السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أدباء مصر.. المكان والمكانة

أدباء مصر.. المكان والمكانة
16 أكتوبر 2013 22:27
لمصرَ في قلوب كلّ العرب، وبخاصّةٍ منهم الثّقِفُون، مكانةٌ مكينة. وكلّ مَن يجيء ليريد الحديثَ عن مصر، لا ريبَ في أنّه تعروه شبكة من العواطف الجائشة، والأحاسيس العارمة، فلا يدري من أين يبتدئ، ولا إلى أين ينتهي؟ فقد تتلمذْنا على الأدباء المصريّين وإن لم نكن نعرفهم معرفة شخصيّة. ونحن في جيلنا كنّا معجبين أعظم الإعجاب بأسلوب طه حسين، وكنّا، ونحن شبابٌ، نحفَظ من كلامه المنثور، كما كنّا نحفظ من كلام امرئ القيس المشعور، حذوَ النعل بالنعل، وخصوصاً من مطالع الأجزاء الثلاثة من "على هامش السيرة"، و"الأيّام"، و"دعاء الكروان". وقد ازْدار طه حسين المغرب سنة 1956، بعد عودة ملِكها من المنفى، فكنّا نتسمَّع إلى ما يصرّح به في إذاعة الرباط، ونتسقّط كلامه، على أنّه الأديب الأوحد في الكون. حين كنت معلّماً في المدرسة الابتدائيّة بأحفير، بالمغرب، تعرّفتُ زميلاً مصريّاً، استقرّت به النوى في تلك المدينة الصغيرة نفسِها التي كنت أدرّس أنا فيها، وكان اسمه ـ لا أزال أذكره ـ محمداً النشاط، وكان أديباً ظريفاً، وكان لطيف العشرة كريماً. وكان فيما أخبرني به، فيما لا أزال أذكر، أنّه من قرية المنوفية بمصر. وكان يعرف شيئاً من اللغة الفرنسيّة، فترجم رواية “امرأة الخبّاز”La Femme du boulanger التي كتبها مارسيل بانيول عامَ 1938، من الفرنسيّة إلى العربيّة، ولكنّ ترجمته ظلّت دون نشر فيما أعتقد. غير أنّ أهمّ ما في الموضوع، أنّ الصديق النشّاط نبّهني إلى هذه الرواية الرائعة التي هي إحدى روائع الأديب والسينمائيّ الفرنسيّ مارسيل بانيول Marcel Pagnol، فبحثت عنها في المكتبات، حتّى عثرت عليها، فاشتريتها وقرأتها في لغتها الأصليّة، وهي ليست طويلة. وقد مثّلها الفرنسيّون في شريط سينمائيّ جميل، أتيح لي مشاهدته في إحدى القنوات الفرنسيّة. وقد كان بيني وبين ذلك المعلّم الطّيّب الذِّكْر مودّة خاصة، فقد كان متزوّجاً، ولم يكن له أطفال، فكنت لا أزال أدعوه وزوجه إلى بيت الوالديْن (وكنّا لاجئِين سياسيّين في المغرب الشقيق، أيّام ثورة التحرير)، فكان يأتي، هو وزوجه، ويتحدّث مع الوالدة، ويأكل من أطباق طعامنا الجزائريّ. كما أصرّ يوماً على أن يضيّفنا، أنا وأمي، حيث لمّا أكنْ قد تزوجّت، فذهبْنا وأطعمَنا الملوخيّة التي حضّرتْها زوجه بالطريقة المصريّة، فطعِمْتُها لأوّل مرّة. ولكنّي كنت آكلُها بتقزّز شديد، وكأنّي آكل مُرّ الدواء! ولكنِ احتراماً لربّ البيت الكريم، كابدت وأكلت منها قليلاً، لأنّ المرء إذا ذاق طعاماً لأوّل مرّة، ولا سيما إذا كان تقليديّاً غيرَ طعام بلده، فإنّه لا ريب يكابد حتّى يستسيغَه، فكثيراً ما يكون الطعام التقليديّ جزءاً من الثقافة المحلية نفسها. وذهبت إلى جامعة صنعاء، أستاذا زائراً، سنة 1984 فجاءني الدكتور