الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر خارج النص

الشاعر خارج النص
28 فبراير 2008 04:52
أثرت تجربة الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد وما زالت تؤثر في التجربة الشعرية العربية منذ السبعينات حتى اليوم، فهو صاحب صوت وبصمة لا تخطئهما الذائقة، وفي مطلع الثمانينات كانت مجموعته ''الشاهدة'' (1981) ثم ''وردة البيكاجي'' (1983) ذات حضور وتأثير كبيرين في جيلنا، جيل الثمانينات، وعلى قلة ما صدر له من مجموعات شعرية قياسا إلى شعراء آخرين (له 9 مجموعات، وعدد من الترجمات الشعرية ربما كان أهمها ديوان ''كلمات'' لجاك بريفير و''أناباز'' لسان جون بيرس)، فحضوره أكبر من بعض من نشروا عشرات الكتب· هذا ما يشعر به قارئ تجربته عموما وقارئ كتاب ''شاعر خارج النص: حوار الفكر والشعر مع الحياة'' خصوصاً، الكتاب الذي يضم حواراً مطولا أنجزه المغربي عبد القادر الجموسي الذي بدا أنه مطلع بعمق على تجربة كاصد، وعلى قدر من الارتقاء إلى هذه التجربة في أسئلة معمقة تستخرج أسرارها وزواياها ودهاليزها· تتعدد محاور الحوار لتطال جوانب عدة، ضمن عناوين بارزة اشتملت عليها فصول تبدأ بـ''أبواب الطفولة: كتاب البصرة''، ثم فصل ''الطريق إلى عدن''، و''حوار الشعر والفكر''، و''مساحات الشعر اللامتناهية''، و''عن الحب وشياطين أخرى''، ويختتم الكتاب بـ ''عشر قصائد مختارة''· يتوقف الجموسي عبر أسئلته حول طفولة كاصد عند قضايا وتفاصيل كثيرة وحميمة وشديدة الأهمية، مفردات ورموز من خلال عوالم يستخرجها كما يستخرج الذهب من مناجمه الثرية، حيث يفتح كاصد أوراق طفولته على مصاريعها ويتحدث بسلاسة وعمق كبيرين عن تلك الطفولة التي تشتبك مع كهولة مبكرة، وتحضر فيها السعادة والشقاء والمغامرات، في لغة تتوهج بالدهشة، سواء على مستوى الحياة والشخوص الذين يتناولهم الحوار، أم على صعيد عناصر الثقافة التي شكلت شخصية الشاعر، أو العلاقة بالمكان الأول وما ينطوي عليه من مفردات· كما نعثر في فصل الطفولة على الأب والأم والخال وسوق الجمعة للكتب المستعملة غالبا، والمسارح والجسور التي تتميز بها البصرة، والصديق الطفل اليهودي الذي كان يعيره الكتب والذي كانت له أخت كأنها- لشدة جمالها- قادمة من الأساطير، ثم اضطراره للهروب مع الشاعر مهدي محمد علي إلى عدن في ظل المطاردة وحملات الاعتقال والتعذيب التي قامت بها السلطة الحاكمة بحق الشيوعيين أواخر السبعينات، وهو في ذلك ليس سوى واحد من شعراء ومبدعين كثر هاجروا في تلك المرحلة· مع الوصول إلى عدن تبدأ تجربة ثقافية وعلاقات حميمة احتضنت الشاعرين، شعرياً وإنسانياً وعملياً، وهي جوانب يقدم فيها كاصد الكثير من التفاصيل ما بين وصوله إلى عدن ومغادرته لها بعد ما يقارب العام، واستخلص منها تجربته الشعرية في ''وردة البيكاجي'' وقصائد أخرى، وهذا الفصل هو الثاني من حيث الحميمية لما ينطوي عليه من علاقات وعذابات إنسانية سوف نجدها في شعره في الفصل الأخير من هذا الكتاب· ومن بين قضايا الحوار التي يمكن التوقف عندها، ما دمنا لا نستطيع بالطبع تناول القضايا كلها، قضية الوضوح والغموض في الشعر التي طالما اختلفت الآراء حولها، وهو في هذا يتحدث في اتجاهين، الأول هو حديث بودلير حول كون ''عمق الحياة يتبدى في المشهد''، والثاني كلام أراغون الذي يرى أن ''الوضوح في القصيدة ما هو غامض في الشعر''· ويرى كاصد أن شعره ليس وحده الذي يتسم بالوضوح بل- كما يقول إن الوضوح ''سمة كل شعر جيد، فالقصيدة ليست وجبة تضيف لها ملح الغموض لكي تتقبلهان ومن أجل الوصول إلى بداهة الشعر ووضوحه في القصيدة فإن ذلك يتطلب مرانا ودربة ومعرفة بالشعر؟ هل هناك أوضح من قصيدتي السياب ''أنشودة المطر'' و''بويب'' وقصائد بريشت ونيرودا وإيلوار ووالت ويتمان الذي يبدو واضحا وضوحا ساطعا؟ ولكن كم من الظلال تختفي خلف ضوء وضوحه؟''· وهناك حديث مطول عن العلاقة مع رامبو والتأثر به، خصوصا في قصيدة كاصد ''البركان العدني'' حيث يقر بشجاعة أنه استعار منه عبارات عدة، ليخلص إلى أنه ما من شعر ''يكتفي بذاته فهو في حركة مستمرة بين ذاته وخارجها، حتى يمكن القول إن الخارج نفسه لم يعد خارجا وقد تمثله الشعر ليصبح جزءا من نسيجه الحي''، وهكذا يدخل كاصد في التنظير لنظرية التأثر الحديثة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©