الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فلسطين.. حلول فنية لخراب الخيال!

فلسطين.. حلول فنية لخراب الخيال!
4 أكتوبر 2012
تعيد بعض اللوحات الفنية الاستشراقية التي تعرض في متحف الشارقة للفنون تحت عنوان “بلاد الشام”، وتضم نخبة من مقتنيات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، مسألة الاستشراق بشكل عام والاستشراق الفني بشكل خاص إلى الواجهة من جديد، لا سيما وأن هذه الأعمال باتت تجد رواجاً في السنوات الأخيرة، وتطرح نفسها بقوة في مزادات الأعمال التشكيلية واللوحات الفنية. ويرى بعض النقاد زن هناك فرية اسمها “سحر الشرق”!.. بل إن بعضهم يعتبر هذا المصطلح “اختراعاً أو بدعة محضة” مررها لنا الغربيون لكي نرى بلادنا بعيونهم، سيما في تلك الفترة المبكرة التي لم يكن فيها كاميرات ولا صور إلا ما ندر.. خصوصاً أن معظم الفنانين كانوا انتقائيين نوعاً ما في ما اختاروا من المشاهد والمظاهر التي رسموها، فأبرزوا تلك الطقوس والأماكن التي تعضد النظرة التوراتية لفلسطين وكأن الهدف كان إيجاد ديكورات حقيقية، على الأرض، للمشهد الذي في المخيال المقدس. شهـيـرة أحمــد أما عن أسبابهم في تسويق هذه الفرية فحدث ولا حرج، اتهامات وتحليلات ورؤى، بعضها مع وبعضها ضد، وبعضها يقف على أرض الإبداع البحتة رافضاً تسييس اللوحة معتبراً أن هؤلاء الفنانين قدموا لنا خدمات جليلة، وأضاءوا جماليات العمارة والتراث والطبيعة وتركوا لنا وثائق بصرية فريدة... وبين هذا وذاك يظل الاستشراق لغزاً و”يظل”المعنى في بطن الفنان”!.. وتظل لنا هذه الثروة من الأعمال الفنية التي تتسم، شئنا أم أبينا، بجمال كثير بل ببذخ جمالي في بعض الأوقات. نضوب الخيال الأوروبي هل المسألة برمتها نوع من البحث عن الذات والحنين الرومانتيكي إلى عالم أكثر بساطة من ذلك الذي نشأ في أوروبا مع الثورة الصناعية وما أفرزته من مشكلات وأزمات انعكست على الفنانين الذين وفدوا إلى الشرق باحثين عن حلول فنية لخراب الخيال؟ لم لا.. فمعظم الرسومات المبكرة التي أنجزت في بدايات القرن الثامن عشر لم تكن نابعة إلا من الخيال، واعتمدت على نصوص الرحالة الذين زاروا الشرق، والفنانون الذين نحوا هذا المنحى يذكرون ذلك في ذيل العمل.. لكن بالمقابل ثمة لوحات أخرى لا تنتمي إلى الفانتازيا بل هي جزء من الواقع تصور ما هو موجود بالفعل على الأرض وإن في مسحة خيالية غايتها تحقيق أبعاد فنية وجمالية. ويبدو أن الفكرة بدأت في إطار المشروع الاستعماري، لكن الأفكار بما لها من قدرة على التحول والتبدل خرجت على النص، وشبت عن الطوق المضروب حولها، وذهبت بعيداً في اختبار المعرفة.. فوجد الفنان نفسه أمام تاريخ وحضارة وثقافة لا يمكنه، وإن تجاهل مبدعيها، أن يتجاهلها كلية، وربما تركت أثرها على حياته وسلوكه وفنه. فالأخبار ترد عن فنانين افتتنوا بالشرق وعاشوا حياة العرب والمسلمين ونضوا عنهم لباسهم الغربي ليرتدوا اللباس الشرقي.. إلا أن الذين يرون في الاستشراق فكرة استعمارية