الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبي بين امرأتين

أبي بين امرأتين
5 أكتوبر 2012
(القاهرة) - كان ارتباط أبي وأمي تقليدياً، لم تسبقه قصة حب أو مغامرة عاطفية، وإنما تم التعارف عن طريق الأهل والترشيحات، ولم يكن هُناك أي نوع من التعقيدات أو الاشتراطات، إلا أن أمي بعد فترة قليلة من إعلان الخطوبة وعند الحديث عن المستقبل، اشترطت أن يكون المسكن بجوار جدتي لأنها ترتبط بها ولا تستطيع أن تفارقها وتعيش بعيداً عنها، وقد لقي الشرط تأييداً من أسرتها، وقبولاً من العريس لأن الأمر كان متاحاً نسبياً ويمكن تحقيقه. الشاب موظف في شركة ودخله جيد، لكن حينها لا يكفي لتحمل نفقات الزواج وحده فساعده أبوه ببعض المال، وساهمت الفتاة بما عليها حسب العرف السائد في تلك الأيام، وحصل على شقة في نفس المنطقة التي تقيم فيها أمها، المسافة لا تصل إلى خمس دقائق سيراً على الأقدام، وذلك جعل الجميع في سعادة غامرة، العروس لأنها لم تبتعد عن أمها وفي نفس الوقت هي في بيتها المستقل وحياتها الخاصة، وأمها لأن ابنتها لا تزال قريبة منها ولم تفتقدها، والعريس لأنه استطاع أن يلبي ويستجيب للشرط الوحيد. تم الزفاف في ناد متوسط المستوى حسب إمكانيات الأسرتين والمستوى الاجتماعي، وانتقل العروسان إلى عشهما الجميل الهادئ ترفرف عليه السعادة، أسرة جديدة وليدة في الحياة، تتكون من اثنين فقط، الرجل يذهب إلى عمله صباحاً، والزوجة تقوم بالواجبات المنزلية الخفيفة، ما بين إعداد الطعام والتنظيف والغسيل، كل ذلك لا يستغرق منها وقتاً طويلاً، فالمسكن يظل منسقاً لعدة أيام ولا يحتاج إلى تدخل، لذا كان عندها المزيد من الوقت لتذهب إلى أمها تقضي معها بقية اليوم إلى أن يقترب موعد عودة زوجها، وهنا إما أن ترجع إلى البيت وحدها وتسبقه إلى أن يأتي بعد دقائق، وإما تنتظره إلى أن يصطحبها من بيت أمها ويعودا معاً. لم يستمر هذا الوضع أكثر من عام حتى حصلت الزوجة هي الأخرى على وظيفة، وأصبح وقتها ضيقاً، ولم تعد تستمتع بالمكوث مع أمها أكثر مثل ذي قبل، فالآن كلاهما يذهبان إلى العمل في الصباح الباكر ويعودان بعد الخامسة مساءً، أحياناً يذهبان معاً وكثيراً ما تذهب وحدها، وفي أيام تستعيض بالهاتف وتتحدث مع أمها ربما لساعات في توافه الأمور وأشياء بلا قيمة مجرد كلام وثرثرة، لكن بالنسبة لهما تجدان فيها متعة وارتياحاً، والحديث دائماً وإن تكرر لا تملاه ويكون عن الأحوال الحياتية والأحداث اليومية في البيوت وشؤونها العادية وحركات وتحركات النسوة في محيط الأسرة والجيران والعمل، بدءاً من وصفات ومقادير الطعام وصولاً إلى الزواج والطلاق والمشاكل والمشتريات، كل ذلك بالنسبة له لا يهمه في شيء، فهو يكون مشغولاً بقراءة صحيفة مع كوب شاي اعتاد عليه في هذا الموعد، أو متابعة البرامج التلفزيونية، ثم بعد أن تنتهي هي من حديث أمها لا تحتاج كثيراً للكلام معه لأنها أفرغت الشحنة التي كانت بداخلها، وقد تقضي ما تبقى من ليلتها في إعداد الطعام استعداداً لليوم التالي كي يجدا الغداء جاهزاً عند عودتهما. ظهرت مشكلة، لكنهما لم يتوقفا أمامها، فالزوجة