الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يصبح المترجم وسيطاً معرفياً

عندما يصبح المترجم وسيطاً معرفياً
26 يناير 2011 19:52
أصدرت دار توبقال في الدار البيضاء، كتاب “الإسلام الآن”، وهو كتاب قيّم وعميق، يجتمع فيه الشاعر والمفكر والمترجم التونسي المعروف عبد الوهاب المؤدب في جلسة حوارية شيّقة مع الكاتب الفرنسي فيليب بّتي. وقد قام بترجمته من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية المترجم والباحث المغربي كمال التومي، وراجعه الشاعر المغربي المعروف محمد بنيس. ويطرح الكتاب الذي جاء في 190 صفحة من الحجم المتوسط، الكثير من الأسئلة المتعلقة بالإسلام وما تعترضه من عوائق وإشكالات، منها ما يتعلق بمسألة الحجاب والهوية والعولمة ومسائل أخرى متعددة. بدءا من عنوان الكتاب “الإسلام الآن”، ما المقصود بهذا العنوان؟. “إن عنوان هذا الكتاب يثير، منذ البداية، مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالإسلام وبعنوان الكتاب، الذي يطرح على القارئ أكثر من إشكال، خاصة أن الإسلام شهد في السنوات الأخيرة، الكثير من ردود الفعل في الدول الغربية، حيث يقيم العديد من أفراد الجالية العربية والإسلامية بالخصوص”. هل التراث الأوروبي مصاب بداء الإسلاموفوبيا؟ وهنا لا يمكن نسيان ما أثارته مسألة ارتداء الحجاب في فرنسا، وما عرفته من جدل ونقاش، تحول بعدها إلى استصدار قوانين، تنظر في كيفية التعايش بين الأديان، وفي الممارسة الدينية، كان آخرها إصدار قانون بمنع ارتداء البرقع من طرف نساء المسلمين. الإسلام والإندماج يتساءل فيليب بُّتي في مقدمة الكتاب: “هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع الحداثة ومع المؤسسات الجمهورية؟ هل يمكن للإسلام أن يذوب داخل الجمهورية؟ هل الإسلام متمرد على حرية النقد؟ هل التراث الأوروبي مصاب بداء الإسلاموفوبيا، داء الخوف المرضي من الإسلام؟ كيف يمكن محاربة الأصولية؟ لقد بدَا لنا مفيدا طرح هذه الأسئلة الحارقة، وغيرها كثير، على شاعر وكاتب تستقي مؤلفاته وكتاباته نسغها من الحوار المستمر والدائم بين الحداثة والتراث الشعري ـ الصوفي في الإسلام. فمسار نوفاليس ليس بغريب عنه. إنه الشاعر والكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب”. ويقول فيليب بتي: “لقد قطع عبد الوهاب المؤدب مسارا طويلا قبل أن يملك ناصية اللغة الفرنسية. بعد كتابه “الطلسمان” (1979) و”الفانطاسيا” (1986)، وهما عملان روائيان معقدان وملتبسان، أردت العثور من خلال كتابه “قبر ابن عربي” (1987)، على بساطة النوع ووحدته”. هذا ما صرح به عبد الوهاب المؤدب لأحد محاوريه سنة 1993. لقد سعى إلى إيجاد البساطة دون أن يفقد شيئا من توتر الجسد واللغة، ودون أن يتهرب من امتحان النَّفس، و”من العلاقة القائمة بين الصوت والحرف التي تؤسس الميتافيزيقا والجمالية في الإسلام”. لقد حاول أن يجد البساطة دون أن ينكر الصعوبة التي تعترض طريقها. لا يمكن للمرء أن يغدو كاتبا فرنسيا من أصل تونسي دون أن يفرض على نفسه تحديا. فالعودة إلى المشهد الأصلي عودة لا مناص منها. ففي الرابعة من عمره، كان المؤدب الصبي يرتل القرآن، وفي السادسة من عمره بدأ يتعلم اللغة الفرنسية في المدرسة”. يقول فيليب بّتي: “إذا أراد المرء معرفة الإسلام والاستئناس به والتعود عليه ومحاربة انحرافات جهاديته فإن عليه أن يبدأ بعدم تجاهله”. وعن صديقه الشاعر عبد الوهاب المؤدب، يقول “فعبد الوهاب المؤدب، المولود في تونس قبل ستين عاما والمستشار بمنشورات “سندباد” لمدة طويلة، والمترجم إلى اللغة الفرنسية أعمالا عربية قديمة، خاصة منها أعمالا صوفية، وأعمالا حديثة، سيكون مرشدا لنا ومرجعا في هذا المجال. إنه وسيط أكثر منه مترجم. فما قاله فاليري عن مالارميه قد ينطبق على عبد الوهاب المؤدب” أي “استبدل الرغبة الساذجة بمفهوم بارع ومدروس بدقة” عن الشعر. لقد خلق عبد الوهاب المؤدب لغة خلاسية مكونة من لغة شفهية خفية ومن خطاب عربي معرفي ـ تأويلي، ومن أدب أوروبي. بهذا جعل من نفسه المخطط والمنفذ لبناء جينيالوجيته الشخصية. شيئا فشيئا مزج في مؤلفاته النثر الشعري بالكتابة النظرية، كما أبقى على المسافة اللازمة بين الوقائع اليومية وبين الذكريات الجامحة التي تعود للطفولة، بهدف احتواء أثر الكلمة على