمد عبده إلى تونس. وفي زيارته الثانية هذه (الأولى كانت عام 1888) التقى بالشيوخ المعاضدين لحركة ألإصلاح من أمثال سالم بوحاجب ومحمد النخلي. وفي “الجمعية الخلدونية” التي كان قد أنشأها البشير صفر عام 1896، ألقى الشيخ محمد عبده محاضرات كان لها الصدى الكبير لدى النخبة التونسية المتطلعة للاصلاح والتحديث. وفي عام 1905 بعثت “جمعية قدماء الصادقية” التي اهتمت بتقديم محاضرات باللغة العربية بهدف تثقيف عامة الناس في مجالات مختلفة ومتنوعة. وفي عام 1911، اندلعت “انتفاضة الجلاز” التي أعطت دفعا جديدا للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار، والتي كانت آنذاك في طور التشكل. وفي عام 1919، تأسس الحزب الدستوري بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي صاحب كتاب “تونس الشهيدة”. وفي عام 1924 أنشأ محمد علي الحامي “جامعة عموم العملة التونسيين”. وفي مطلع الثلاثينات، أصدر الطاهر الحداد كتابه الشهير “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، والذي أثار ضجة هائلة في الأوساط الثقافية والسياسية والدينية. وسواء عاش هذه الأحداث، أم لم يعشها، فإن المؤكد هو أن الشابي تأثر بها، وتفاعل معها تفاعلا كبيرا، ومبكرا انحاز إلى الأفكار الاصلاحية والتحديثية، وقاوم بشدة الركود والتزمت والقنوط. ورغم مرض القلب الذي كان يعذّبه، ويعيق حركته ونشاطه، فإنه كان دائم التفكير والعمل. حقوق المرأة وفي “الخيال الشعري عند العرب” يثور الشابي ضد النظرة العربية للمرأة، والتي تتوقف عند الجسد، ولا تعطي اهتماما يذكر لروحها، ولنبلها، ولسحرها، وجمالها الباعث على الالهام والوحي. وإذا ما تحدث الشاعر العربي عن جمال المرأة، فإنه يتحدث كما لو أن الأمر يتعلق بشيء “يوزن بالرطل والقنطار من الشحم واللحم” ويرجع الشابي هذا الأمر إلى أن المرأة العربية لم تنل في جميع العصور العربية قسطا من الحرية الحقيقية، تتمكن معها من إظهار مالها من مواهب وملكات تجبر الرجل على أن يحترمها، ويبدّل رأيه فيها، فيطلع على ما خلف الجسد من “بحر عميق تختلف فيه الأمساء والأصباح والأضواء والظلمات”. ومن المؤكد أن أبا القاسم الشابي تحمّس كثيرا للحركة النقابية التي أنشأها محمد علي الحامي، معتبرا إياها شرارة جديدة بامكانها أن تلهب النضال الوطني، وتوقظ الضمائر الميتة، وتنفض عن الشعب رماد القنوط واليأس. فلما قامت السلطات الاستعمارية بضرب الحركة الوطنية الفتية، مجبرة زعيمها الشاب المتشبع بالأفكار الاشتراكية، أعني محمد علي الحامي على مغادرة البلاد، أطلق الشابي صرخة متوجعة: لست أبكي لعسف ليل طويل أو لربع غدا العفاء مراحه إنما عبرتي لخطب ثقيل قد عزانا، ولم نجد من أزاحه كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يردّ جماحه أخمدوا صوته الإلهي بالعسـف أماتوا صدحه ونواحه وفي الرسائل التي يبعث بها إلى صديقه الحميم محمد الحليوي، كان الشابي يظهر تعاطفا واضحا مع كل المثقفين والمناضلين من أجل الحرية والعدالة والتجديد، وينتصر لأفكارهم ولمواقفهم التي عادة ما تعرّضهم للقمع والسجن ولمظالم أخرى من هذا القبيل. وعندما أصدر الطاهر الحداد كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” والذي دافع فيه عن حرية المرأة، وعن حقها في العمل والتعليم، هاجمه شيوخ جامعة الزيتونة بعنف وقسوة. أما الشابي فقد انتصب مدافعا عنه. وفي الرسالة التي بعث بها إلى محمد الحليوي في شهر أكتوبر 1930، وهو ينتقد بشدة موقف