الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«دموع غزة».. «قصف سينمائي ثقيل» ضد الحرب

«دموع غزة».. «قصف سينمائي ثقيل» ضد الحرب
26 يناير 2011 19:45
بلقطات بالغة القسوة، بأسلوب مبدع وبأقل قدر من التقليدية التي تتميز بها الأفلام الوثائقية ترسم المخرجة النرويجية فيبيكي لوكبيرغ في فيلمها “دموع غزة” الآثار الفادحة بل المروعة التي تتركها الحرب على حياة الناس. ترصد شبحها المخيم على التفاصيل كلها؛ وفي الأماكن جميعها: الشوارع التي تغص بفوضى بشرية هائلة، الأزقة التي تفوح بروائح الموت والعطن الآتي من تحطم أنابيب الصرف الصحي، مزق اللحم البشري المحترق بقنابل الفسفور، الأرواح المدمرة والقلوب المدماة من هول المفاجأة، تتحرك الكاميرا بقسوة بالغة بين الجثث التي يتم إخراجها من بين الأنقاض وهي متفحمة بحيث يستحيل التعرف على وجوه أصحابها أو هوياتهم. تحفر الكاميرا في القلوب والأفكار باحثة عن بصيص أمل في خراب مطلق و... كامل النصاب. حضور كارثي بكل ما تعنيه الكلمة هو حضور الحرب لا سيما في حياة الأطفال الذين عاشوا لحظات مهولة من الخوف والهلع والفقد. فقد الآباء أو الأمهات أو الأهل كلهم أو فقد جزء من الجسد ذهب بفقده أغلب فرح الروح وهربت الحياة بعيداً أو باتت ضيقة كخرم إبرة. ها هنا، في غزة التي ترزح تحت قصف وحشي متواصل لا يترك فسحة لبذرة الحياة لكي تنمو، تقول الصورة اكثر من حمولاتها الفكرية المبتغاة، وتسير دقات القلب على أجساد الموتى المتناثرين على مدِّ الشاشة ومدِّ البصيرة التي أتقنت المخرجة صياغتها في مشهد يستفيد من تقنيات الفيلم الروائي وينجز صورة مغايرة بل فريدة على مستوى الفيلم الوثائقي. لم تكن فيبيكي لوكبيرغ توثق مشاهد الدمار المادي الماثلة في المشاهدات العينية والمتجسدة في حطام البيوت او الدماء او الأشلاء بل كانت توثق توثبات الروح في سعيها الحثيث، الدؤوب، وغير المسبوق ـ كما تقول ـ لاستيلاد الحياة من قلب الجحيم الفسفوري واستخراج الأمل من ركام التصدعات النفسية التي زلزلت الغزيين العزل الذين كانوا يعالجون الموت بالأمل... بهدوء وتؤدة، بصورة مكتنزة بالجماليات الفنية، بلا شعارات ولا هتافات ولا مقولات او تحليلات سياسية تركت فيبيكي للصورة أن تقول كل شيء... وأن تعلن وحدها بلا أي إضافات أيديولوجية معنى أن يتعرض شعب أعزل ومدنيون مسالمون لمثل هذا الكم من الموت، وأن يكتووا بهذا الطراز من العذاب الاستثنائي... وفي المقابل ان تصف ببلاغة غير عادية تلك اللحظات الهائلة من الفرح الفطري الذي يعيشه الغزيون في لحظات السلام وهم يخوضون غمار أحلامهم على شاطئ البحر الأزرق او على حواف أغنية شعبية قديمة تصدح بها حناجرهم في عرس يأتي على حين غفلة من الموت لكي يظهر تشابكات الحياة في أكثر مواقفها تراجيدية. بين روائح الموت البادية في كل ملامح الحياة وبين سعادات الأطفال المتناثرة على الشاطئ الشاسع ترصد الكاميرا بشاعرية فنية قصص ثلاثة أطفال من غزة (يحيى وأميرة ورسمية) وأحلامهم المتكسرة وآمالهم التي تورق في أقصى الروح، فيما يبدو أن كل ما فوقهم وما تحتهم وما حولهم يتآمر على براءتهم الغضة. سرّ الفيلم لم تذهب فيبيكي لوكبرغ لتصنع فيلماً عن غزة بل ذهبت لكي تكتشف سر الدموع التي رأتها ذات ليل شتائي بارد تطل عليها من شاشة التلفاز بينما هي تراقب