عبد السلام الشاذلي، ولم أكن أعرفه من قبلُ، وقد كان درّس، هو، سَنةً واحدة بجامعة تيهرت الجزائريّة، وكان يزور وهران مقر سكني من حين إلى حين، كما أخبرني من بعدُ بذلك، ولكنّه لم يكن يعرف عنوان سكني الشخصيّ، في تلك الأثناء، فلم يستطع الاتّصال بي... وقد كان عبد السلام الشاذليّ مدرّساً بجامعة صنعاء وافداً، ولم يكن مجرّد زائر لها مثلي، فكان يجيء إليّ في فندق سبأ، كلّ مساء، فلا يذهب عنّي إلى بيته في دار الضيافة، إلاّ بعد منتصف الليل. وقد كتب عنّي كتابة تكريميّة، ونشرها في كتاب له، فأنا مُقِرٌّ له بالفضل في ذلك. وقد دعوته حين عدت إلى وهران، باسم جامعتها، ليناقش أطروحة جامعيّة كنت أشرف عليها، وكانت فرصة لتجديد اللقاء، ودعوناه إلى البيت لتناوُل طعام الغداء، مع بعض الأصدقاء من الكتّاب الجامعيّين، وكرّمناه وأهديناه... ثمّ لم نزل نلتقي من بعد ذلك، هنا وهناك، فآخر مرّة التقينا فيها كانت في القاهرة، وكان ربما الْتمسَ منّي أن أتوسّط له في بعض القضايا الإداريّة لدى الدكتور عبد العزيز المقالح بصنعاء، حين كان يدرّس بالجامعات اليمنيّة... وعرفت الناقد الكبير الدكتور مصطفى ناصف، أوّل مرّة بصنعاءَ حيث كنت أنا أستاذاً زائراً، وكان هو أستاذاً وافداً هناك. وكان يقدّرني، فيما كنت أرى، تقديراً خاصّاً، فكان يستشيرني في اختيار بعض عناوين كتبه: وأيّها أكثر استغراقاً في الحداثة، كما قال عنّي، حسب رواية الدكتور عبد السلام الشاذلي، حين قرأ كتابي: “بنية الخطاب الشعريّ”: “مرتاض منّا”، أو “لنا”! والذي أعرفه عنه أنّه صارم المزاج، وكأنّه غيرُ مصريّ! ويقال ذلك أيضاً في الدكتور عبد المحسن طه بدر، فهما يتشابهان في المزاج والجدّيّة المفرطة... وتعرّفت الأستاذ محمود أمين العالم في الجزائر، وقدّمته في مدينة سكيكدة الجزائريّة، في فعاليّة نهض بها اتحاد الكتّاب الجزائريّين، وكان الرجل يدافع عن الشيوعيّة حتّى كأنّه كان موكّلاً هو وحده بذلك دون العالمين! وكان يرفض، في ضيق أفق مدهش، كلّ منهج نقديّ إلاّ منهجَ الواقعيّة الاشتراكيّة، فكان يهاجم كلّ المناهج النقديّة الجديدة التي عداها، فيعاديها؛ وكأنّ الواقعيّة الاشتراكيّة مذهب يحمل الحقيقة المطلقة! والتعصّب المذهبيّ الذي يُبلَى به بعض كبار الرجال كثيراً ما يُفضي بهم إلى المُكابرة وجمود التفكير! وعرفت الأستاذ صالح جودت، في الشهر السابع من سنة 1973 بمدينة تيزي وزو، وذلك على هامش مؤتمر الفكر الإسلاميّ الذي كانت الجزائر تعقده سنويّاً. وكنت أنجزت، بعدُ، ثلاثَة نصوص روائيّة لم أجد من ينشرها لي في الجزائر حيث لم تكن لدينا إلاّ دار نشر وحيدة، عامّة، كانت تتحكّم فيها البيروقراطيّة، فلم يكن القائمون عليها ينشرون إلاّ من يعرفونهم من سكّان العاصمة، وكنت أنا أقيم بوهران، فكنت مبتعداً عن القوم، ليس إلاّ... فكانت تلك النصوص الروائيّة مخطوطة في مكتبتي، وقد عنستْ فلم تُلْفِ خُطّابها، فاصطحبت إحداها معي، على