شيوخ جامع الزيتونة “المتزمتين”، ويعبّر عن ابتهاجه بالحفل الذي أقامه المثقفون التقدميون لمساندة الطاهر الحداد. وثمة حدث آخر، كان له وقع حاسم على مسيرة الشابي الشعرية. فبحسب الأستاذ أبو القاسم محمد كرّو، التقى صاحب “أغاني الحياة” في خريف عام 1933، بالمناضل الوطني، والمثقف الألمعي الطاهر صفر في مدينة طبرقة. وكان اللقاء بينهما مناسبة لكي يتعرف كل واحد منهما على الآخر، ولكي يطيلا الحديث في مسائل وقضايا سياسية وثقافية. ومن المؤكد أن الطاهر صفر كان معجبا بموهبة الشابي الشعرية، وبآرائه في الأدب والثقافة، وإلا لما حرص على الاجتماع به. ومن المؤكد أيضا أن الأفكار التي طرحها الطاهر صفر أثناء ذلك اللقاء في المدينة البحرية الجميلة، أثارت إعجاب الشابي، وفتحت أمامه آفاقا جديدة لم يألفها من قبل. فقد كان الطاهر صفر المولود عام 1903 بالمهدية، قد درس القانون والآداب والفلسفة والاقتصاد في باريس في العشرينات من القرن الماضي. وكان عارفا بآداب العرب، القديمة منها بالخصوص. وكان يتميز بثقافة موسوعية تجعله قادرا على الخوض بكل يسر في كل القضايا والمسائل التي تطرح للنقاش. ولعله تحدث أثناء اللقاء المذكور عن كبار الكتاب والشعراء الفرنسيين والغربيين الذين كان مغرما بهم. ومن المؤكد أن الشابي المعروف بفضوله الشديد لمعرفة ما خفي عنه من آداب أوروبا، استمع إليه بانتباه، وإعجاب. ومن المؤكد أنه طرح عليه أسئلة حول مسائل كانت لا تزال غامضة في ذهنه. فلما انتهى اللقاء، شعر الشابي أنه “يولد من جديد” وأن مفهومه للشعر وللحياة بصفة عامة، بدأ يتغيّر ويتجذر. وهذا ما ستؤكده القصائد الرائعة التي سوف يكتبها خلال السنة التي سبقت وفاته. ففي هذه القصائد تخلى الشابي عن النغمة الحزينة اليائسة التي طبعت البعض من قصائده السابقة حيث كان يفرّ إلى “الغاب” باحثا في الطبيعة عما يمكن أن ينسيه عتمة الواقع، ومظالم الحياة، لينحاز إلى فلسفة القوة، والطموح، والأمل، أي لـ”إرادة الحياة” التي قد يكون حدثه عنها الطاهر صفر.. وها هو يرفع صوته متحديا: سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشمّاء أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا بالسحب والأمطار والأنواء لا أرمق الظل الكئيب ولا أرى ما في قرار الهوة السوداء وأسير في دنيا المشاعر حالما غردا، وتلك سعادة الشعراء أصغي لموسيقى الحياة ووحيها يحيى بقلبي ميّت الأصداء ورغم إيمانه بارادة الحياة، وأمله في نهضة قوية توقظ المجتمع من الخمول والركود فإن الشابي كان عالما بأن حياته سوف تكون قصيرة بحيث لن تمكنه من إنجاز ما كان يطمح لإنجازه. وفي رسالة بعث بها إلى صديقه محمد الحليوي، كتب يقول: “لقد ذقت ذرعا يا صاحبي، ولا أخالني إن ظلت الحياة على ما هي عليه اليوم إلا ذاهبا إلى القبر. أو في سبيل الجنون إنني أحاول أن أخط إليك ما تحسه نفسي من مرارة الأوجاع، وهموم الزمن الجائر. فلا أستطيع إلا مثل هذه الكلمات المتقطعة التي لا تكاد تبين عما أكابد من غصص العيش وبأسائه ولا تعبر عما يساورني من الأفكار المدلهمة كقطع الليل”. وفي رسالة أخرى، كتب يقول: “إنه لا يحزنني شيء في هذه الدنيا أكثر مما يحزنني التفكير في أنني أموت قبل أن اودّي رسالة الدنيا التي أحس أنني لم أخلق لغيرها في هذا العالم”. وعندما اشتد عليه المرض في صيف عام 1934 ترك الشابي الجريد وهو “سقيم، متعب، موهون القوى”، وسافر إلى العاصمة في أواخر شهر أغسطس 1934. وعند وصوله إلى هناك نصحه