الأخبار... تلك الدموع التي استطاعت سخونتها أن تتغلب على برودة الطقس النرويجي في الشتاء وأن تخلخل روح المخرجة محدثة فيها تلك الرجّة الإنسانية التي دفعتها لإنجاز هذا الفيلم. ولم يكن شعورها هذا سوى السياق الطبيعي لبحثها الفكري والسينمائي المعني بقضايا الإنسان والفقر والحروب وانشغالاتها بأسئلة الحياة المصيرية التي عالجتها في معظم أعمالها السينمائية، لكن ولأن الواقع كان بليغاً الى هذا الحد جاء الفيلم بمثابة وثيقة بصرية بليغة تدين الوحشية الإسرائيلية التي تبدَّت في المشاهد التي أكدت للعالم أن ما يحدث هناك جنون كامل. تقول في معرض تعليقها على الفيلم إن المرء “يعجز عن سرد ما جرى، وإن الصورة رغم أهميتها لا تقول كل شيء لأن ما حدث أكبر من كل قول ومن كل صورة”... هذا ما حدث بالفعل، وما لم تقله الصورة قاله الصمت الذي كان يتخلل المشاهد في بعض الأحيان، ولم يكن بإمكان من شاهدوا الفيلم أن لا تبكيهم دموع غزة أو تحرقهم النيران التي تنصب عليها من “الرصاص المسكوب”، ليس فقط لأن الفيلم يعرض مشاهد معذبة وموجعة تحفر في اللحم كما السكين وتفري القلب والروح، بل لأن فيبيكي لوكبرغ أمسكت بتلابيب الصورة بكل حذق وبراعة وجعلت منها وثيقة بصرية شديدة الثراء ومكتنزة بالأبعاد الإنسانية. وايضاً لأنها تمكنت من تجسيد بشاعة الحرب وإدانتها والتنبيه الى ما تورثه من أحقاد يصعب نسيانها او تجاوزها. ولأنها وهذا هو الأهم قدمت سرداً سينمائياً مكثفاً عن كيف يمكن للحياة أن تنتصر على الموت، وكيف يمكن للنساء والأطفال ان يعالجوا شؤون حياتهم اليومية بعد تلك الخبرة الدراماتيكية التي عاشوها خلال الحرب. إنهم يصرون على الحياة رغم كل شيء، تقول فيبيكي لوكبرغ ولا تخفي إعجابها بهذا الشعب الصلب (الذي نسميه نحن في أدبياتنا شعب الجبارين أو ننسبه الى أسطورة الفينيق الذي يولد من جديد من قلب الرماد)، وتضيف: إنهم يولدون من قلب الدمار، يمارسون الحياة في خيام او بين انقاض بيوتهم المحطمة التي لا جدران لها ولا سقوف، يحيون على انقاض احلامهم وذكرياتهم عن الاحبة الذين فقدوهم، يحاولون مداواة جراح الحرب التي خلفت لهم أطفالاً معوقين او جرحى، يحتاجون لكل شيء: للطعام والشراب والماء والمأوى والكهرباء وباقي المستلزمات التي يتحدث عنها الناس لكي تكون الحياة البشرية حياة، ومع ذلك يملكون كل هذه والقدرة على الحياة. أيّ سلام؟ في ظل أوضاع كهذه، في خراب منقطع النظير، في سماء ملبدة بالأحقاد والدماء والأشلاء، في بقعة تعاني الحصار الاقتصادي والتجويع وهي في الأصل ذات بنية تحتية فقيرة وموارد شحيحة ومحدودة، يبرز سؤال المخرجة وسؤال فيلمها مؤرقاً وحاداً: هل يمكن للحرب أن تحل الصراع أو تصنع السلام؟ تجيب فيبيكي لوكبرغ: “ما يحدث للأطفال من تشويه وقتل اثناء الحروب هو تحد حقيقي لنا جميعاً، وعلينا أن نفعل شيئاً حيال ذلك لا أن نقف متفرجين لا حول لنا ولا قوة. لقد شاهدت وجوه أطفال غزة الذين عايشوا الحرب لبرهة قصيرة، وسرعان ما شعرت بالاحتجاج ينمو في داخلي ضد الحروب كلها. الحروب لا معنى لها. انها مدمرة وينبغي للبشر ان يكفوا عنها وأن يلفظوها إلى الأبد. لا يمكن للحروب أن تكون وسيلة لحل المشاكل او النزاعات، أبداً لا تستطيع حل اي شيء عالق على المدى الطويل. في افلامي اهتم كثيراً بقدر الضحايا. وفي الصراع