حامل ولا تستطيع أن تقترب من المطبخ، فهي لا تطيق رائحة الطعام المطبوخ كله، خاصة اللحوم والدجاج، علاوة على أنها أصيبت بالضعف وفقر الدم بسبب إقلالها من تناول الطعام، فلا تأكل إلا الخبز الجاف مع الجبن، حتى حذرها الأطباء من خطورة ذلك عليها وعلى الجنين الذي أوضحت الأشعة أنه أنثى، وكنت أنا تلك الأنثى، حينها تحاملت أمي على نفسها - كما أخبروني - وبدأت تتناول العصائر والخضراوات حتى تغلبت على هذه المشكلة، بينما أبي لم يكن يهتم بنفسه في هذه الفترة ويكتفي بوجبة ساخنة مرة عند حماته ومرة عند أمه ولا يلجأ أبداً إلى المطاعم فهو لا يحبها. بعد قدومي إلى الدنيا كانت الأسرة في حاجة ماسة إلى سيارة، ففي السابق لم يكن الأمر ملحاً لأن كلاً منهما يمكن أن يستقل المواصلات العامة بسهولة، أما الآن، فقد أصبح لديهما حقائب فيها احتياجات المولودة الصغيرة وطعامها وملابسها، حيث تحتاج إلى تغيير بشكل مستمر، ويتركانها عند جدتها إلى حين عودتهما كل يوم، ولأنه لا بديل أمامهما عن ذلك أصبح هذا من الطقوس اليومية الثقيلة، حتى تضطر الأم للمبيت عند أمها بدلاً من الترحال الدائم بلا استقرار، ومع هذا فإن أبي لم يتأثر ولم يشتك أبداً من تلك الأحوال، يتقبلها عن طيب خاطر بكل رضا، وحتى بعد أن تحققت الأمنية وتمكنا من شراء سيارة صغيرة قديمة مستعملة لم تتغير الحال كثيراً فالأسفار اليومية كما هي، ما استجد أنهما استراحا من عناء الأحمال والحقائب الخاصة بي. كبرت أسرتنا وازداد عدد أفرادها حتى أصبح الأبناء أربعة، هم بنتان وولدان، أنا أكبرهم بالطبع وكما كانت أمنا مرتبطة بجدتي ارتبطنا نحن أيضاً بها ونذهب إليها فرادى وجماعات، وكانت عندها جاذبية غير عادية، فلا نريد أن نفارقها ولا نستطيع الصبر على عدم رؤيتها لأكثر من يومين أو ثلاثة، والتحقنا بالمدارس، ثم الجامعات واحداً تلو الآخر، وأبي ظل يترقى في وظيفته إلى أن حصل على درجة مدير عام، حينها كان لابد أن يتم نقله إلى مدينة أخرى، حيث الفرع الرئيسي للشركة، وهو يتولى هذا المنصب لابد أن يكون هناك، وسعدنا كثيراً أن يكون أبونا في هذا الموقع والمستوى الوظيفي وأقمنا احتفالاً أسرياً صغيراً، تناولنا العشاء خارج المنزل وجلسنا في مكان هادئ. لم نكن نشعر أو ندري أن هذه الميزة وراءها مشكلة هي ابتعاد الأب عنا، فلا نراه إلا أياماً معدودات كل شهر، وقد تأثرنا جميعاً بذلك، رغم أن حياتنا أصبحت أفضل مع زيادة دخل أبي بعد ترقيته، وكذلك تقدم أمي في عملها، وكأن السعادة تخفي خلفها وجهاً آخر لا نراه إلا بعد فترة، وبدأ أبي لأول مرّة في حياته يشكو من الوحدة ومن افتقادنا، وطرح الأمر للمناقشة ووضع في البداية اقتراحاً، فقد كان ديمقراطياً وحريصاً على إشراكنا في المناقشة، وعدم الانفراد بالقرار، وكان اقتراحه أن نحصل على شقة في المدينة التي يعمل بها وننتقل إلى هناك من أجل لم الشمل ونكون معاً بدلاً من هذا التشتت، وقد لقي هذا الطرح قبولاً وموافقة بالإجماع، لم ترفضه إلا أمي، والسبب الوحيد، كما قالت أنها لا تستطيع أن تبتعد عن أمها، وفشلت كل جهودنا ومحاولاتنا في إقناعها، ولم تثنها التطمينات والتعهدات التي قدمها أبي بأننا سنحضر مرة كل شهر على الأقل لنقضي معها يومين أو ثلاثة، لكن أمي أغلقت باب التفاوض والنقاش. تحامل أبي على نفسه من تشتت الأسرة بهذا الشكل وبعد عدة أشهر أعاد طرح المشكلة، وكم يعاني ونحن أيضاً من ذلك، وكاد يقبل يدي أمي وهو يرجوها أن تقبل بهذا الحل، خاصة بعد أن حصل على الشقة بالفعل من عمله وهي في الحقيقة عندما زرناها في موقع ومنطقة أفضل بكثير من التي نقيم فيها وأكبر في المساحة أيضاً، لكن أمي لم تتزحزح عن موقفها قيد أنملة، وفشلت محاولاتنا نحن الأبناء التي كانت تساند أبي وتؤيد وجهة نظره في إقناعها حتى بقضاء الإجازات والصيف هناك، لكنها أصرت وتشبثت برأيها، وكان لذلك تأثيره على حالتنا النفسية، وخاصة أن ظروف ومسؤوليات أبي أصبحت تمنعه من الحضور إلينا شهرياً، كما كان من قبل وتباعدت زياراته ربما لأكثر من ثلاثة أشهر. مرت ثلاثة أعوام، ونحن على تلك الحال حتى فاض الكيل بأبي، جاء هذه المرة بكلام حازم حاسم ووجهه إلى أمي وجعلنا جميعاً عليه شهوداً، حتى لا يوجه أحد له اللوم بعد ذلك وقال إنه إذا لم نذهب للإقامة معه، فإنه سيتزوج ولا تثريب عليه وإن شخصاً في مثل سنه لا يجوز أن يعيش حياة العزوبية، ومن ناحية أخرى ليس من المقبول أن يغسل ملابسه ويعد طعامه وينظف الشقة ويقوم بأعمال البيت بنفسه، وأنهى الحوار وطلب رداً بعد يومين، ثم ذهب مغادراً إلى عمله، وأخذت أمي الأمر على أنه مجرد كلام، فرجل مثل أبي من وجهة نظرها لا يقدم على تلك الخطوة، فهو متزن ملتزم وتثق به إلى أقصى حد، وكلامه مجرد تهديد، وكان تقديرها للموقف أنه محاولة ضغط ليس إلا كي تقبل الذهاب للإقامة معه، وكان ردها النهائي أننا لن نذهب. لم تكن حسابات أمي صحيحة على الإطلاق، فقد أعلن أبي أنه في طريقه لخطبة امرأة تناسب سنه وظروفه، فكان رد فعل أمي مجرد كلمات معدودة، فليفعل ما يريد، فانقطع الحديث عن ذلك شهرين، أخبرنا بعدهما أبي بأنه تزوج بالفعل، وفي الحقيقة لم يكن لنا أن نوجه له أي لوم بعد أن استنفد كل الوسائل والسبل، ورأينا نحن الأبناء أن هذا من حقه رغم أننا لا نستريح لذلك، ولا يرضينا، ظهر الوجه الآخر لأمي والذي لم نكن نعرفه من قبل، خرجت غيرتها الدفينة التي ظهرت بعد زواج أبي، وتبدلت الأحوال وانقلبت رأساً على عقب، فهي التي طلبت منه أن يحصل لنا على شقة لنكون بجواره، فقال لا أستطيع، طلبت منه أن يطلق زوجته الثانية وأنها ستقبل الانتقال لنعيش ونقيم معه، فقال وما ذنبها؟ فحاولت أمي أن تواصل ممارسة ضغوطها عليه ليقبل أحد هذين الحلين، فطلبت منه أن يطلقها هي، فأبدى موافقته على الفور، فتراجعت وهي تغلي وتحاول أن تحملنا المسؤولية وأننا شاركنا مع أبينا في هذا الوضع والتحالف ضدها، ونحن لا نستطيع أن ننطق بالحقائق التي نعرفها جيداً. أخيراً، كان أبي عند مسؤوليته نحونا فاستأجر لنا شقة بالقرب من المسكن الذي تزوج فيه ويحاول أن يعدل قدر ما يستطيع، لكن الغريب أن أمي تحولت إلى امرأة لطيفة معه تحاول أن تسترضيه بشتى السبل، فتعجبت من أحوال النساء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©