بحتة يفسرون ذلك بأنه زيادة في التمويه على الأهداف الأساسية والتغطية على الدوافع الخفية، وأن كل ذلك لإقناع العرب بأن ما يفعلونه مجرد قراءة ثقافية للمنطقة من خلال الفن، ويستدلون على ذلك بالكثير من الأعمال الفنية بشكل عام، وبما حصلت عليه فلسطين تحديداً من اهتمام خاص لدى هؤلاء المستشرقين. مع ذلك، وبالرغم مما قيل ويقال عنها وعن الأغراض التي دفعت فنانيها لقطع الفيافي والقفار، ومكابدة الأخطار في رحلات لم تكن دائماً مأمونة ولا مكللة بالنجاح.. ورغم ارتباطها بالاستعمار وحملاته على المنطقة.. يظل في لوحات الفنانين المستشرقين سحر ما، خفيُّ، يثير مكامن الإعجاب في النفوس، ويحرك الهوى القديم الذي لا يفلح العقل أحياناً في لجمه أو كبح جماحه... بيد أن الجزء الخاص بفلسطين في معرض “بلاد الشام” يأخذك إلى ما هو أكثر من السحر.. إلى الحزن الفلسطيني العابر للأرواح والعصور. الاهتمام غير الجميل! تدخل إلى المعرض باحثاً عن “المعنى الذي في بطن الفنان”، تقرأ في كتيب المعرض التالي: “تحتل مجموعة فلسطين المساحة الأكبر من حيث عدد اللوحات قياساً بالأقسام الأخرى، ربما نتيجة لولع الرسامين الاستشراقيين بسبر أغوار الأراضي المقدسة في فلسطين واتجاههم لرسم عدد كبير من اللوحات التي تروي التاريخ وما يحفل به من آثار تنتشر في القدس، بيت لحم، الناصرة، الخليل، بيسان، أريحا، رام الله، عكا، جبل الزيتون، عسقلان، غزة، يافا، الرأس الأبيض”. يذهب بك الظن إلى أسباب أخرى وراء هذا الاهتمام الهائل بفلسطين من قبل الفنانين الرحالة (الرومانسيين!).. أسباب تدلك عليها علامات تختبئ هنا وهناك في تفاصيل الأعمال. ولا تصدق أن الغرب أراد معرفة الشرق أو الهروب من نزعته المادية المتعاظمة إلى رومانسية الشرق. ويثور في ذهنك السؤال: هل سارت اللوحة الفنية الاستشراقية على الدرب العقلي نفسه الذي سار عليه العقل الغربي وهو يختلق صورة الشرق التي تبرر استعماره؟ هذه مسألة عويصة ليس لها إلا إدوارد سعيد، الذي استطاع أن يخترق الحرم الداخلي للاستشراق ويضع يده، وقلمه، على تناقضاته البنيوية ويشرح دوافعه ونوازعه والمطبات الفكرية التي وقع فيها، وإن كانت قراءة متعمقة للمنتج الفني الاستشراقي كفيلة بها.. أما هنا، في هذا المعرض، فالأعمال بشكل عام تميل إلى النزعة التوثيقية لمظاهر الحياة والبيئة والطبيعة لكنها لا تخلو من غرابة أو قصدية تعنى بتهميش الحضور البشري والمادي للسكان العرب الفلسطينيين مع الحرص على إبراز اليهود وأماكنهم (ديفيد روبرتس وباتليت وجاكوتيه).. ناهيك عن ظهور الفلسطيني في أزياء غريبة ومختلفة إلى حد كبير عن الأزياء التي استخدمها الفلسطينيون والتي يظهرون بها في الصور القديمة وهي الكوفية والدماية والسروال والعباءة والقميص الداخلي والثوب الفلسطيني بشكل خاص الذي يميز فلسطين (من حيث الزي) عن باقي الدول العربية المحيطة بها، وهو زي كنعاني قديم تبوح رسوماته وزخارفه ليس فقط بالجمال والإبداع الفني اليدوي بل بالعراقة التاريخية