بين غزة واسرائيل أفترض أن هناك ضحايا على الجانبين، وعلى عاتق الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا تقع مسؤولية إنهاء هذا الصراع”. وتضيف: “كلي امل في ان يثير هذا الفيلم نفس مشاعر الاحتجاج لدى المشاهدين، وأن يلهمهم مواصلة الكفاح الذي يبدو أن لا نهاية له ضد المعاناة والفقر والحرب. لقد استفدت في الفيلم من الإمكانيات التقنية والتأثيرية الهائلة التي تقدمها لنا السينما، فالسينما على النقيض من التلفزيون تتيح لنا فرصة أفضل للفهم والاستيعاب، وآمل أن يساهم هذا النهج في تحفيز الرغبة لدى المشاهدين في الإسهام في خلق عالم أفضل، وتجاوز العوائق الكبرى المتأصلة في الصراع العربي الإسرائيلي. إن السينما وسيلة بالغة الأهمية في تحقيق التواصل بين البشر، وهي واحدة من وسائط الاتصال المؤثرة التي تم الاستيلاء عليها إلى حد كبير من قبل صناعة الترفيه”. الروح إذا توهجت من ديسمبر 2008 حتى يناير 2009 وهي الفترة التي يحكي عنها الفيلم ترصد الصورة أوجاعاً ما لها عدد، لكنها تتبع في الآن نفسه توهجات الروح، إذا ملأتها الإرادة في الانتصار على الموت وتألقت فيها الرغبة في الحياة ودفقها في نسغ الغزيين خلال الحرب وفي أعقابها، وتنتقل المشاهد بين التفجيرات الفعلية على إيقاع القنابل الفسفورية الحارقة التي حرقت أجساد الأطفال راصدة ما اشاعته الحرب من الدمار وما تركته في الشوارع والاحياء والمستشفيات من آثار. ولدقتها الشديدة والتقاطها من مسافة غاية في القرب تبدو اللقطات الفريدة التي صورها مصورون فلسطينيون بتوجيهات من المخرجة، بعد أن منعها جيش الاحتلال الاسرائيلي من الدخول الى غزة، للقنابل الفسفورية التي كانت تنهمر مثل المطر على رؤوس العباد أشبه بالخيال السينمائي، لكنها مشاهد حقيقية لا يمكن أن تمحى من الذاكرة. إنها مشاهد فصيحة، بليغة في دلالاتها وعمقها الفني ولهذا تضع الحقيقة بكل عريها بين يدي المشاهد. وهي في كثافتها تسرد الأهوال التي عاشها أهالي غزة المدنيين ومعاناتهم العجيبة في ظل النقص الشديد في كافة الخدمات، وفي غياب أبسط الشروط التي ينبغي توفرها لعلاج الجرحى أو مكافحة الحرائق الناجمة عن نيران القصف، تلك الحرائق التي لم يجد سكان غزة سوى أيديهم وبطانياتهم وأساليبهم البدائية لإطفائها لأن سيارات إطفاء الحريق ليست متوفرة. كل هذا وغيره، تقول المخرجة، يوضح لك على الفور سبب ذلك الشعور بالعدمية والغضب والرغبة في الانتقام الذي تنطوي عليه الصدور، لتضيف: “لقد اقتبست ما قاله لي طفل في ريعان الصبا: حتى لو أعطونا العالم فلن ننسى”. بحثت فيبيكي عن الغفران فجاءها الرد من أب يجلس بجانب ابنه الذي شوهت جسده القنابل الفسفورية وتركت بعض أجزائه متفحمة: “أي إله هذا الذي يؤمن به هؤلاء الناس (يقصد الإسرائيليون الذين يقصفون غزة بالفسفور)؟ من يستطيع أن يفعل هذا بالأطفال؟ ثم من أين آتي بالقوة والقدرة لكي أسامح وأغفر؟”. وتضيف: “حين تغلق أمام هؤلاء الناس كل فرص الحياة ما الذي بإمكانهم أن يفعلوه سوى الموت؟”