الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من يدفع الثمن؟

من يدفع الثمن؟
4 أكتوبر 2012
يقول مثل شعبي مصري دارج: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، لكن ماذا لو ان ما في الجيب لا يكفي وما في الغيب لا يأتي؟ يقول البعض أنه كلام دارج لا ينفذه أحد، أو أن من يؤمن به ويمارسه في حياته قليل من الناس، خاصة أولئك المغامرين في الحياة، ولكن على مستوى الحكومات لا يمكن لأي حكومة أن تصرف أكثر من قدرتها على جمع الضرائب، ومن هنا كانت هناك بلاد فقيرة لا تستطيع تغطية احتياجات شعوبها إلا بالكاد، فتلجأ إلى الاقتراض وبسبب هذا الاقتراض أو بسبب عدم قدرتها على سداد الديون يتعرض استقلالها الوطني لمخاطر كبيرة، وهناك أخرى ثرية تكفي شعوبها حاجتهم، بل وتصدر رؤوس أموال فائضة لديها على هيئة قروض تعود عليها بفوائد كثيرة. يبدو أن الحكومة والشعب الاسباني خلال العقود الثلاثة الماضية لم يكتفوا بتطبيق المثل الشعبي المصري فقط، بل زادوا عليه “اصرف ما في الجيب وما في الغيب في آن”، حيث تتردد حاليا في أسبانيا محاولة لتفسير الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تهدد استقلالها الوطني، من خلال مقولة يكررها رئيس وزرائها المنتخب بأغلبية مطلقة لم يحصل عليها أحد من قبل، والذي يرى معظم المحللين الاقتصاديين أنه أصبح جزءا من المشكلة الاقتصادية نفسها بدلا من أن يكون قائدا يساعد على الخروج من الأزمة، ومن خلفه يكررها كل المسؤولين الحكوميين دون أن ينسبها أحد إلى صاحبها: “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا”. هذه الجملة تضمنتها، كمقولة دارجة، رسالة مواطن أسباني لم يجد من يلجأ إليه ليشكو حاله وأحوال البلد الذي يعيش فيه دون ذنب جناه، فلم يجد أمامه سوى أن يكتب لإحدى الصحف، وما أن تم نشر الرسالة حتى تحولت إلى مادة مثيرة في وسائل الاتصال الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية وتواترت التعليقات عليها في الفيسبوك والتويتر لتصبح الرسالة أصدق تعبير عن حال أو وصف لواقع. كتب المواطن الأسباني يشكو من تعبير أصبح دارجا على لسان كل المتحدثين باسم الحكومة الأسبانية الحالية دون أن يعرف أحد من قائله الأول: “لقد عشنا بأكثر من إمكانياتنا” ولذلك على الجميع أن يبذل جهدا مضاعفا لدفع فاتورة الماضي المتسبب في هذه الأزمة(؟). يقول المواطن في رسالته: “أنا لم أمنح صوتي في الانتخابات الأخيرة للحزب الشعبي الحاكم حاليا، ولم أشتر مطلقا سيارة جديدة يفوق سعرها قدرتي على الدفع، ولم أطلب قرضا لدفع ثمن إجازتي الصيفية، ولهذا السبب لم أفهم تماما ما تعنيه كلمات نائبة رئيس الحكومة التي تطالب الجميع ببذل “الجهد”، أو ما قاله محافظ إقليم فالنسيا بأننا “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا”. ويتساءل كيف له أن يبذل جهدا مضاعفا مع أنه لم يعش أبدا بأكثر مما تسمح به إمكانياته (؟)، إنه لم يكن جزءا من المشكلة فلماذا تطالبه حكومة لم ينتخبها أن يساعد في حل المشكلة رغم أنها من صميم عمل الحكومة، ولحلها يجب أن تبحث عن المتسبب في هذه المشكلة وتطالبه بدفع الثمن بدلا من مطالبة من لم يكونوا سببا بأن يتحملوا تكاليف حل المشكلة. “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا” انطلاقا من هذه الجملة أو المقولة بدأ الأسباني باكو باستور تساؤلاته في الصحيفة أولا، ثم عندما تحولت رسالته إلى مادة شهيرة على الشبكة العنكبوتية قرر أن يقول رأيه كاملا فيما يحدث في كتاب بعنوان “نحن دائما من ندفع الثمن”، والصادر عن دار نشر “بي B” والذي يعتبر عريضة اتهام ضد كل من تسببوا في الأزمة الاقتصادية الحالية وقرروا أن يدفع الآخرون ثمن ما ارتكبوه من أخطاء. هؤلاء السياسيون