سبيل المصادفة أو الترجّي، لم أعد أذكر، ففاتحت الأستاذ صالح جودت، وهو مَن هو، يومئذ، في مؤسّسة دار الهلال بالقاهرة، في أنّ لي روايةً جزائريّة تتناول ثورة فاتح نوفمبر 1954، عنوانها: “نار ونور”، ونصُّها معي. فطلب إليّ أن أمكّنه منها ليطلع عليها، وكانت مرقونة على الآلة الكاتبة، ومجلّدة... فمكّنته منها ذات صباح، وكان هو يجلس في معزل من قاعة المحاضرات الفسيحة، فكنت أسترق النظر إليه، وإذا هو يواصل قراءة الرواية ولا يتوقّف عن قراءتها، بحيث كان غائباً فيها، ولم يكن يتابع ما يجري في القاعة، أو كذلك كان يخيَّل إليّ، عن موقف الإسلام من تعدّد الزوجات الذي كان أحدَ موضوعات ذلك المؤتمر الإسلاميّ الذي حضره شيخان جليلان في الفقه الإسلامي: الشيخ أبو زهرة، والشيخ الإمام الصدر، حيث التقطت صورتين لي معهما، ولكنّهما ضاعتا منّي... ولم يَعِدْني صالح جودت بشيء، ولكنّي فهِمت أنّه غالباً ما سينشرها، فنشرها، فعلاً، في سلسلة كتاب دار الهلال، في نوفمبر 1975 بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لقيام الثورة الجزائريّة، فوُزِّعت في العالم كلّه، فأيّ حظّ صادفني عن طريق ذلك الفاضل، رحمه اللّه! وواضح أنّي كنت أوّل أديب جزائريّ تنشر له “دار الهلال” بالقاهرة، كما كنت أوّل أكاديميّ جزائريّ تنشر له “عالم المعرفة” بالكويت، كما كنت أوّل ناقد جزائريّ تنشر له أكاديميّة الشعر في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. وممّن عرفتهم معرفة عابرة الدكتور شكري عيّاد الذي أهداني كتابه: “اللغة والإبداع”، بعد أن كنت أنا أهْدَيته أحدَ كتبي، لم أعد أذكر عنوانه، وقد كان ذلك بمدينة جدّة زهاء على هامش مؤتمر النقد العربي 1989: “قراءة جديدة لتراثنا النقدي”. وتعرّفت الدكتورَ حسّان تمام بندوة جدّة أيضاً، فلمّا سمعني، أستعمل في بعض ورقتي في تلك الندوة النقديّة لفظة: “اعْتَاصَ”، قال معلّقاً، معجَباً، وهو العالم باللغة: ـ حلوة والله! وبِيْؤُولوا الجزائريّين ما بِيَعرفوش عربي! ودارت الأيّامُ، وأصبحت رئيساً للمجلس الأعلى للغة العربيّة برئاسة الجمهوريّة، فدعوته إلى المؤتمر الدوليّ الذي أقامه المجلس بمدينة الجزائر، وقدّم بحثاً نشرْناه له ضمن أعمال المؤتمر بعنوان: “اللغة العربيّة بين العوربة والعولمة”. وكان آخر العهد به. وأمّا الدكتور عبد القادر القطّ فلم يتح لي مصادقته، ولكن عرفته بمدينة بغداد، في أحدِ المرابد، وسلّمت عليه، ونحن ببهو فندق فلسطين، ولا أحسبه كان يعرفني، لأنّ ذلك كان في بداية الأعوام الثمانين من القرن الماضي... وقد عرفت الروائيّ المصريّ الكبير الأستاذ خيري شلبي بالديار المقدّسة حيث حجَجْنا معاً، وقد تعاشرْنا طوال أسبوعين اثنين على الأقلّ بعرَفاتٍ ومِنىً وجدّة، وقد كان يرتاح لي كثيراً، ويسألني عن شؤون من العلم والدين، ونتناقش فيها. ولا أزال محتفظاً بوثيقة قصيرة مكتوبة بخطّ يده. كما تعرّفت في المناسبة نفسِها