الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بصيرة زرقاء اليمامة

بصيرة زرقاء اليمامة
28 فبراير 2008 04:49
يقول المثل العربي: أبصر من الزرقاء· وهو مثل يُطلق على حدّة البصر والبصيرة· وليس هذا اسماً، بل هو لقب كان يطلق على كثيرات· يقول الأصمعي: ''سمعت أناساً يحدثون أن ابنة الخس كانت قاعدة في جوار، فمرّ بها قطا وارد في مضيق الجبل فقالت: يا ليت ذا القطا لنا ومثل نصفِه مَعَهْ إلى قطاة أهلنا إذن لنا قطا مئةْ فاتبعت القطا، فعدت على الماء فإذا هي ستٌّ وستّون''· والواضح أن هذه الحكاية هي في الأصل أحجية أو حزورة يبدو أنها كانت منتشرة بين أهل الحيرة· ويؤيّد ذلك أننا نجد النابغة الذبياني يخاطب النعمان بن المنذر ويطالبه بأن يحكم كحكم فتاة الحي: فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمامٍ شراعٍ واردِ الثمدِ قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فَقَدِ فحسّبوه فألفوه كما حسبتْ تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد فكملتْ مائةً فيها حمامتُنا وأسرعت حسبة في ذلك العدد وهكذا فهو يطالب النعمان بالموازنة بين الوقائع بذكاء وفطنة كاللذين امتازت بهما الزرقاء الإيادية· وبالتالي فنحن أمام حكايتين: الأولى حكاية زرقاء الإيادية، وهي التي اشتهرت بالفطنة والذكاء، والثانية حكاية زرقاء اليمامة التي اشتهرت بالنبوءة وحدّة البصر· ومدونو الأخبار هم الذين جمعوا بين الحكايتين، لأن كلتيهما كانت معروفة متداولة في الحيرة· وسبب الجمع بينهما على ما يبدو اشتراكهما بلقب الزرقاء· وهو لقب نفترض أنه كان علامة فارقة للبطل الثقافي في حقبة تأسيسية معينة· حكاية مدينة تتعلق حكاية زرقاء اليمامة بمصير مدينة هي اليمامة، وباندثار شعبين أسطوريين من سكانها القدماء هما طسم وجديس· وقد رأينا سابقاً كيف كانت الحرب قد اندلعت بين القبليتين بسبب ما أمر به ملك طسم عملوق من ''أن لا تزفَّ امرأة من جديس إلا أُتيَ بها إليه حتى يفتضها قبل زوجها''· وقد بقي عملوق أو عمليق الطسمي يمارس عادته في افتضاض العرائس من جديس قبل أزواجهن حتى كان يوم زُفّت فيه إليه فتاة اسمها ''عميرة بنت غفار''· يقول البغدادي ''فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها فخرجت إلى قومها في دمائها شاقة درعها من قبلها ودبرها''· استعر الغضب في أخي عميرة الأسود بن غفار سيد جديس، وقرر أن ينتقم من عمليق وقومه طسم· فأولم وليمة دعا طسماً كلَّها إليها، واتفق مع قومه أنهم إذا جاءوا وجلسوا إلى الوليمة أن ينفرد كل واحد منهم بجليسه، وينفرد هو بعمليق· وقد نجحت الخطة فعلاً، وتمت إبادة طسم، لولا قلّة ممن هربوا إلى حمير· فلما سمع ملك حمير حسان بن تبّع بما جرى لطسم على أيدي أبناء عمومتهم جديس قرر أن يثأر لهم· جهز جيشاً جراراً في ثلاثمائة ألف راكب واتجه نحو اليمامة للقضاء على جديس· لكن بعض الطسميين الذين هربوا أخبروه بأن في جديس امرأة يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، لذلك لابد من التمويه عليها بأن يضع كل فارس غصناً من الشجر أمامه حتى لا تراه· وفي هذه الأثناء اعتلت زرقاء اليمامة حصناً من حصون جديس يقال له النبيل، وانتبهت إلى حركة الأشجار فصاحت في قومها: أي قوم زحفت إليكم حمير· وأرى شجراً ، وخلفها بشراً· فكذبوها، وقالوا: ما تزالين تأتيننا بالإفك· ثم رجعت بصرها فوضح لها صدق ما رأت فقالت: خذوا حذاركمُ يا قوم ينفعكم فليس ما قد أرى بالأمر يُحتقرُ إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ وكيف تجتمع الأشجار والبشر وناهضوا القوم بعض الليل إذ رقدوا ولا تخافوا لهم حرباً وإن كثروا لم يصدق أهل جديس زرقاء اليمامة، والذين صدقوها منهم قالوا كيف نبدأ بتغوير المياه، ونبادر بحرب قومٍ ربما طلبوا غيرنا· لكن جيش حسان دهمهم بعد أربعة أيام، فقتل الرجال وسبى النساء، وقلع عيني زرقاء اليمامة، وصلبها على باب جو، فسميت بذلك اليمامة· من الناحية التاريخية ينتمي الشعبان طسم وجديس إلى زمن أسطوري، زمن البدايات الهاربة من التاريخ· ولم يعثرْ لهما على أي ذكر في المدونات والنقوش العربية أو سواها· غير أن زمن الأسطورة