الطبيب بالاقامة في المستشفى. وفي مطلع شهر أكتوبر من العام المذكور لفظ أنفاسه، وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وقد يكون رحل إلى العالم الآخر وهو لا يدري أنه سيكون شاعر تونس الأوحد خلال القرن العشرين! رسائل الشابي وثيقة نادرة عن أحوال المجتمع التونسي في زمنه في الرسائل التي بعث بها أبو القاسم ألشابي إلى صديقه محمد الحليوي، نقف على العديد من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالحياة الشخصية لصاحب “أغاني الحياة “ وبالحركة الثقافية في تونس في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات من القرن الماضي، وبكل ما يتصل بها من صراعات بين “الرجعيين” و”المجددين” ومن سجلات في مواضيع مختلفة ومتنوعة، أدبية وشعرية، واجتماعية، وسياسية، وغيرها، بحيث يمكن القول إن هذه الرسائل التي تواصل تبادلها بين الصديقين خمسة أعوام كاملة (من صيف عام 1929 إلى صيف 1934) وثيقة نادرة عن أحوال المجتمع التونسي في الفترة المذكورة. وكان محمد الحليوي، أصيل مدينة القيروان السنية المحافظة طالبا في دار المعلمين العليا بالعاصمة لما تعرف على أبي القاسم الشابي، أصيل قرية الشابية القريبة من مدينة توزر عاصمة منطقة الجريد بالجنوب الغربي من البلاد والذي كان آنذاك طالبا يدرس الحقوق في الجامعة الزيتونية. حدث ذلك عام 1925. ومنذ إلقاء الأول، نشأت بين الشابين المتحمسين لأدب جديد، ولشعر نابض بالحياة يوقظ “الضمائر الميتة” و”النفوس الخاملة” علاقة صداقة متينة استمرت حتى وفاة الشابي في خريف 1934. ويذكر محمد الحليوي أن ميله إلى الشابي نشأ بعد أن لمس عند الأخير تشابها في المزاج. إذ أن كل واحد منها كان يعاني من غربة روحية في مجتمع لم يكن ينصت إلى ما يتلقاه من أراء وأفكار بخصوص الفن والحياة. إلى جانب هذا، كان الشابي ومحمد الحليوي ينهلان من نفس الينابيع تقريبا. وكانا يقرآن بشغف مؤلفات مشاهير الأدباء من أهل المشرق العربي مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، والمازني، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة. ويشير محمد الحليوي أن هؤلاء الأدباء والشعراء هم الذين فتحوا عقله وعقل صديقه “على عالم جديد من الأفكار والمفاهيم والمقاييس للأدب”. كما أنهم قادوهما إلى قراءة أبي العلاء المعري، وابن الرومي. أما جبران معلمهما الروحي فقد دفع الشابي إلى قراءة الأدب الرومانطيقي المترجم للعربية، ودراسة شعر ابن الفارض، وابن عربي اللذين كان يتحدث عنهما جبران في فصوله. ولأن الشابي لم يكن يحسن الفرنسية، فقد وجد في صديقه محمد الحليوي خير المساعد والمعين للتعرف على الادب الاوروبي. وبذلك تمكن من الاطلاع على بعض أثار لامارتين وفيكتور هيغو، وغوته، والفريد هوسيه، والفريد دوفييني وآخرين، الشيء الذي ساعده في ما بعد على إنجاز مؤلفه النقدي: “الخيال الشعري عند العرب”. وفي العديد من رسائله، كان الشابي يحث صديقه محمد الحليوي على تعريف التونسيين بأدباء الغرب، ويلومه لوما شديدا عندما يظهر تقصيرا في ذلك. وهذا ما نلمسه ونقف عليه في الرسالة التي أرسلها له بتاريخ 12 مارس 1930، حيث كتب له يقول: “وقد وعدت انك ستكتب، وكتبت عن كتابي ـ ويقصد “الخيال الشعري عند العرب” ـ وعن تولستوي، وعن أدباء الفرنجة، وانك ستترجم قطعا فلسفية، وقصائد شعرية وغيرها، ولكنك لم تنفذ من وعودك شيئا. ما هذا أيها الصديق!”