الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وهل مت يا أمي؟

وهل مت يا أمي؟
26 يناير 2011 19:51
ولأني كنت أصغر من القدرة على معرفة ما حدث لي خلال عامي الأول.. فقد تكفلت والدتي بالحديث عما جرى لي بدقة متناهية.. أتت على ذكر كافة التفاصيل التي كان من الممكن أن تفوتني لو أن شخصاً آخر سردها على مسامعي.. لكنها أمي.. تلك التي عايشت كل ذلك الألم واللذة في الشعور، لذة الشعور بالأمومة الأولى، وألم الشعور باحتمال فقدان هذه الصفة الأمومية بفقداني.. أمي لم تنس كل ذلك، بقيت ذاكرتها تحتفظ به لسنوات قادمة من عمري.. وكانت تذكرني به كلما أوشكتُ على النسيان، حتى داهمني حزن شديد على نفسي. قالت بأني وبعد ولادتي بأشهر قليلة، وبعد كل تلك العافية التي ارتوى بها جسدي الصغير الطازج، أصبت بمرض غامض أحالني إلى نزيلة دائمة للمستشفيات وأقسام العيادات الخارجية.. ما أن أخرج منها حتى أعود في اليوم التالي وأنا أشبه بخرقة بالية ومبللة بالحمى.. خرقة تكرمشت أطرافها من شدة الضعف والهزال. وكنت أنكمش في حضن أمي وكأني ألوذ بها من بطش ما أصابني. أمي التي كانت تهصرني إلى صدرها من قلة الحيلة، فيما روحي تنسحب إثر ذلك شيئاً فشيئاً. وكانت عائلتي قد بدأت في التعايش مع فكرة موتي الآتي.. حتى أن البعض منهم قد تخيلني في بياض الكفن الذي سيلفني بعد حين بدلاً من القماط. ـ وهل مت يا أمي؟ أحياناً يخيل إلي أنني لا بد وأن أكون قد مت بالفعل، وأن من يتلبس جسدي الآن هي امرأة أخرى ليست بالضرورة أنا.. امرأة قدر لها أن تتشرنق وتنبعث من رماد تلك الطفلة التي ماتت ميتة تافهة وعادية ودون أن يعلم بموتها أحد، ذلك أنها لم تكن مهتمة كثيراً بفكرة الخلود.. لكنها تركتني كشيء حميم بقي منها لأدون الحياة التي تخص الآخرين.. الحياة التي كانت ستحياها فيما لو بقيت هي حية.. وها أنا أفعل من أجلها ما لم تفعله هي من أجل نفسها. إنني أمشي في طريق الناس لعلي أهتدي إليها.. الناس الذين لقيت منهم الحب والأذى.. الذين لقيت منهم الجوع والعطش، الألم والفرح، المنح والحاجة، الاحتواء والإهانة، الدفء والاغتراب.. وكانت تلك شروط قايضتني بها الحياة لأستمر بهم.. أنا الغريبة التي من شدة موتها لم تلفت انتباه أحد. ـ وهل مت يا أمي؟ لسنوات طويلة أكدت لي والدتي بأني بقيت حية بعد أن تعافيت هكذا فجأة.. وكم وددت لو أني أصدقها، وكم عز علي أن أنظر إلى المرآة فأرى فيها وجهاً ليس لي.. أرى وجه غيري.. أرى العالم بأسره في مرآتي.. ولكن لا أراني. ـ وهل مت يا أمي؟ لقد بدأ الأمر منذ أن كنت جنيناً في بطن المرأة التي أنجبتني.. هناك في رحمها حيث تداول شرطَ الاندماج: حيوان منوي مع بويضته التي التقى بها كضرورة لبدء تكويني.. وكنت أنا تلك النطفة الأمشاج.. هناك رأيت حياتي وهي تلتف بالحبل السري وتقودني إلى نفسي.. نفسي التي فقدتها فيما بعد مرارا وتكرارا. ـ وهل مت يا أمي؟ لا أستطيع أن أجد أي تفسير محايد لما أنا عليه الآن.. أعني لروح الساردة التي تسري عروقها في دمائي وتختلط بأنفاس الناس الذين تشكلوا مع الزمن في مخيلتها.. بدءاً من الطفولة المبكرة، حيث مارستُ دور جدتي التي كانت طوال الوقت صامتة بلا سبب بعكس كل الجدات اللواتي يحفرن في الماضي وينبشن عن حكايات يروينها لأحفادهن.. وكان على أحد ما أن ينوب عنها هذا الدور من أجل هذين الأحدين: إخوتي الأصغر سناً.. والآخر كان أنا.. ولكن المشيئة اقتضت أن أغدو أكبر من عمري لأجلهم.. وأن أكون في عمري أيضاً لأجل نفسي.. وكانت مسافة مخيفة تلك التي جعلت مني امرأة وسطى، هي ما بين الناضجة والطفلة على الدوام. وبهذه الطريقة صارت كتابتي هي الأخرى أيضاً كتابة وسطى. ـ وهل مت يا أمي؟ في عمري المبكر ذاك، كانت آلاف الأسئلة قد تراكمت في رأسي.. أسئلة صعدت بي لسماوات لم يمسس سقفها بشر، صعدت بي حد التصدع.. وأسئلة هبطت إلى قيعان لم يغرق فيها بشر.. هبطت بي حد الانحدار نحو الهاوية.. تلك أسئلة الوجود التي طرحتها مراراً على أبي وأمي.. أحدهما عجز عن الإجابة عنها، فيما الآخر تبرم من عبء السؤال.. تركاني أسلي وحدتي بها بعد أن التصقت بقحف جمجمتي.. لكن كل ذلك انتهى عندما وقعت في أسر الكتب، وكانت تلك تجربة أخرى سقطت فيها ولم أنهض بعدها أبدا. ـ وهل مت يا أمي؟ كانت القراءة هي الروح التي أعادت الحياة إلى جسدي، هي الثمار التي تذوقت عبرها طعم شجرة الخلد، هي أطفال أنجبهم حكماء من كل بقاع الأرض وتكفلوا بتربيتي وتعليمي والعناية بأعشاش أسئلتي الشقية، هي شاشة اكتملت مشاهدها في سهوب مخيلتي، هي أشبه بالوقوع في الحب الأول، هي اعتناق الدين الصحيح بعد طول ضلالة وضياع. تلك القراءة التي لولاها لما أضمرت الكتابة، ولما اقتفيت أثر النص، ولما كنت أنا هي روضة البلوشي صاحبة المجموعة القصصية “باص القيامة” والتي حجزت لقرائها سلفاً تذكرة ذهاب نحو القيامة وأخرى للعودة منها.. وكانت تلك بداية لقيامة قاصة أدركت أخيراً المغزى من موتها وهي صغيرة.. إنها تنبعث مرة أخرى في كل قصة تدون جنون تفاصيلها.. إنها تنبعث فقط من أجل شيء واحد.. تنبعث من أجل أن تحكي حكاية. * ورقة ألقيت في ملتقى الشارقة السابع للسرد بعنوان “القصة القصيرة بين السرد التقليدي والفاعلي” في سبتمبر من عام 2010م
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©