الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لسان إبليس

لسان إبليس
28 فبراير 2008 04:50
''حياة خالية من الحبّ هي الضجر عاتيا/ حياة خالية من الحبّ لا تساوي حبّة من الشعير''· هكذا غنى شاعر التروبادور برنار دي فانداتور في القرن الثاني عشر ميلادية· كان شاعراً جوّالاً مثل غيره من شعراء التروبادور المرموقين الذين فتنوا الدنيا وشغلوا الناس في كل مناطق وسط فرنسا وجنوبها، وفي شمال إيطاليا وأسبانيا والبرتغال· كان التروبادور يجوبون البلدان مزدهين بأناشيدهم، ناشرين ثقافة جديدة تدور حول تمجيد الحبّ باعتباره القيمة البشرية الأعلى· لذلك مجّدت أناشيدهم صورة العاشق المتيّم الذي ينذر حياته لخدمة من يحبّ، ويهب حياته فداءً لفكرة الحبّ ذاتها· لم تكن أناشيد العشق هذه من دون فاعلية إذ سرعان ما زرعت في وجدان الناس ثقافة التسامح والحرية في أوروبا التي كانت تروّج وقتها للتعصّب الديني وتمنّي النفس بحروب صليبية تقود إلى غزو بيت المقدس من جديد· ذلك أن البابا لوتاريو كونتي المعروف بإينّوسونت الثالث سيشرع حال انتخابه سنة 1198م في تشديد القبضة على التروبادور ويطارد فنهم الذي عدّه دعارة وتفسّخا للقيم الكنسية· والراجح أن إينّسونت الثالث كان من أولئك الساديين الذين يخفون حرصهم على إيذاء بني البشر تحت قناع من التعاليم الكنسية· فحالما تولّى كرسي البابوية دعا سنة 1198م إلى حملة صليبية رابعة على بيت المقدس· لكنّ الحملة لم تنجح في تخطّي مدينة القسطنطينية· ثم دعا سنة 1209م إلى حملة أخرى ضدّ الدولة الموحّدية في الأندلس والمغرب العربي· وعمد سنة 1215م إلى تجييش حملة صليبية جديدة مقصدها مصر· لكن هذا التعطّش لسفك دماء الآخرين خارج أوروبا لم يشغله عن التروبادور الذين عدّهم وباءً ينخر أوروبا من الداخل، وعدّ لغتهم الأوكسيتانية ''لسان إبليس''، واعتبرهم زنادقة، وأوغر صدر ملك فرنسا وزيّن له مطاردتهم· وهو ما حدث فعلاً في الحملة المسماة حملة الألبيجوا التي أدّت فعلاً إلى اندثار حضارة جنوب فرنسا وضياع أناشيدها وآدابها· ولن تؤدّي الانتفاضات العديدة التي خاضها الأوكسيتانيون إلاّ إلى اشتداد قبضة القمع· وحدها اللغة الأوكسيتانية نجت من المحرقة إلى حين· لكنها ستندحر يسيرا، يسيرا، عندما تصبح اللغة الفرنسية لغة قومية· وسيحرص ملوك فرنسا وحكامها طيلة أكثر من قرن على منع تداول الأوكسيتانية في الإدارة والسياسة والتعليم· بل إن هذه اللغة الطريدة ستعامل على أنها معرّة تشين من يلهج بها· وحدهم المبدعون من شعراء ومسرحيين وروائيين ومغنّين سيصرّون لاسيما بعد انتفاضة أيار 1968على العودة إلى اللغة الأوكسيتانية ويمنحونها حق البقاء· يكفي أن نقرأ أعمال شعراء من أمثال بيار فيرلاك جون ماري بتي وجون إيف روايي ونيكول درانو ستانبيرغ، وسندرك أن هؤلاء هم حقاً أحفاد التروبادور الذين مكر التاريخ بأجدادهم· أما هم فمكروا بسطوة الحكام وعبث الأقدار وأثبتوا أن اللغة التي عدّها البابا إينوسونت الثالث ''لسان إبليس''، لغة في منتهى البهاء·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©