الذي ارتكبوا جرائم سرقة الأموال العامة، وساعدوا البنوك على سرقة أموال الشعب، أو ربما اقتسموا معهم ما سرقوه، قرروا أن يستعيدوا من الشعب ما سرقوه أو ما ساعدوا على سرقته، فكانت قرارات التقشف: تخفيض ميزانيات الصحة والتعليم وتجميد المعاشات، وخفض الرواتب، وزيادة الضرائب وفتح الأبواب أمام الشركات لطرد العمال والموظفين بلا رحمة أو مال، ليدفع في النهاية الثمن من لم يرتكب الجريمة. يقول المؤلف خلال عرضه للأزمة الاقتصادية وأسبابها أن الحزب الذي سعى إلى الحكومة وقدم برنامجا اقتصاديا واجتماعية ليفوز بالأغلبية المطلقة قرر أن يدفع الثمن كل من منحه الثقة، وكأنه يعاقب من أيدوه ودعموه على هذه الثقة وهذا الدعم، زادت الضرائب لإنقاذ الجهاز المصرفي المتسبب الرئيسي في الأزمة الاقتصادية: الضحية تدفع الثمن للمجرم؟ تنفيذا لمقولة “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا”، ويؤكد أن هذه المقولة أصبحت تتكرر على ألسنة كل المسؤولين دون أن يقدم احد تفسيرا لمعناها أو يذكر من قائلها الأول: قول دارج انتقل أيضا إلى ألسنة الناس في الشارع دون أن يعرفوا قائلها ولا معناها ولا علاقتها بالأزمة الاقتصادية الحالية، ولا حتى علاقتها بحل الأزمة، مجرد قول دارج لإنهاء الحوار حول من المتسبب في هذه الأزمة. بعد عرض كل أبعاد المشكلة، الأزمة الاقتصادية، يتساءل المؤلف: كل هذه البنايات التي أقامتها الشركات الخاصة دون أن تكون هناك حاجة حقيقية لها في أماكنها ومعظمها بالقرب من الشواطئ، أي بنايات للرفاهية، وباعتها البنوك للمواطنين كمنتج ادخاري يحمي مستقبلهم ويكون عونا لهم ولأبنائهم في المستقبل، وفجأة انهار كل شيء لتهرب الشركات بالأموال إلى خارج البلاد، لأن معظم هذه الشركات تملك حسابات في بنوك وبلاد لا يمكن مطاردتها قانونيا فيها، والبنوك التي باعت المنتج لأفراد الشعب استردت المنتج بأضعاف ثمنه، بل ساعدتها القوانين على طرد السكان فتسببت في أزمة جديدة تضاف إلى أزمات المجتمع. وبحثا عن المتسبب الحقيقي عن هذه الكارثة الاقتصادية وما نتج عنها من مشاكل اجتماعية تتجه الأنظار، في رأي الكاتب، على الفور نحو الحكومة والبرلمان والجهاز المصرفي والمضاربين في بورصة الأوراق المالية، يقول: “لقد باعوا لنا الوهم بعد تجميله وإقناعنا بما ليس فيه، تذهب إلى البنك وتطلب مليونا فيعرضون مليونين”، وفي رأيه هنا كانت الخدعة التي يجب أن يعاقب عليها القانون مرتكبها وليس الضحية. ثم تأتي تلك المقولة: “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا” تحاول الحكومة وممثلوها من خلالها الهروب من مسؤوليتهم عن الكارثة الاقتصادية وكأنها أصبحت العصا السحرية التي تنهي المشكلة، ويصبح من عليهم أن يدفعوا الثمن هم أنفسهم من يدفعون دائما ثمن كل الكوارث التي يرتكبها السياسيون والجهاز المصرفي منذ الأزل، وحتى قبل أن توجد الديمقراطية. ثم ينتقل الكاتب إلى قرارات الحكومة التقشفية ويفندها لنكتشف أن تلك القرارات تزيد من حدة الأزمة الاقتصادية لا حلها، لأن نتائج تلك القرارات لن تكون سوى مزيد من الكوارث: خفض الرواتب يعني سحب السيولة من الأسواق وبالتالي عدم تصريف منتجات الشركات التي لن تجد أمامها من حل سوى تصريف العمال ليزيد عدد العاطلين، فيزداد الإنفاق الحكومي ويزداد الاقتراض من الخارج إلى أن تزيد مصاريف الديون عن الناتج القومي، حلقة مفرغة يضع السياسيون فيها الناس، وتكون مقولة: “عشنا بأكثر مما تسمح به إمكانياتنا” تفسيرا سهلا لارتكاب المزيد من الجرائم. لكن يظل السؤال معلقا: من الذي وضع هذه المقولة لتفسير العجز السياسي في مواجهة كارثة الأزمة الاقتصادية؟، إنه سؤال يحتاج إلى كتاب آخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©