الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الباسقات

الباسقات
9 مارس 2016 21:00
أعد الملف - محمد عبد السميع شكلت النخلة رمزاً من رموز الحياة، وعنصراً دالاً على وجودها في المجتمعات والحضارات على مر العصور، وقد حافظت الأجيال عبر التاريخ على مكانة هذه الشجرة المباركة كونها مصدراً مهماً للغذاء والخصب. وتربط أبناء الإمارات بالنخلة علاقة تاريخية ووجدانية، إذ تمثل تراثاً عريقاً شعاره الفخر والاعتزاز لارتباط نشاطه ومأكله وأدواته بها، حيث استثمر كل ما بها وما عليها وما أنبتت، وتعايشت مع بيئته فصارت منها وإليها، فكانت رزقاً وعوناً له في كل مكان وزمان، فمنها يأكل ويبني بيته ويكرم ضيفه ويعلف حيواناته ويصنع وسائل نقله ومستلزمات الحياة والتعامل مع ظروف ومفردات البيئة. قال تعالى في كتابه العزيز (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) الآية 10 سورة ق. والباسق هو الطويل‏، (لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ):‏ متراكب بعضه على بعض‏.‏ والطلع النضيد هو رزق للعباد قوتاً وادماً وفاكهة يأكلون منه ويدخرون هم ومواشيهم.. وفي ذلك إشارة إلى القدرة الإلهية المبدعة التي تتجلى في خلق النخلة الباسقة‏‏ بهذا الطول الفاره‏، ‏ وإعطائها من القدرات البينة الظاهرة‏، ‏ والخفية المستترة‏، ‏ ما جعل من النخل مضرب المثل في القرآن الكريم الذي ذكره في عشرين موضعا‏، ‏ وفضله دوما على غيره من أنواع الزرع‏، ‏ والفاكهة‏، ‏ وجعله في مقابلة غيره من أنواع النباتات‏.‏ فمن القدرات الظاهرة للنخل ثباته في الأرض‏، ‏ وارتفاعه فوق سطحها ومقاومته للرياح‏، ‏ وتحمله للحرارة الشديدة والجفاف وقوته وتعميره‏، ‏ووفرة إنتاجيته تحت أقسى الظروف‏، ‏وتعدد أشجاره وثماره شكلا ولونا وطعما وحجما وفائدة‏، ‏وتعدد الفوائد المرجوة من كل جزء من أجزاء شجرته المباركة‏.‏ ومن القدرات المستترة للنخلة تلك القدرات الفائقة التي وهبها الله إياها‏، ‏لتعينها على القيام بمختلف الوظائف الحياتية‏، ‏وفي مقدمتها القدرة على الاستفادة بماء الأرض وعناصرها ومركباتها المختلفة‏، ‏والاختيار منها حسب حاجاتها‏، ‏ورفع العصارة الغذائية إلي قمتها‏، ‏وأوراقها وأزهارها وثمارها‏، ‏ وإلى مختلف أجزائها مهما تسامقت تلك القمة‏، ‏وتباعدت تلك الأوراق والأزهار والثمار‏.‏ ونظراً لمكانة وأهمية ودور النخلة في حياة مجتمع الإمارات والإنسان عامةً كان هذا التحقيق مع بعض الباحثين والكتاب. أسطورة سومرية تقول إنها ولدت على يد غراب أول نخلة في الكون لولوة المنصوري منظر مقدس مبارك عندما تشهد انحسار الشمس وقت المغيب عن رؤوس مزارع النخيل، هذه الأشجار الصابرة المرافقة لأمن وطمأنينة الإنسان على مر التاريخ والأساطير، هي رمز الوجود الأول والخصوبة والجنة الأرضية والممالك العظيمة، فهي تكاد أن تكون إنساناً بما يجمع بين الذكر والأنثى من طقوس الرباط القدسي التام في السحرية والغموض، ولعل بعض القبائل الجبلية والصحراوية المتحفظة مازالت تضخم من حجم تحريم اقتلاع النخلة وتساويه بقتل الإنسان. أدركتُ النخلة من خلال ما يُروى حولها من أساطير متواترة وخرافات شعبية لا حصر لها، ففي إمارة رأس الخيمة تحديداً في قرية (ضاية) الجبلية، حيث يقبع ركام بقايا قلعة الملكة زنوبيا، تتكاثر مزارع النخيل بشكل غرائبي ولا ينتهي النسل، يردد الفلاحون مقولة متوارثة (زنوبيا أكلت رطبة، وألقت للبلاد بذرة). قال آخر كهل من المزارعين القدماء: (في آخر الزمان تشهق النخيل ارتفاعاً عن الجبال.. أولها نخلة في شرق الوادي قرب رأس الغولة)! مدّ ذراعه إلى الشرق ولا أعلم حقيقة هل توجد منطقة في الجوار الشرقي اسمها رأس الغولة؟ بحثتُ عنها كثيراً ولا أملك غير مصدر شفهي لكهل واحد. ولعل أجمل ما يقال في النخلة هو على لسان أمهات الجبل وقت زيارة تقديم التعازي للأطفال الذين تموت أمهاتهم الصغيرات: (الأم المُحبَّة لا تموت، إنما تتحول إلى نخلة باسقة بالثمر، وأولادها لا يتيتَّمون وإنما يتحولون إلى نسور شاهقة نحو القمم). لذا أحرص أن أكون بحول الله وقدرته أماً مُحبة. في بداية طفولتي كنت أخاف من رأس النخلة في الليالي المقمرة، فلقد ارتبطت مشاعري بتخويفات الأمهات في القرية للأطفال الذين يخرجون من بيوتهم ليلاً، فإن أم السعف والليف ستلاحقهم في الطريق ولن تعود بهم أبداً إلى البيوت! أضحك كلما تذكرتُ تلك الخرافة، ولا أتصور أبداً أن تتحول النخلة في الليل إلى جنية عملاقة قبيحة مرعبة يتطاير شعرها في الريح تسمى أم السعف والليف. بعد أن دخلتُ مرحلة التساؤل، صرتُ أعتزل وأتأمل، صرت أقضي جل أيامي بين مزارع النخيل في الجبال، والتي خصَبت مخيلتي كثيراً، فازداد تأملي وشغفي بها وقراءتي عنها، أذهلتني الأساطير المنسوجة حول بدء وجودها الأول، يقال إن في البدء كانت النخلة في الجزيرة العربية، وحسب بعض المصادر والوثائق البشرية فإن لها صدارة الوجود في الجزيرة العربية قبل أي كائن، ومن ظلالها خرج الإنسان المتفيء والجائع لثمارها، ومن تحتها اندلق تيار الواحات الأولى في التاريخ. لكن أساطير آلهة السومريين خالفت الأسطورة السابقة حول أول نخلة ولدت في الكون، السحر الفاتن في هذه الحكاية العجيبة أن الميلاد الأول للنخلة كان في بلاد سومر وعلى يد غراب! حسب ما تقوله الأسطورة بأن كبير آلهة السومريين نظر إلى أرض العراق، فرأى النهر يتدفق، والطين يخفق، والأرض تحبل حقولاً ومزارع وجنات وأنعام وممالك، لكنه أمعن النظر كثيراً فأصيب بالوحشة وانقباض الروح، وشعر بأن أرض الرافدين تكرر نفسها على الرغم من كل ما تزخر به من عناصر النعمة، إلا أنها ينقصها الحياة، ينقصها الدفق والهواء والدفء والسحر، نعم ينقصها السحر، وذلك يتحقق بوجود شجرة من خارج الكون، شجرة تشبه امرأة، ومواصفات هذه الشجرة نجدها في أحد الملاحم السومرية على لسان كبير الآلهة (لسانها الطلع يعطيك لبّاً، الألياف تعطيك حصيراً، فسائلها الذي يحيط بها يعطيك أدوات القياس، جريدها يرافق الأوامر الملكية، تمرها يتدلى أعذاقاً بين سعفها الكثيف، تمرها نذور في معابد أكبر الآلهة.. إلى آخر الصفات الواردة في الملحمة. وهنا والأكثر عجائبية في هذه الأسطورة أن يأمر كبير آلهة السومريين أن يحضروا له الغراب الذي أنشأ أول قبر على الأرض (وقت أن كشف لقابيل كيف يواري جثة أخيه هابيل). وجيء بالغراب الذي وقف مذهولاً بين يدي كبير الآلهة الذي أوكل له أن يغرس أول نخلة في الكون. انطلق الغراب ينفذ التدبير بأي طريقة، فكانت السرقة هي الحل الأكثر عجالة، سرق كحل سَحَرَة سومر، وسحقه سحقاً ثم بذره بين الحواشي المتاخمة للأهوار لتطلع شجرة الآلهة التي لم يعرف ولم ير أحد مثلها قط. هكذا ولدت أول نخلة وفق الأسطورة السومرية في بلاد الرافدين وعلى يد غراب! وكان الكحل هو البذرة الأولى للنخلة، والكحل زينة العين، لذا صار لسعف النخيل شكل الحاجب، وصارت النخلة امرأة، وملكة على أرض السواد. الشجرة المقدسة يقول عبد الأمير الحمداني في بحث بعنوان «صورة النخلة في المعتقدات الرافدينية»: تمثلت صورة النخلة من الأسطورة إلى الواقع، احتلت مكان الصدارة في نفوس سكان وادي الرافدين الأقدمين، باعتبارها شجرة مقدسة إلى الدرجة التي صور فيها رمزا إلهيا، والشجرة الطيبة في جنان وحدائق ا?لهة بلاد سومر، وهي أيضاً رمز الحياة، واول القاطنين على الأرض. استضافت الإنسـان واعطته مفردات اللغة، حياتها سكينة وهدوء، ولها سحرها الأخّاذ، تنمو بصمت، ولا تموت الا بعد عمر مديد، النظر اليها اطمئنان، والبعد عنها مكابدة، خضرتها تمنح الصـفاء والنقاء، أسرارها زاخرة بالحكمـة والمعرفة، لم تـُدرك روعة الألوان الا بها، لها معان بعيدة لم يُكشف بعد الا النذر اليسير منها. هي صديقة الغيث، ومصداق الخصب، ورمز الخير، وعنوان القداسة. ويكفي ان نشير إلى مثل سومري يصور لنا كيف كان السومريون يقدسون النخيل، حيث يرد هذا المثل على لسان الملك شولجي (2084-2047 ق.م) في قصيدة يمدح فيها نفسه، فياتي في سياق الوصف: انت مدلل من قبل نن- جال.. مثل نخلة في ارض دلمون المقدسة. مجلة الآداب السومرية، العدد الرابع، 2009
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©