الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«دجاج بالبرقوق» .. فنتازيا حتى الإشباع

«دجاج بالبرقوق» .. فنتازيا حتى الإشباع
16 أكتوبر 2011 23:37
(أبوظبي) - “دجاج بالبرقوق” هو عنوان الفيلم الجديد للمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي التي شاركت به ضمن العروض المنافسة على جائزة أفضل فيلم روائي طويل في الدورة الحالية من مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي. وسبق للمخرجة الإيرانية الموهوبة والمغتربة في فرنسا أن قدمت قبل سنوات فيلما أثار جدلا كبيرا وما زال يستقطب الكثير من الاهتمام وهو فيلم “برسيبوليس” الذي نفذته بتقنية التحريك أو “الأنميشن” واحتوى على رسائل وإشارات أيديولوجية وسياسية قوية وجريئة. عنوان فيلم سترابي الجديد لن يخذل بالتأكيد شهية المتفرج لأنه يقدم له وجبة كاملة من الإدهاش المتشكل ضمن مرويات الذاكرة الجمعية الموصولة بشذرات وانتباهات من السيرة الذاتية، كما أنه يقدم سحرا لا يبدو أنه متجاوز للواقع، لأن الواقع نفسه يتحول وفي أحيان كثيرة إلى ما هو أغرب من أية حكاية خرافية، ومن أي خيال سردي مفرط. فيلم مرجان ساترابي عرض قبل أشهر من الآن في مهرجان البندقية السينمائي ونال إشادات نقدية مهمة لاحتوائه على ابتكارات مشهدية ونزعة سريالية لا تنفصل عن الصدمة الحسية التي تخلقها المصادفات والأقدار وفي أقصى الحالات الإنسانية بهجة وألما، وشاركت ساترابي في إخراج الفيلم الفرنسي “فنسنت بارونو”، وهي شراكة فنية ساهمت في خلق مزيج سينمائي فريد من نوعه جمع بين مناخ شرقي وفارسي منبثق من بنية الحكاية وسرديات الحياة التي خبرتها ماسترابي نفسها، وبين مناخ غربي شكلته حوارالفيلم الناطق بالفرنسية، ومشاركة عدد من الممثلين الأوروبيين المعروفين، بالإضافة للموسيقا الكلاسيكية الأخاذة التي تماهت كليا مع الواقعية السحرية في الفيلم ومع إيقاعه النوستالجي الفائض. لعبة الزمن هذا المزج صنع أيضا مفارقات مثيرة بين أسلوب ساترابي المعتمد على تقنية الجرافيك والأنيميشن والميراث البصري والذهني لخيال الظل والشخصيات الأسطورية، وبين أسلوب بارونو القائم على تشويش القياسات الاعتيادية للكادر السينمائي والدخول في لعبة الزمن دون التقيد بالتصاعد المتسلسل لهذا الزمن، فالمستقبل هنا مختلط بالحاضر والماضي ليس سوى خدعة، لأنه ينسل ويتداخل مع التاريخ الشخصي لأبطال العمل انطلاقا من الكهولة الملتصقة بالطفولة، ومرورا بفورة الشباب المقترنة بفترة غيبية تسبق الولادة بمراحل طويلة، وعندما نتحدث عن المفارقات المثيرة بين الأسلوبين الإخراجيين فإننا يمكن أن نشير أيضا لوجود اشتباكات مذهلة، وطرائق ومعالجات إخراجية متجاوزة وغير مطروقة في أدبيات وأنماط السينما المعاصرة. تنطلق الحكاية المحورية للفيلم من وقائع حقيقية عاشها عم المخرجة ويدعى ناصر على الذي عاش في إيران في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكان عازفا وعاشقا لآلة الكمان التي تملكته وهيمنت على حواسه وجعلته يذهب إلى مدينة شيراز كي يكتسب خبرات ومعارف حول هذه الآلة الفاتنة، وهناك يتعرف ناصر ـ يقوم بدوره الممثل ماثيو أمرليك ـ على أحد العازفين والمعلمين الكبار، والذي يشير له بأن تكنيك العزف الصحيح لا يعنى وصول المعزوفة إلى قلب المستمع، لأن الأمر ـ وكما يقول ـ يتطلب العثور على الإيقاع الحقيقي المنثور في الكون والطبيعة، والمتولّد من عاطفة قوية ومشعة حتى وإن كانت معذّبة، فالمعاناة الأصيلة تحول المعزوفة إلى وتر لاسع يلمس روح المستمع، لا أذنيه