الإعلاميّ الأستاذ مجدي الدّقّاق رئيس تحرير مجلّة الهلال، وقد أُصيب بحمّى شديدة في المدينة المنوّرة، فرأيت الأستاذ شلبي، على كبر سنّه يُهرع إلى الصيدليّة، ليشتريَ له الدواء... وشلبي أسنُّ من مجدي، ولكنّه جاء ذلك لأنّه كان رفيقه، وهو موقف إنسانيّ نبيلٌ أكبرته فيه. كما تعرّفت في تلك الحِجَّة الفقيه القانونيّ الكبير الأستاذ يحيى الجمل، وكنّا نسهر سهرات ثقافيّة فكنت أسمعه وهو يسأل عن وجوه من العربيّة الصديق العالم الأستاذ سعد مصلوح، وهو الذي كنّا نتناشد معاً، في مناسبات أخرى، أرجاز الأعراب التي يُسشتهَد بها على دقائق العربيّة وشواذّها، وقواعدها العالية أيضاً، ممّا لا يعرفه عوامّ الكتّاب، وقد توقّفْنا لدى عبارة “نومة الفخّة” التي وردت في بيتٍ يُعزى إلى عليّ بن أبي طالب... ولدى لفظة “التّفيُّؤ”، وقد تعلّمتها من سعد مصلوح، فلاحظ صديقي أنّه يجب أن تُطلق، في الاستعمال المعاصر، على شعر المرأة حين تذهب إلى الحلاّقة فتضخّم لها شعرها وتنفُخه فيتكابر بفعل الآلة المجفِّفة للشعر، ووافقته على ذلك، ويفترض أن تدخل في المعاجم العربيّة المعاصرة، إن كان لها وجود فعلاً! وقد كنت التقيت بالصديق العالم الدكتور سعد مصلوح مرّات كثيرة في مكّة، وقبل ذلك بالرياض، وقبلها بالكويت... وقد أخبرني بمنىً أنّه كان بصدد إنجاز إعراب نصّ القرآن العظيم، هو وفريق من النحاة، ولا أدري إلى أين انتهَوا إليه منه. وبالأمس فقط ازدارني في بيتي (ليلة 18 أغسطس 2013) الدكتور يوسف وغليسي (الذي نال جائزة النقد ضمن جائزة الشيخ زايد للكتاب) هو ومجموعة من الجامعيّين، فأقمت لهم حفل عشاء ببيتي، وذكر لي يوسف وغليسي أنّه كان التقاه في إحدى العواصم العربيّة فحدّثه عنّي، ويبدو أنّ ذلك كان بالشعور النبيل نفسه الذي أحمله له. وعرفت الدكتور المفكّر حسن حنفي، وهو أحد كتّاب المقالة في جريدة “الاتحاد” بأبوظبي، بمدينة تطوان المغربيّة زهاء سنة 1999، في ندوة تكريم الصديق الدكتور محمد الكتّاني، مستشار ملك المغرب، وقد كان غَرْبُ حنفي يسيلُ فصاحةً وبياناً. وكان وهو يتحدّث مثل ما يكتب دون عَناء، فيما كان يبدو لي. ثمّ تعرّفته ببيروتَ في إحدى الندوات الثقافيّة، وكنّا ونحن في الجلسة الافتتاحيّة لتلك الندوة بقاعة اليونسكو، نسمع لِخُطباءَ مصاقيعَ على المنصّة الرسميّة وهم يهدِرون بأصواتهم، فكان الدكتور حسن حنفي يغفو أثناء إلقائِهم خُطبَهم، فكان يغِطّ في شخيره غطيطاً منكراً، فكانت بعض سيدات بيروت الأرسقراطيّات، ممّن يضعْن على شعور رؤوسهنّ خُمراً شفّافة على الطريقة الأوربيّة، يتلفّتْن إلى وراءَ حيث كان مصدر الشخير، وكان الدكتور حنفي بجانبي، فكنت شديد الحرج من ذلك مخافة أن يعتقدْن أنّي أنا هو الذي كان يَشخِر! غير أنّه حين كان يسمع الناس يصفّقون، والحقّ يقال، فيُحْدثون بأكفّهم هديراً، كان يستيقظ، بفعْل ذلك، فيصفّق معهم تصفيقاً! ثم لا يكاد الخطيب الآخر يأخذ الكلمة حتى يعودَ إلى شخيره القديم، من جديد!... وقد أخبرني الدكتور حنفي أنّه يستيقظ في الثالثة أو الرابعة فجراً كلّ ليلة، فيكتب حتّى الصباح، فلعلّ الشيخ كان محتاجاً إلى نومٍ يعدّل من مزاجه!... وكثيراً ما يقع الثَّقِفُون العرب في بعض هذه الأخطاء، فيقدّمون العمل على الصحّة، فيقع لهم من ذلك، في صحّتهم، ما لا ينتظرون!... وإنّي لا أدري، وإن كنت دارياً، كيف يستطيع أن يكتب شخصٌ كتابةً رصينة متّزنة وهو معرَّض لمُداعبة النّعاس؟!... ثمّ عرفْته بالجزائر، وقد دعوناه في المجلس الإسلاميّ الأعلى، لشهود إحْدى ندواته السنويّة، وجلسْنا، جنباً لجنب، في اليوم ما بعد الأخير من أيام الندوة المقرّرة، على مائدة واحدة، واختار طبَق الكسكسيّ الجزائريّ، المحضَّر مرقُه بالخضر المتنوّعة ولحم الخروف، في نزل الأوراسيّ. ولم نتَهادَ كُتُبَنا. وتعرّفت معرفةً عابرة، الدكتور صبري حافظ، في بغداد، في حلقة من حلقات النقد التي كانت تعقد على هامش مهرجان المربد، أيّامَ عِزّ العربيّة والعرب، كما التقيت به بالقاهرة، في إحدى زياراتي لها، وذلك بمقرّ المجلس الأعلى للثقافة... وأمّا جمال الغيطاني فتجمعني به صداقة خاصّة، وقد قضينا عدّة سهرات مع بعضنا بعضٍ، كما قمنا ببعض الأسفار الداخليّة، في اليمن، يمَنِ المقالح، وخصوصاً إلى جزيرة سوقطرة اليمنيّة في وفد عظيم يرأسه الشاعر الألمانيّ العالميّ الصِّيت: جونتر جراس (جائزة نوبل للآداب سنة 1999). وحين أُبْنا إلى صنعاء، بعد رحلة شاقّة بتنا فيها ليلةً أو ليلتين بحضرموت، دعانا السفير الألمانيّ بصنعاء، فأقام عشاءً صاخباً فكنت أنا وجمال الغيطاني بين مغرِيات الشيطان، وعِفّة الملائكة!... وقد كتب يوماً مقالة نشرها في جريدة “الأهرام” عن كتابي: “ألف ليلة وليلة” الذي كان نُشر أوّلَ مرّة في بغداد، بعنوان: “أحسن ما قرأت”، فأخجلني بها؛ إذْ كان يعني ذلك، أنّه أحسن كتاب قرأه طوال السنة، فغمرني بفضل عظيم بهذا الحُكم الكريم لا أنساه له أبداً. غير أنّ تلك المقالة كان اقتطعها الصديق الدكتور عبد القادر فيدوح حين كان طالباً بالقاهرة، فجاء بها إليّ، فكنت محتفظاً بها مطويّةً فوق أحد رفوف كتب مكتبتي، فجاءت إحدى بناتي “تنظّف” المكتبة فاستنشَزتْ وجودَها فوق الكتب، فألقتْ بها!... ولم أتمكّن من الحصول على نسخة منها من بعد ذلك، من جريدة “الأهرام”، وعلى أنّي لم أطلبْ إليها ذلك. وقد وعدني الصديق إبراهيم فاروق، الصحفيّ في جريدة الأهرام، بأبوظبي في شهر مايو من هذه السنة، على هامش مسابقة الموسم الخامس لـ”أمير الشعراء” بأنّه يبحث عنها في الأهرام، ويوافيني بها. كما التقَيت وجمال الغيطاني في معرض الكتاب الدولي الذي تُقيمه سنويّاً، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، منذ خمسِ سنوات، فيما أظنّ... وقد كان كلّف يوماً مبعوث جريدته “أخبار الأدب”، ليُجريَ معي حديثاً طويلاً عن قضايا الأدب، ولم أطلع على الحديث منشوراً، في غياب وسيلة