والامتداد الحضاري والتاريخي في الأرض.. وفي رموزه دلالات ثقافية عميقة لعل المستشرقين لم يرغبوا في إبرازها بل لكي تظل هذه الأرض “أرض بلا شعب”. هنا، يبدو المكان الفلسطيني شبه خال من السكان، تغيب بيارات البرتقال والليمون التي تشتهر بها فلسطين.. تغيب مواسم الحصاد التي تحمل من الجماليات الفنية ما يمكنه أن ينتج لوحة فنية تتميز بجمال من العيار الاستثنائي وليس الثقيل فقط.. يغيب قطاف الزيتون الذي يمكن لعمل فني لديه هذه الإمكانيات التصويرية والحرفية أن يجسده في عمل يفتح لصاحبه باب الخلود الفني على مصراعيه.. تغيب الأعراس وحفلات الطهور ومواسم الأنبياء التي تبهر العين في الواقع فكيف إذا جاءت في هذه الصيغ الفنية العالية... لكن لماذا كل هذا الغياب؟ لماذا تغيب الحقول والبيارات والبشر وتحضر الطبيعة من دون ناس؟ يمضّك السؤال ولا تجد في تلك الرحلات الاستشراقية، والغزوات الخيالية، لفلسطين وما حولها (مصر وسوريا والأردن ولبنان) سوى الفكرة التوراتية القديمة التي تعتبر كل هذه المنطقة، من الفرات إلى النيل، “أرض الميعاد أو أرض إسرائيل”. جغرافيا الفردوس بالمشهد الفلسطيني تبدأ جولتك الفنية في المعرض.. بالطريق الطويل إلى الألم، بدروبه الصاعدة إلى الجلجلة. تمسح المكان القديم بنظرة عجلى. تغالب دمعة تقف على سقف العين تأبى الهطول. تستعين بكل ما في روحك من يقين الإيمان وحكمة الكلام الكنعاني العتيق. تتأبط رباطة الجأش كلها لكي تعينك على إكمال هذا الحج الروحي إلى الألم... وتبدأ. في الممر الجهنمي الذي يشق المعرض إلى قسمين تتعثر خطاك.. يميناً أم شمالاً؟! ما الفرق؟ وكل الاتجاهات تؤدي إليها.. وما دام الحزن أمامك وخلفك وبين يديك “فعلى أي جانبيك تميل”؟! تعد 91 لوحة وجدت أماكنها فوق الجدران. تعود إلى القرن التاسع عشر لتجد نفسك في حضرة الأماكن التي كانت. أماكن تعرفها، وربوع ربما لعبت على بعضها، وطرقات أخذتك إلى المدرسة أو الحقل، لكنها هنا تبدو مختلفة تماماً.. لها نكهة لا تشبه تلك التي تجد طعمها تحت لسانك.. ربما تلك الحشائش الصغيرة النامية على ربوة، قرأت عليها تشيخوف أو وضعت نفسك بين فكَّيْ دوستوفسكي ذات هروب لك من عقم الحفظ الدراسي، هي التي تصنع الفرق بين ما تعرف... وما ترى أمامك!. تنبيك مشاهد اللوحات المنفذة بأسلوب الطباعة الحجرية، وكلها مطبوعة على حجر الروح، بالذي تعرفه والذي تستهجنه. أيهما أصدّق يا ترى...؟ لا يعنيك السؤال كثيراً.. يعنيك هذا المشهد الذي يضيء الجغرافيا العتيقة على ضوء شحيح يأتي من أسطورة تقبع بعيداً في عقل الرسام.. لا يعلن عنها بل تبوح بها خلسة، عن غير وعي منه، تفصيلة هنا.. أو ضربة لون هناك. تستجلي مكنونات المكان، كنهه، جغرافيته، وجغرافيا القلب... تبدأ الحزن من أوله: القدس وغربتها الكاملة، الخليل ووجعها المنتسب إلى إبراهيم، الناصرة ومسيحها المعذب، رام الله ورونقها الذاهب في الأبيض الثلجي إلى حيث يصل مدى الرؤية، عكا وأسوارها، أريحا ونخيلها وأشجار التمرحنّة التي