الجسد داخل فضاء لا ينفك يخلقه باستمرار”. ينطلق الكتاب الحواري بين فيليب بّتي والشاعر عبد الوهاب المؤدب من طفولته، ومن التربة العائلية والتاريخية التي ترعرع فيها قائلا: “ولدت في مدينة تونس في وسط عائلي محافظ وتقليدي، وسط يتقاطع فيه عالم العائلات النبيلة التي تنحدر منها أمي مع وسط التقليد الديني الذي ينتمي إليه والدي. إلى غاية الخمسينيات، التي عشت فيها مراحل طفولتي الأولى، كان بإمكان المرء أن يجد في مدينة كتونس آثار هندسة العصر الوسيط التي تنظم مجال المدينة الإسلامية. لقد كنت شاهدا على ذلك الترابط القائم بين السوق والجامع، بين التجارة والدين. لقد كان التعليم التقليدي لعلوم الدين يتعايش مع الحياة التجارية. ما زلت أتذكر الدكان الصغير الذي كان يملكه جدي من أبي في سوق النساء. كان هذا الدكان يجاور الجامع الأكبر حيث كان جدي يُدرس أحد العلوم الدينية: فهو كان متخصصا في علم القراءات (القراءات السبع). كما درَّس والدي في هذا الجامع أصول الفقه”. صورة تونسية ينتقل فيليب بّتي بمجالسه الشاعر عبد الوهاب المؤدب إلى إشكالات أساسية شغلت فكره خلال كتابة أعماله الرائدة والمعروفة نذكر منها: “قبر ابن عربي”، “الفانطازيا”، “الطلسمان”، يقول عبد الوهاب المؤدب متحدثا عن وطنه ومسقط رأسه تونس: “لقد عرفت تونس، حسب ما يسميه بازوليني متحدثا عن إيطاليا وأوروبا بالموت الأنثروبولوجي. إن الموت الأنثروبولوجي هو حالة فقدان البعد الديونيزوسي المتماثل مع القديم العتيق الذي يجسده المشهد الشعبي الذي انفصلنا عنه وطلقناه منذ استقلال تونس، والحال أن هذا البعد الديونيزوسي المكبوت، إذا لم يتم إعادة إحيائه، قد يعود إلى الظهور على السطح بكيفية غير مضبوطة وضارة ومدمرة. وتوضح أعمال بازوليني الإبداعية (الشعرية والسينمائية) هذا الخطر الذي سبق لنيتشه أن عاينه باعتباره شرا أوروبيا في كتابه “ميلاد التراجيديا”، إن عملا سينمائيا لبازوليني كفيلم “نظرية”، يعرض عودة المكبوت والأضرار التي تسببها هذه العودة داخل عائلة بورجوازية لها تصور تقليدي ومقنن عن الجنس. فمن يبرز الغريزة الجنسية المكبوتة لضيوف العائلة هي شخصية يمكن تشبيهها بالملاك، ذلك الغريب، العابر، الزائر. “خلال طفولتي ـ يقول المؤدب لمحاوره ـ خبرت المشهد الذي يحتفي بالديونيزوسي، لقد كان عبارة عن احتفال تتردد عليه نساء كن يمثلن فيه الجذبة من خلال الاحتفال بالأولياء، احتفال يعتبر بُقْيا وصدى للتعبد الديونيزوسي كما يظهر في مسرحية أورببد التراجيدية “كاهنات باخوس”. يعد تمثيل الجذبة لدى عدد من الطوائف، نتائج عملية شبيهة بتلك التي لدى الفودو: فبالنسبة للحالة المغاربية نجد أن الإسلام يتكيف مع تأثير شَمَانيَّة إفريقيا، جنوب الصحراء، تُروجها جماعات السود التي تم نقلها نحو الشمال أو نحو إفريقيا البيضاء خلال قرون ازدهرت فيها العبودية، تلكم العبودية التي ظلت واقعا اجتماعيا واقتصاديا استمر حتى غاية الخمسينيات، بالرغم من منعها وحظرها قانونيا في أواسط القرن التاسع عشر، أو، على الأقل، في تونس البايات التي كان يحركها العقل الإصلاحي”. إن مؤلف هذا الكتاب العميق يتبنى موقف شايغان ـ حسب بّتي ـ “إنه يقلب النظرة “الاستغرابية” كما يقلب النظرة “الاستشراقية”. فهو ليس بالسائح في الشرق ولا بالسائح في الغرب، وبما أن عبد الوهاب المؤدب شاهد على صيرورة تغريب العالم فإنه يميز بينها وبين صيرورة أمركة العالم. وبما أن عبد الوهاب المؤدب سائح عصر الأنوار وسليل ابن رشد والميموني وسبينوزا، فإنه لا يهمل أي تراث، لكنه يتميز بموقفه الصارم الذي لا يتزعزع من أولائك الذين ينشرون “الأصولية المتفشية”، ومن المعتدلين المزيفين، ومن مؤولي القرآن الجاهلين، ومن المفسرين الحرفيين المتعصبين. فسواء تعلق الأمر بالحجاب أو تعلق الأمر بعماهات وضلالات المركزية الدينية في إيران، أو بالإرهاب، فإن المؤدب يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذه الكراهية التي يثيرها الغرب دون التخلي عن إرادته في أن يضع أوروبا في منظور “إسلامي ـ يهودي ـ مسيحي”. إنه يرد على جميع أعدائه الحاقدين معتمدا خطابا جداليا، متأنيا، متبصرا، مبنيا على الحجة وحاملا لأثر “نسبه المزدوج”، ويفضح التبسيطات والاختزالات التاريخية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©