فقط، وستتحول مدينة شيراز أيضا إلى أرض الأحلام والتأوهات لناصر علي الذي يتعرف وبالمصادفة المحضة على فتاة جميلة وآسرة تدعى (إيران) ـ وهو اسم سيكون من دون شك ضمن تحويرات المخرجة التي أرادت إيصال المغزى العاطفي العميق الذي يربطها بهذا الاسم ـ ومع تنامي عشق ناصر لإيران، يذهب لوالدها صانع الساعات كي يطلب يدها، لكن الأب يرفض هذه الزيجة بشدة لأنه يرى أن عازف الكمان لا مستقبل له، هذه الصدمة العاطفية المؤلمة سوف تدفع بناصر علي إلى ابتكار لحن مؤثر وجامح يستمع له معلم الموسيقا وهو مندهش من هذا التحول الكبير الذي طرأ على تلميذه فيقرر أن يهديه الكمان الذي يحتفظ به للشخص الذي يعثر على الموسيقا السرية للكون والتي طالما حلم بها. رحلات غرائبية وبعد أن يأخذ ناصر علي كمان المعلم، يذهب في رحلة طويلة إلى أصقاع الدنيا المختلفة وتمتد هذه الرحلة إلى عشرين عاما كي يبحث عن خلاص وشفاء لروحه المعذبة والعاشقة. وبعد عودته إلى بلده وهو في بداية الأربعينيات من عمره تختار له أمه ـ الممثلة إيزابيلا روسيليني ـ الزوجة التي تراها مناسبة له، وهو اختيار جاء بالطريقة التقليدية المتوارثة التي تؤمن بأن الحب دائما ما يأتي بعد الزواج، وهو الأمر الذي لن يتحقق أبدا، لأن عاشق الكمان المتيم ورغم إنجابه لطفلين رائعين، لن يستطيع أن يجابه مسؤوليات هذه الأسرة الصغيرة، ولن يستطيع أن يتكيف مع المزاج الهائج والعصبي لزوجته المتأزمة نفسيا واجتماعيا ـ الممثلة ماريا دي ميديروس ـ والتي تقرر في النهاية تحطيم آلة الكمان العزيز على قلب زوجها بعد أن تدخل معه في عراك صاخب سببه سلبية الزوج وعدم بحثه عن وظيفة تنقذ العائلة من وضعها المادي المرهق. يقرر ناصر علي بعد هذه الحادثة أن يقطع صلته بالعالم وأن يقبع في سريره بانتظار ملك الموت كي يخلصه من ألمه الكبير وينتشله من حطامه النفسي والوجودي الهائل. وخلال مدة انتظاره التي تستمر لسبعة أيام يأخذنا الفيلم وفي كل يوم من هذا الانتظار الجهنمي إلى رحلات غرائبية لا ترتهن لزمن أو مكان، لأنها رحلات قائمة على سفر هذياني جامح يخترق الماضي السحيق والمستقبل المجهول ويأخذ شخوص الفيلم معه نحو كائنات خرافية وشخصيات أسطورية وملوك وسحرة ومجانين وشعراء وفلاسفة، وتتداخل في هذه المشاهد الهاذية، الرؤى العبثية والطفولية والحنينية للمخرجة سترابي مع الشعرية المتهكمة والشفافية البصرية المخدوشة والمضخّمة للمخرج الفرنسي بارونو. تستهل هذه الحكايات اليومية بعبارة متداولة لقصص الجدات والتي تبدأ بـ”كان يا مكان” ما يشير إلى الصدام الحقيقي بين النقائض والأضداد، وفي إشارة مبيتة إلى أن هذه الحكايات سوف تنقلنا حسيا ومشهديا إلى جملة من التناقضات الموضوعية والمرئية، حيث يلتقي التجريد بالتشخيص، وتمتزج الأفراح مع الجنائز، ويتصالح الحلم مع الكابوس، وتكون التراجيديا هي ذروة الكوميديا، ويتحول دخان السيجارة التي ينفثها ناصر علي إلى غيمة يهبط منها ندف الثلج وتلتقطها أفواه الصغار التي تؤخر صلواتهم موت الآباء اليائسين، وكل ذلك ضمن نسيج هذياني لم يشأ الفيلم أن يفصله من واقعية جارحة وصدامات متوارثة وعنيفة بين الفن والثيولوجيا، وبين التوق الفردي والشرط الاجتماعي، وبين الأرض الأولى وأرض الهجرات، وبين يوتوبيا العشق وقسوة الارتباط، والتي تدلل في النهاية على أن العبث المحيط بحياتنا هو جزء مدسوس أيضا في نظام عيشنا، وأن المتاهة هي الوجه المقابل والملتصق دائما بالوضوح، أو بما نعتقد أنه واضح ويقيني ومكشوف!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©