لا تنفك تعطر مرابعها بالعبق، عسقلان وحصونها وجبروتها التاريخي العريق، غزة وصلابتها الروحية وعنادها القديم، عروس البحر يافا وأُنْسها الغارب، قيسارية وما خطه الزمان على حجارتها البهية، المجدل المجدولة بالهوى والغناء، طنطورة التي تتربع على مجد مدينة دور الكنعانية، ونابلس التي تتوهج في القلب مثل جمرة الحب الأول. تسير في مرافق الذاكرة المتشعبة، تمر بمدن و... قرى وبساتين وقلاع وحصون وعيون ووديان وخرائب وآثار ومساجد وكنائس ومحاريب وأضرحة وغير ذلك كثير… كثير. الطبيعة بكل فتنتها في مشاهد الطبيعة الجميلة التي رسمها الفنانون تتشابه المعطيات، وتتقارب الأساليب الفنية. يغمر الضوء الأعمال.. إنه ضوء الشرق الذي هدى أصابع هؤلاء الفنانين إلى ضالتهم. تسرح الخضرة في السهول (سهول قراوة في منطقة الغور) إلى ما شاء لها الله.. والجبال تصعد في الارتفاع عالياً عالياً مثل نشيد ملحمي قديم. جبال شاهقة، تتموج مثل أمواج البحر العاتية.. تتكسر عند السفح في ليونة.. والمشهد كلّه رومانسي جميل تبدو فيه البيوت البيضاء الصغيرة التي لا يظهر منها سوى قبابها مثل حلم ليلة صيف. تغتسل عيناك في فتنة بحر أزرق شاسع ترتاح عند قدميه المدن، وسماء واسعة صافية تحتل خلفية المشهد، وتلتقي مع البحر عند خط الأفق. تنفتح المشاهد على سمائها كما تنفتح روح المتبتل في محرابه القدسي... يضج الماء، يصخب، يعلو، يعانق الجبال الممتدة يسيل من أطراف اللوحات ليصب... في الذاكرة. ذاكرة البيوت المتراصة على جانب البحيرة “بحيرة طبرية”، ذاكرة الطريق الطويل الذي يسير عليه بعض الفلسطينيين على خيولهم صاعدين إلى الكرمل أو هابطين المرج (مرج ابن عامر) الذي لم يعد عامراً سوى بزيف الحكاية التلمودية التي خلعت من الأخضر الممتد أحبابه وتركتهم للعراء. أما عكا التي تجاور البحر منذ القرن التاسع الميلادي فتخبرك عبر صمودها الأسطوري في وجه الغزاة الذين تواتروا عليها أنها لا تخشى هدير البحر وما تزال على العهد، تنتظر العائدين. دقة التصوير وروعته، وبراعة هؤلاء الفنانين، تتبدى في رسم الجبال وتدرج ألوانها من البني الفاتح إلى الغامق... وفي أغصان الشجر التي تميل مع الريح حتى تنغمر رؤوسها في مياه البحيرة، تماماً مثل ما تفعل النوارس أو طيور البحر الأخرى. بينما البرك “برك سليمان” تروي ماء الحكاية عن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك الذي أراد مكاناً يبترد فيه وتشرب منه خيله. على مد البصيرة تتناثر خيامهم.. صغيرة جداً تبدو في بهو الطبيعة الهائل.. فيما قيسارية على ساحل الأزرق المتوسط، تعلل النفس بالآمال وتطلق طيورها محلقة إلى أعالي السماء.. ومعها تحلق طيور الروح إلى مكانها الأول. أما الناصرة فتبدو جميلة، منظمة، مرتبة في أشجارها المصطفة حولها في القرن التاسع عشر.. وهي بالمناسبة كذلك في الحقيقة. هذه المدينة عريقة في كل شيء: في علاقتها مع المقدس واحتضانها له.. في بيوتها الحجرية ذات النقوش المضيئة. في صباحاتها المشرقة التي تنغزل