. “إن تونس لفي حاجة إلى أبنائها التي تتدفق في دمائهم عزمات الفتوة ونخوة الشباب ونشوة الأحلام. إن تونس لفي حاجة إلى أن تتقدم بخطوات ثابتة إلى سبيل النور والزهور. إن تونس لفي حاجة إلى إن ترفع رأسها عاليا حتى تشاهد أنوار السماء وشموسه، وحتى تقبل شفتاها أضواء النجوم”. ويتردد تذمر الشابي من ركود الحياة الثقافية في تونس، ومن خمول الشعب، وممن يصفهم بـ”الأصنام الخشبية” التي تتحكم في الأدب والفن. ففي الرسالة التي يبعث بها إلى محمد الحليوي بتاريخ 26 مارس 1930، كتب يقول: “أخي العزيز، لا أقول لك شيئا جديدا إذا قلت إنني كنت تارة أتألّم وأحزن لحياتنا البائسة، وتشتت قوانا وخفوت أصواتنا وخلو تونسنا من كل حركة فكرية وكل حياة أدبية وبقائها بلدا هادئا مسالما، بعيدا عن كل الحركات الثائرة، والتطورات الظافرة”. وفي رسالة بتاريخ 22 فبراير 1933، عبّر ألشابي عن يأسه من انبعاث حياة ثقافية تعكس طموحاته وأماله، وكتب يقول في ذلك: “شكوت يا صديقي من جمود الشعب، وركود الأدب وموت أحلام الأديب، وشكوت من قسوة هذه الحياة التي تجر الواحد منا إلى أن يحيا حياة السّوّقة والرعاع، حياة السخافة والجمود، حياة المادة الصماء، الضيقة التي لا ترحم لا فكرا ولا عاطفة، ولا خيالا، ولا تحيي مثلا من الأمثلة العليا أو طيفا من أطياف الحنين الأعظم والشوق الإلهي النبيل، وهي شكاة لا تسمع في هذا القطر الضائع المغمور لأنه لا يفهمه إلا أفراد قلائل، ولا يحس بها إلا أفراد قلائل، ولا يتغنى بها إلا بضعة قلوب غريبة هائمة في مجاهل الأحلام”. وأحيانا أخرى يظهر الشابي سخطا شديدا تجاه المشارقة عموما، والمصريين خاصة لأنهم ينظرون إلى تونس وكأنها صحراء قاحلة على المستوى الثقافي والأدبي، فيكتب إلى صديقه محمد الحليوي قائلا: “ثم اسخط واحنق تارة أخرى على الشرقيين عامة، والمصريين خاصة، أولئك الذين لا يزالون يحسبوننا من الهمج، فلا يرون لنا أية مزية ولا يعترفون لنا بأية مكانة ويسقطوننا من حسابهم كما يسقطون من حسابهم زنوج إفريقيا، وهنود أمريكا، بل ولا يعرفون بالضبط حتى موقع بلادنا من إفريقيا الشمالية” . ولمقاومة الركود الثقافي في تونس، كان الشابي يتابع باهتمام كبير الحركة الثقافية في المشرق العربي، خصوصا في مصر، وكان يقرأ بشغف الصحف والمجلات التي ترد من هناك، ليتعرف على الكتاب الجدد، وليطلع على الإصدارات الجديدة في مجال الشعر والأدب عموما. ونظرا لانعدام وجود مجلات ثقافية جادة في تونس، فان الشابي فضل إرسال قصائده إلى مجلة “أبولو”. فجاءه الرد سريعا اذ نشرت المجلة المذكورة القصيدتين اللتين أرسلها إلى رئيس تحريرها، فأسعده ذلك كثيرا. غير أن إعجابه بالمجلة، وبجدية رئيس تحريرها لم يمنعا الشابي من انتقاده، ومن انتقادها. وهذا ما نقف عليه في الرسالة التي بعث بها إلى محمد الحليوي يوم 22 فبراير 1933، والتي كتب فيها يقول: “انك تتحدث عن مجلة “أبولو” وتقول: “إنها مجلة، وسيكون لها اثر عظيم في توجيه الشعر العربي من النزعة المدرسية إلى النزعة الرومانتيقية”. وأنا أشاركك في هذا الإعجاب، ولكنني أرى بينها وبين السمو خطوتين، الأولى أن يقسو صاحبها في انتخاب ما يرد عليه فلا ينشر إلا ما سمت روحه، وشرف أسلوبه حتى أصبح جديرا ولو أقل من كل “الجدارة “أن يصير فنا فاني أراه في كثير من الأحيان ينشر بعض الأشعار السخيفة المبتذلة في روحها وأسلوبها بالرغم من انه كثيرا ما يصرّح ويصرّح له بأنه يجب أن يكون قاسيا لا يعرف مجاملة أو هوادة في سبيل الحق والفن”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©