. جدلية الموت والحياة تضع فيبيكي لوكبرغ مشاهد الموت والدمار والخراب في مقابل لقطات الفرح الغامر التي صورتها بعد انتهاء الحرب على غزة، فرح الناس على شاطئ البحر وهم يستحمون في مائه وماء أحلامهم الخضراء المورقة برغبة الحياة، وهم يرقصون على إيقاع أهازيجهم وأغنياتهم الشعبية في عرس لا يجد فيه العريس حوله أحداً من عائلته التي فقدها أثناء الحرب، لكنه يكبر على الجراح ويجترح فعل الحياة آملاً في غد أجمل، وهكذا في النزهات والزيارات والعمل على تنظيف الشوارع والأحياء والبيوت من مخلفات الموت والدمار الذي خلفته الحرب... إنهم يتوقون إلى الحياة توقهم الى الشمس التي تشرق كل يوم وترمي بقبلة الحياة الى بحر باتوا ممنوعين من الحصول على ما كان يهبهم إياه من الرزق... إنهم محاصرون لكنهم في العمق تماماً أحراراً يعرفون كيف يعشقون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا. هذه الاستراتيجية التي اتبعتها المخرجة في الفيلم ربما تثير غضب البعض، يقول الناقد الفني كايت فان دي فان، لكنها وسيلة ناجعة لكي تسلط الضوء على آثار الحرب على المدنيين... لقد حدثت الأمور نفسها بالتأكيد في درسدن وطوكيو وسراييفو وبغداد لكن غزة بالطبع غير كل تلك الأماكن. إن فيلم “دموع غزة” يطالبنا بأن نفحص الكلفة الباهظة للحرب على المدنيين والنتيجة هي حتماً مرعبة، موجعة، ولا تنسى. هكذا هو فيلم “دموع غزة”، على هذا القدر من التأريق الذي يدمر الروح، يخلعها من سلامها لكي يأخذها بأقل قدر من التقليدية إلى رحاب صورة مزعجة، مؤرقة، باذخة في إعلانها لأهمية الحياة وفي إدانتها للحرب وويلاتها. ومن المؤكد أن لا شيء مثل جمال الحياة يمكنه أن يبرز بشاعة الموت... وقديماً قال الشاعر: “والضد يظهر حسنه الضد”. عن المخرجة ولدت فيبيكي لوكبيرغ عام 1945 في مدينة بيرجن بالنرويج. وهي ممثلة وكاتبة سيناريو ومخرجة ومؤلفة فضلاً عن كونها واحدة من الشخصيات الشهيرة الرائدة في مجال الدفاع عن المرأة ومناهضة الحروب والفقر. بدأت حياتها الفنية في أوائل الستينيات من القرن الماضي كعارضة أزياء في روما وكوبنهاجن وباريس ولندن. في عام 1966 مثلت وشاركت في تأليف فيلم بول لوكبرغر “ليف” الذي أدخل اسلوباً جديداً إلى السينما النرويجية، واختير للمشاركة في مهرجان برلين السينمائي. وفي العام 1970 مثلت وشاركت في كتابة فيلم “إكزت” الذي اختير للعرض في مهرجان كان السينمائي. رحلت الى لندن وروما ثم عادت الى بلادها لتبدأ في تحقيق أفلام قصيرة عن النساء والقضايا الاجتماعية منها: “الاجهاض” 1970، “الطفل ينبغي ان يكون له أب” 1971 ويتحدث عن الاطفال الذين يولدون بدون زواج، “تاتر” 1972 ويعالج موضوع قمع الأقليات في النرويج، “المطر” 1975 وهو أول فيلم روائي لها ككاتبة ومخرجة، و”ريفليشن” 1976 ويتناول موضوع مصير النساء اللواتي فوق سن الخمسين والذي اثار جدلاً واسعا في النرويج وتم اختياره للعرض في مهرجان برلين السينمائي ومهرجان لندن للفيلم وحصل على جائزة مهرجان سان ريمو السينمائي، و”قصة كاميليا” الذي حصل على جائزة أكاديمية اللغة الأجنبية في النرويج، وجائزة النقاد النرويجيين وعرض في كل مهرجانات السينما في العالم واعتبر ضمن افضل عشرة افلام في سنة 1981 وأدخلته اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، و”سيجللز” 1991 و”عبر القمح” 1992 و”دموع غزة” 2010. شهد عام 1989 اول ظهور لها كروائية حيث اصدرت روايتها الاولى “ذي ليوبارد” ثم “في ظل الأرض” 1994 ثم “رسالة من الجحيم” 2004 ثم روايتها “اللايد” 2008.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©