على مهلها بين يدي الشمس، في جبالها التي ترتمي مثل شال عتيق على كتفيها.. وأمام مشهدها النهاري المضي ودروبها المترامية تتعطل لغة الكلام لتذهب لغة اللون والضوء في البوح إلى أقصاها. الجمال والجلال بين اللوحات التي توثق المكان الفلسطيني دينياً، وتفصِّل في المشهد كما يحلو لها، تلتقط النائي، وما يغيب عن نظرة الناس العاديين. تضخ في المألوف حياة أخرى. تشهق المشاهد على اتساعها لتستعيد العين قدرتها على التحديق. وللأماكن الدينية في فلسطين حظوة بيّنة في أعمال هؤلاء الفنانين.. فهذه تطرح بانوراما عامة لمدينة القدس، وتلك تصور ضريح السيدة العذراء، وثالثة ترسم كنيسة المهد في بيت لحم ورابعة لـ “محراب المسجد العمري” في القدس، وخامسة لـ “خيام الحجاج في أريحا”، وسادسة لـ “كنيسة القيامة”، وسابعة لـ “ضريح زكريا”، وثامنة لـ “المسجد الأقصى”، وتاسعة لـ “قبة الصخرة”، وعاشرة لـ “كنيسة القديس سابا”، وتتوالى اللوحات: دير القديس سابا، مذبح كنيسة المهد، باب الرحمة (القدس والأسوار)، بوابة دمشق، كنيسة القيامة، حجر الطيب، كنيسة القيامة، كنيسة سانت جيمس، آثار كنيسة يوحنا المعمدان في سبسطية، “ضريح زكريا (وادي سلوان)، النافورة العليا في سلوان و... حائط البراق الذي حمل اسم “مكان الانتظار”.. وهنا، فقط، يظهر البشر بكثافة وبكل الغنى اللوني التي تتيحه لوحات مطبوعة حجرياً. تحت ضربات الضوء المتقنة يسير اللون في خط تصاعدي. تسير معه لتدخل القدس من جهة بوابة دمشق فتقع على جلال باهر، أو تعبر إلى جمالها ممتطياً الغيم فتراها كتلة مضيئة تتوسط اللوحة، ومن بعيد تبدو لك قباب المساجد والمآذن مثل نجوم مضيئة تحيط بقبة الصخرة المشرفة، فيما يلف المدينة كلها سورها العتيق الذي حماها مراراً وتكراراً... وعليه، وعلى صخرة إرادة أهلها تكسرت أحلام الغزاة. تضيء السلاسل الحجرية في أسفل اللوحة، فيما خلفية المشهد كله ممنوحة لسماء شاسعة، تتصاعد من أسفلها الغيوم في موال قديم، وأبيض، إلى السماوات العلى. في رسم الأماكن الدينية يحقق ديفيد روبرتس قصب السبق سواء من حيث الكم أو الجودة الفنية.. وعن ديفيد روبرتس حدث ولا حرج، يمكنك تدبيج عشرات المقالات عن جمالياته الفنية وقدرته على تقويل الحجر وإنطاق الصخر الصامت، وعن الروح البديعة التي تتغلغل في لوحاته إلى درجة تصيبك بـ “الدوخة”، وعن الألوان التي “تتساير” مع بعضها في ألفة وتناغم، بحيث يبدو عمله كله حكاية متآلفة المقاطع، ومتحدة المبنى. لكن كل هذا التمكن لا يعفيك من ضرورة الإشارة إلى الطريقة التي ظهرت بها فلسطين في أعماله.. وسرّ تركيزه على فلسطين من حيث كم اللوحات التي أنتجها بحيث تبدو رحلته الى الأردن ولبنان تحصيل حاصل، وكأنما هي تمويه لصرف الأنظار عن كون فلسطين هي الغاية الأساسية وراء رحلته التي كاد يفقد حياته خلالها. ترى، هل جاء التركيز على إظهار الموضوع الديني بسبب كثرة الأماكن الدينية في الأرض المقدسة، وكونها مهبط الأديان السماوية ؟ أياً كانت الإجابة فإن المستشرقين الذين جاءوا إلى الشرق عامة، وفلسطين خاصة، أتوا مدججين بالمعرفة التوراتية وممتلئين بالمخيلة الأسطورية لاكتشاف أو بناء حقائق المكان الذي في الأسطورة على الأرض. في توثيقها لذاكرة المكان الفلسطيني تسلك الأعمال سبيلها إليك.. وإذ تتخصص أكثر لنقل مشهد تفصيلي تحملك إلى نائيات الذاكرة، ومختزناتها الغاربة عن ذلك الفردوس الذي لطالما كان جنة موعودة، وأرضاً للعسل واللبن ومن ثمَّ صار مكاناً... للموت. التاريخ.. بالأبيض والأسود بالأبيض والأسود لا غير، يحضر التاريخ عبر آثاره ولقاه وشواهده المعمارية، يضيء الأبيض الحصون والقلاع والأضرحة بفصاحة لونية تحتل منتصف اللوحة فيما كل ما حوله يميل إلى الكتمان.. يتخلص الأسود من سواده شيئاً فشيئاً ليدخل في الأبيض الناصع حين يصل إلى قمة القلعة أو الحصن أو الضريح أو القبة... ربما يتدخل البني قليلاً عندما تحضر الصحراء أو البادية فيتذهَّب (من ذهب) متماهياً معها، متوحداً مع غلالتها الذهبية الشفيفة. يلتف الشجر بكثافة هائلة حول القلعة، تتراجع السماء لتترك المساحة الأكبر من العمل الفني للقلعة الضخمة التي تمتد فوق الجبل الشاهق … تتناثر غيوم في خلفية التكوين الأساسي .. وينحصر العمل بين لونين: الأخضر والبني. شاهدة على عمقها التاريخي والحضاري تطل آثار “طنطورة” من اللوحة التي تعكس في بلاغة فنية جماليات الإرث الكنعاني المعماري وعراقته، وطنطورة واحدة من القرى التي دمرت وبنيت على أنقاضها مستوطنة فيما احتفظت السلطات الإسرائيلية بآثارها كمناطق سياحية. تذكرك الطنطورة بدير ياسين وقبية والسموع.. تصرخ السموع: أنا هنا. تحدق في اتجاه الصوت الذي يقذف سؤاله الحارق في وجهك: ماذا ستكتبين عن فلسطين؟! وئيداً تسير في حقل الحكايات هذا كي لا تنفجر واحدة أخرى في وجهك، وسرعان ما يخيب مسعاك إذ تبصّ عليك “المحرقة” من لوحة أخرى (والمحرقة هي المكان الذي كان فيه الكنعانيون يضحون بالأيّل) لتذكرك بمحرقة أخرى كبيرة حدثت في العام 1948 عندما استبيح هذا الجمال من العصابات الصهيونية.. وبمحرقة لا تزال جارية وكل ما تستند إليه فكرة مرعبة مفادها “إن فلسطين أرض بلا شعب”... وأنها جنّة بلا ناس. فيما يقول الفلسطينيون في مثلهم الشعبي الشهير “الجنَّة من دون ناس ما بْتِنْداس”، أي أن الجنَّة نفسها من غير بشر يعيشون فيها لا يمكن الحياة فيها، فكيف تكون فلسطين “جنَّة” بلا ناس؟! اللوحات التي في المعرض، رغم أنها لا تبرز الحضور البشري للإنسان في المكان، تقول بكل الألوان واللغات والطرق إن فلسطين “جنَّة فيها ناس”، وأن ناسها عاشوا منذ آلاف السنين وهذه آثارهم تشهد لهم ... لكن ماذا عنك أنت؟ تخرج من المعرض .. تغزو أنفك رائحة البحر.. تقف في مواجهة بحيرة خالد وهي ترفل في هدوء الشارقة المحبب.. خلفك بحيرة وأمامك بحيرة وروحك على بحر الحنين تستعيد سؤال السموع: ماذا تكتبين عن فلسطين؟ تصرخ كالملسوع: آه صحيح... ماذا سأكتب عن فلسطين!!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©