السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجزء والكل

الجزء والكل
26 يناير 2011 19:50
ربما كان أهم ما تعلمته من أطروحتي للدكتوراه أننا لا يمكن أن ندرس أي جزء من التراث دون أن نعرف علاقته بالكل، في شبكة من العلاقات تعين على الفهم الأكمل للجزء، خصوصا من منظور علاقته بالكل وهذا ما حدث معي، فقد تبنيت المفهوم البلاغي الحديث للصورة الشعرية، وهو مفهوم يرتبط بالمجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، باختصار ما يطلق عليه علماء البلاغة القدماء اسم “البيان”، لكنني ما كدت أبدأ البحث في كتب البلاغة والنقد الأدبي القديمة، حتى وجدت علاقة وثيقة بين البيان والتفاسير المختلفة لآيات القرآن التي تمتلئ بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز بوجه عام، وما أن أكملت ذلك بمراجعة الجانب البلاغي من كتب التفسير حتى وجدت أنه لابد من قراءة ما ورد من شروح الأحاديث النبوية العديدة التي لا تخلو من ذكر صور البيان المختلفة، وقادني هذا الجانب إلى حتمية قراءة ما أسماه ابن قتيبة تأويل مُشكل القرآن ومختلف الحديث، وفرغت من ذلك، لكني وجدت أن كتب الفقه وأصوله تنطوي على ما يخص بلاغة الصورة في كل ما يرد فيها من مجاز، ومن ثم الفارق بين المجاز والحقيقة في التعبير الفقهي، أو في الآيات التي يستنبط منها الحكم الشرعي في قضايا الاعتقاد بخاصة، والحياة بعامة، ولم أفرغ من ذلك حتى شعرت بالحاجة إلى علوم الكلام، فهناك من الفرق الإسلامية من يلح على دراسة المجاز الذي يقترن بصياغة أغلب الآيات المتشابهات، ودخلت في دوامة اختلاف المتكلمين حول المجاز من حيث علاقته بالتأويل، وأذكر من الكتب المؤلفة في هذا الموضوع كتاب ابن القيم “الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة”، وانتهى الأمر بتعمقي في دراسة مذاهب المتكلمين ومعرفة الحوار والاختلاف بينهم والفلاسفة. ولكني اكتشفت، في أثناء البحث، أن الصورة البلاغية من صنع الخيال، والخيال موضوع يهم الفلسفة وعلم النفس، وكلاهما عند العرب من علوم الفلسفة، وهكذا انتقلت إلى الفلاسفة، سواء الذين نقلوا أو شرحوا كتابي الشعر والخطابة لأرسطو، أو الذين تأثروا بموضوعات الفلسفة العامة، ومنها قوى الإدراك النفسي، وموقع القوة المخيلة منها، وما بعد الطبيعة التي تتضمنها الفلسفة الأولى التي أفادت في العلاقة بين الصورة والمادة، وإذا بهذه الأخيرة تقودني إلى قيمة الخيال ما بين الفلاسفة الذين أعلوا من شأن العقل وهبطوا برتبة الخيال، أو الصوفية الذين رفعوا من قيمته، وكانت النتيجة أني غرقت في موضوعات الفلسفة وشراح أرسطو وأفلاطون وحتى أفلوطين، وعندما فرغت من الفلسفة كان لابد من الختام بعلوم اللغة التي هي أساس نظرية النظم عند عبد القاهر، وتعلمت الدرس الأكبر أنك لا يمكن أن تفهم بعض التراث إلا في ضوء علاقته بالكل، وهو أمر لا ينطبق على دراسة الصورة الفنية وحدها، بل على كل درس أدبي أو لغوي أو فلسفي أو نقدي بلاغي إلخ.. فالتراث كيان واحد كالإنسان، لا تفهم فيه الجزء إلا بعلاقته بالكل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©