السردي يرشدنا إلى شيء آخر وهو زمن الصراع على اليمامة وما جاورها من المناطق بين القبائل والدول العربية الشمالية والجنوبية· وقد نسب الإخباريون العرب إلى جد سلالة ملوك الحيرة جذيمة الأبرش أنه ''غزا طسماً وجديساً في منازلها من جو اليمامة وما حولها، فصادف خيل حسان بن تبع قد أغارت عليها فانكفى راجعاً بمن معه''· لكننا نعرف على وجه اليقين أن حفيده ملك تنوخ، وملك العرب كلهم الذي عثر على رخامة ضريحه في النمارة، امرأ القيس بن عمرو، الذي مات سنة 328م هو الذي هدد الحدود الشمالية لليمن في منطقة نجران· وكان يحكم اليمن حينئذٍ الملك شمر يهرعش الذي مات بحدود سنة325م· ومن خلال اختلاط زرقاء اليمامة بالزرقاء الإيادية، وإشارة الأسطورة إلى التنافس القديم بين الشمال والجنوب نستطيع أن نستخلص أن هذه الحكاية كانت تنطوي في الأساس على مادة تشير إلى حقبة تأسيسية جديدة في تاريخ العرب، هي حقبة الحيرة· ففي الحيرة تشكلت المادة الأساسية لهذه الأسطورة· مفارقة تأويلية لقد جعل راوي الحكاية الشخص الذي نبه حمير إلى قدرات زرقاء الخارقة شخصاً من طسم اسمه ''رياح'' كان قد هرب من وليمة جديس· وهنا تظهر مفارقة تأويلية مهمة، إذ كيف يمكن لأعداء زرقاء من طسم والحميريين أن يصدقوا بقدرتها على الاستبصار، ويكذبها قومها من جديس؟ لا يوجد في الحكاية أي تفسير لهذا· أن يصدق بها الأعداء، ويتخذوا الاحتياطات اللازمة في الاختفاء بالشجر، بينما يكذبها قومها وأهلها الذين حذرتهم· انتبه المسعودي لهذه المفارقة، فجعل زرقاء اليمامة من طسم، لا من جديس كما تزعم هذه الرواية، ولكنها تزوجت من شخص من جديس· وهكذا يكون تكذيب جديس لها بسبب نسبها في طسم· وهو يشير في ''أخبار الزمان'' إشارة غامضة إلى قدرتها التنبؤية بقوله: ''وقيل إن أُمها كانت كاهنة، وكان لها رئيٌّ من الجن''· هنا نتذكر مثيلة زرقاء اليمامة في التراث اليوناني، أعني كاساندرا الطروادية· كانت كاساندرا ابنة بريام، ملك طروادة، ولقد أحبها الإله أبولو· ولكنها لم تقبل هذا الحب· فخيّرها أبولو بين الخلود والفناء، فاختارت الفناء· فعاقبها الإله بأن أعطاها هبة النبوءة مع عدم تصديق الآخرين لها· وبذلك قضى عليها أن تعيش في العذاب، لأن كل ما تتنبأ به يتجاهله الناس· لقد تنبأت كاساندرا بدمار طروادة الوشيك على أيدي الإغريق، لكن قومها الطرواديين لم يصدقوها، تماماً كما حصل مع زرقاء اليمامة· وبالرغم من أن قصة كاساندرا الطروادية تشكل الإطار الداخلي لسقوط طروادة، فإنها لا تكاد تحظى بذكر في ملحمتي هومير، بل تأتي تفاصيل حكايتها في ملحمة فرجيل، التي تعنى بالتقاط ما سقط من نصوص هومير، حيث يعرض الكتاب الثاني من ''الإنيادة'' لوجهة نظر الطرواديين في كيفية سقوط طروادة· أراد فرجيل أن يعرض لوجهة نظر الإغريق في كيفية سقوط طروادة، فجعل واحدا منهم يصف كاساندرا على النحو التالي: كان هناك من انقلبوا وهربوا عائدين إلى السفن والساحل، وارتضى آخرون لأنفسهم ركوب العار، فامتطوا ظهور جيادهم، ليختفوا مؤلم أنه حين تختلف الآلهة مع أحد فلن تجد من يقف معه· هنا أمامنا لبثت كاساندرا، ابنة بريام العذراء، بشعرها الأشعث الطويل خارج معبد مينرفا، رافعة عينيها اللامعتين بخذلان إلى السماء رفعت عينيها وحدهما، وكأن يديها البيضاوين مقيدتان· استبد الغضب بكوروبس، ولم يحتمل ذلك، فاندفع في الخضم ليخوض غمار موته· المطابقة بين عيني كاساندرا ''اللامعتين'' وعيني الزرقاء تكاد تكون كاملة· فعينا الزرقاء كانتا ''تلمعان مثل الزجاجة'' كما يصفها النابغة الذبياني· يقول المسعودي في إبراز أهمية عينيها: ''كانت اليمامة الزرقاء، وعينها الواحدة أكبر من الأخرى''· وهذا اللمعان في عيني الزرقاء هو الذي دفع ملك الحميريين الغزاة إلى شق عينيها لمعرفة السر في قدرتها على الاستبصار· ''فشقّ عينيها فإذا فيها عروق من الأثمد''· لقد أفضى اقتحام طروادة إلى مقتل كاساندرا، وكذلك أفضى اقتحام اليمامة إلى مقتل الزرقاء باقتلاع عينيها اللامعتين· كأن الطرواديين والحميريين معاً يريدون إطفاء النبوءة التي استبقت وصولهم إلى أسوار المدينة المنهوبة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©