الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيالات الحضارات

خيالات الحضارات
4 أكتوبر 2012
يتبادر للذهن تساؤل كبير وعجيب، كلما أمعنا التفكير في رحلة الإنسانية الأزلية، كلما تعمقنا في عصورها القديمة وسنواتها الضاربة في التاريخ، تساؤل حول هذا الكم الهائل من المخترعات والمبتكرات والعلوم المتنوعة والمعارف المكتسبة، والتي الكثير منها نتاج تراكمات من التجارب والتطوير المتتالي حتى وصولها للكمال في خدمة الناس: كيف أن الإنسان لم يوفق في حفظ الكثير من إرثه وإنجازاته؟!. وسبب هذا السؤال، هو إن هناك اعتقادا بأن الذي وصلنا من كل هذا الكم الإنتاجي والمعرفي في كل المجالات، هو شحيح مقارنة بما أنتجه الإنسان منذ عصور التجمعات الأولى وصولا إلى المدن فقيام الأمم. وهذه الحالة ـ عدم وصول الإنتاج الإنساني كاملا ـ لها أسباب عديدة تحدث حولها كثر من خلال المئات من الدراسات والبحوث، بعض هذه الأسباب ساهم الإنسان فيها بشكل مباشر ومتعمد، كهدم وتحطيم منجزاته بسبب الصراعات والحروب والتقاتل، ومنها محاولة المنتصر إلغاء وإخفاء معالم أي تميز وتقدم لمن لحقت به الهزيمة. وهناك أسباب غير مباشرة، كالجهل بأهمية المحافظة على المكتسبات الإنسانية ومن ثم نقلها إلى الأجيال التالية. وكذلك أسباب طبيعية كالفيضانات والبراكين ونحوها، فضلا عن أسباب أخرى. العلم والخرافة عمر البشرية على الأرض كبير جدا، وتتفاوت تقديرات العلماء، فهناك من يقول انه ستة ملايين سنة وآخرون يؤكدون أنه أقل، ولكنه ـ أي الإنسان ـ لم يتمكن من التقدم والتعلم إلا منذ نحو 300 سنة، وهذا ما أشار له العالم الدكتور برتراند راسل، في كتابة: “أثر العلم في المجتمع”، حيث قال: “يعود وجود البشر إلى نحو مليون سنة، وتعود معرفتهم بالكتابة إلى نحو ستة الآف سنة، بينما تعود معرفتهم بالزراعة لحقبة أقدم قليلا، أما العلم فقد تواجد كعامل مهيمن في تقرير معتقدات المثقفين من البشر لنحو 300 سنة، في حين أنه أصبح مصدرا للتقنية الاقتصادية منذ 150 سنة وحسب”. وهذا يعطي دلالة كبيرة على تأخر الإنسانية بل وبطء شديد في تطورها وتقدمها. وهناك جانب آخر من المعضلة حيث لا يمكن أن يفهم كيف تمكنت أمم من التميز والتقدم في عدة مجالات كالبناء والتشييد بل وفي بعض الجوانب الطبية، فضلا عن اختراع وسائل للصيد البحري أو مطاردة الفرائس في الغابات، ومن ثم انهيار هذه الأمة واختفاء مصادر قوتها والأدوات التي استخدمتها.. والأمثلة كثيرة، مثل الأهرامات في الحضارة الفرعونية حيث توجد عدة نظريات عن كيفية بنائها، ولا شيء مؤكد في هذا الإطار، وكذلك الأمر في حضارات الإغريق واليونان وغيرهما، حيث كانت تستخدم أعشاب ومشروبات يتم تصنيعها من أوراق أشجار معروفة لديهم لمعالجة آلام البطن والتخفيف من الصداع ومعالجة الكسور، ولسعات الزواحف الخ.. وجميعها وسائل علاجية لم تنقل إلينا كاملة، ومضى عمر طويل حتى عرفنا الكيفية التي تعد فيها هذه الأدوية، بمعنى كنا نقرأ في تاريخ أمة من الأمم فنجد أن المعالج الفلاني قدم مشروبا لأحد المرضى فتم شفاؤه، أو قصة تقول أن مجذوما كان على وشك الوفاة وصف له أحد المعالجين بعض الأعشاب، وبعد أن استخدمها لفترة من الزمن بدأت صحته تتحسن، لكننا لا نعثر على تحديد لهذه الأدوية والأعشاب، فهل هي خرافات أو أساطير يتم نسجها لإبلاغ الأمم الأخرى أنهم أكثر تفوقا وتقدما؟ لا أحد يعلم. لكن من المؤكد أن الخرافات والأساطير كانت مهيمنة على تفكير وخيال وحياة الإنسان الأول بل وحتى إنسان اليوم في بعض الأرجاء، وجميعنا يعلم أن الخرافة تتعارض تماما مع العلم فالمجتمع الذي تنتشر فيه العلوم تنهزم فيه مباشرة الخرافة وتضمحل أما المجتمعات الجاهلة فهي تغذي قصورها وتواضع معرفتها بالخرافات التي لا يمكن أن تبنى بواسطتها حضارة أو تقدم. في كتابه “الإنسان الحائر بين العلم والخرافة”، تحدث الدكتور عبدالمحسن صالح، عن هذا الجانب، فقال: “إن الدارس لنشأة المجتمعات البشرية، وأنماط سلوكها، وضروب أفكارها، سوف يضع يديه على حصيلة هائلة من الأفكار الغريبة، والتقاليد المثيرة، ومعظمها ـ بلا شك ـ قد نبع من تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية التي يعيش فيها... فلقد رأى الإنسان القديم مثلا من ظواهر الطبيعة أمورا حيرته أشد حيرة، فأثارت مخاوفه، وشحذت خياله، ومن ثم فقد بدأ في استنباط تفسيرات تتلاءم وإدراكه البدائي أو البسيط، ومن هذه التفسيرات الخاطئة للظواهر الكائنة، نبتت الخرافات، وترعرعت الخزعبلات، وانتشرت الأساطير في كل المجتمعات! ومن أجل هذا لا يرتاح رجل العلم كثيرا لأمور الكرامات والمعجزات التي ينادي بها عامة الناس. إن الراسخين في العلم يدركون تماما أن كل شيء في الأرض وفي السماء يسير على هدى شرائع لا استثناءات فيها ولا فوضى ولو حدث الاستثناء لفسد كل ما في الأرض والسماء، لكننا ـ والحق يقال ـ لا نلحظ إلا كل ما هو بديع ومنظم ومتقن وجميل، ولو جاءت المعجزات التي يتحدث بها الناس في هذا الزمان لتستثني من القوانين الطبيعية بشرا أو خلقا أو أديانا أو شعوبا أو أجراما، لكان معنى ذلك أنها ليست قوانين صامدة، ولا شرائع جادة، وهي ـ قطعا ـ ليست كذلك”. الخيال والواقع وفي هذا السياق، هل يمكن القول إن المخطوطات والمدونات القديمة التي نقرأها ونعجب من كل ما حملته من أنباء عن علاجات أو مبتكرات بشرية في حضارة ما، دون شرح أو كشف للطريقة والوسيلة، هي من نسج خيال الإنسان، الذي يحاول أن يقدم شيئا مختلفا لواقعه القاسي المؤلم الذي يعيشه بمزيد من الآمال والأحلام؟ فالإنسان هو الكائن الوحيد، كما يؤكد العلماء، الذي يتمتع بعقل بميزة التخيّل.. ولكن الذي لا شك فيها إن نتيجة تلك التخيّلات كانت دوما عظيمة، فكل فكرة خلاّقة وعظيمة خدمت البشرية كانت في بدايتها حلما، ولعل أهم أحلام الإنسان التي تحققت، بل وصارع لتحقيقها منذ مئات السنين حتى اليوم هو حلمه بالطيران، ألم يحلم وهو يشاهد الطيور تحلق في السماء أن يكون مثلها ويستطيع التنقل بسهولة بدلا من مشقة صعود الجبال ونزول السهول؟ ألم يكن يحلم الإنسان بمعانقة السحب والسباحة في الفضاء وهو في كل ليلة يجلس الساعات الطويلة ينظر للنجوم والشهب؟ لقد أخرجت الأحلام الإنسان من حدود المكان، وجعلته متحررا من قيود البيئة، حرا سيدا على هذا الكوكب، وهو الجانب الذي تحدث عنه مطولا العالم الدكتور جاكوب برونوفسكي، في كتابه المفيد والثري “التطور الحضاري للإنسان” حيث قال: “تمتلئ كل المناظر الخلوية في العالم بالتكيفات المضبوطة الجميلة، التي ينسجم بها الحيوان مع بيئته، فالقنفذ يظل نائما ينتظر حلول الربيع ليتفجر نشاطه ويملأ الحياة، والطائر الطنان يظل يضرب الهواء بجناحيه وهو يصوب منقاره الدقيق كإبرة داخل الأزهار المدلاة، والفراشات تحاكي أوراق النباتات، بل وتحاكي بعض الحيوانات المؤذية، كي تخدع المفترسات، ولكن الطبيعة ـ نقصد التطور البيولوجي ـ لم تشكل الإنسان ليتوافق مع بيئة بذاتها، حيث أن جهازه يمكنه من التوافق داخل كل البيئات ومن بين هذه الوفرة من الحيوانات التي تعدو، وتطير، وتحفر، وتعوم من حولنا، سنجد إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لم يحبس داخل بيئته، فخياله ومنطقة وحدة ذكائه وخشونته، كلها تجعله قادرا على ألا يقبل بيئته، وأن يغيرها. وهذه السلسلة من الابتكارات التي أعاد بها الإنسان صياغة بيئته على مر العصور هي نوع من التطور مختلف، تطور ليس بيولوجيا وإنما هو تطور حضاري. إن الإنسان يتميز على غيره من الحيوانات بمواهبه التخيلية. أنه يرسم الخطط والابتكارات والاكتشافات الجديدة عن طريق تجميع ملكات مختلفة، وتزداد اكتشافاته حذقا وذكاء وهو يتدرب على تجميع ملكاته بطريقة أكثر تعقيدا وعمقا. ولذا فإن الاكتشافات العظيمة للعصور المختلفة والحضارات المختلفة كلها تعبر في تعاقبها عن اقتران أكثر ثراء وتعقيدا بين الملكات البشرية، عن تشابك متصاعد لمواهبه”. كل فكرة عظيمة بدأت حلما كامنا.. وكل مشروع للمستقبل، كانت نواته في خيال مجنّح.. هكذا أرسست المجتمعات نهضتها، وهكذا شيّدت الحضارات بنيانها.. وهو ما نحتاجه اليوم من أجل مستقبل مشرق: أن نعود إلى أحلامنا الكامنة، ونطلق العنان لخيالاتنا المجنّحة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©