الإعلام الإلكتروني يومئذ، إذ كان ذلك، غالباً، في سنة 1999 بمدينة تطوان المغربيّة... وطلب إليّ، حين حدّثته ونحن باليمن، عن أنّي كتبت دراسة طويلةً عن الشاعر أمل دنقل، أن أوافيَه بها لينشرها، غير أنّ تلك الدراسة التي تكوّن حجم كتاب صغير (70 صفحة بالحاسوب)، ولم يبقَ لي منها إلاّ ملخّصٌ صغير في حاسوبي الذي أكل نصّها، فلا أشبعه اللّه! والغريب أنّي كنت طبعت من النص نسختين، إحداهما أرسلتها إلى المجلس الأعلى للثقافة بالبريد البدائيّ، المسجّل، فقيل لي من بعدُ: إنّها لم تصل المجلس! وتركتُ نسخة احتياطيّة هي التي كنت انتواءَ اصطحابِها معي إلى القاهرة، ولكنّي لم أستطع السفر... فلمّا بحثت عنها في مظانّها من مكتبتي لم أعثر على مَلازمها، وكأنّ الشياطين تخطّفتْها، وإلى الآن لم أصدّق كيف ضاعت منّي، ويبدو أنّي مكّنت منها أحدَ الأصدقاء ممّن يزورون مكتبتي، ظنّاً منّي أنّها لا تزال مخزّنة بالحاسوب الغدّار، فكان من الأمر ما كان!؟... وبالمناسبة طلب منّي الصديق إبراهيم فاروق ونحن بأبوظبي أن أرسل إليه خلاصته التي بقيت وحدها منها، ففعلت، وأجابني بشكر جميل... «أمل دنقل: شاعر الحبّ واليأس سعَيْنا، في هذه الورقة، إلى قراءة شعريّةِ أمل دنقل، قراءة تحليليّة، وذلك في ضوء المقاربة السِّيمَائيّة فعمَدْنا إلى تحليل نماذجَ من شعره الذي رأيناه مضطرِباً في مضطرَباتٍ متباعدة تكوّن، لدى نهاية الأمر، أسس الجماليّة الشّعريّة، والحسّ المأساويّ في شعره، وأشكالاً من الحداثة المتوازنة لديه. وقد تبيّن لنا أنّ أهمّ هذه المضطرَبات التي كان يضطرب فيها شعر أمل دنقل مع تفاوت في الاِمتداد، ولكن مع تقارب في المعالَجة، هي: أوّلاً: الحبّ واليأس والموت في الشِّقِّ العاطفيّ؛ ثانياً: الثورة والتّمرّد والمرارة في الشِّقِّ القوميّ؛ ثالثاً: توظيف السّرد في بناء القصيدة؛ رابعاً: بناء اللّغة الشّعريّة عند أمل دنقل؛ خامساً: توظيف الإيقاع لتنغيم شعره به؛ سادساً: التّنازع الفنّيّ بين التّراث والحداثة خلال شعره. وقبل أن نتدرّج إلى الحديث عن المحاور السّتّة ونتوقّف لدى كلّ واحدٍ منها بالاستشهاد بشعره ثمّ تحليله، عقدنا مقدّمة مفصّلة تناولنا فيها مسألة الحداثة الشّعريّة انطلاقاً من أحكام بعض كبار النّقّاد المصريّين أمثال إدوار الخراط، وسيّد البحراوي. فقد قال إدوار الخرّاط، مثلاً: “وما زال في يقيني أنّ شعر التّفعيلة ـ سواء أكان عموديّاً أم غير عموديّ ـ هو الذي وصل إليه غسَق الحساسية التّقليديّة كلّها، التي سوف أعدّها، على نحو عامّ، من الشّعر الجاهليّ، حتّى شعر صلاح عبد الصّبور، وحتّى شعر أمل دنقل(!). وما يسمّى بـ”الشّعر الحديث” في مصر قبلهم، ليس إلاّ من ملحقات مدرسة “أبولو” الباهتة (والباهتة: كلمة لا تدلّ على المعنى الذي كان يقصد إليه الشيخ، وهو الشاحبة، أو السَّاهِمة، لأنّ الباهتة ممّا تعنيه الحيرة الشديدة، كما ورد في القرآن: “فبُهِتَ الذي كَفَرَ” الأثر، مع تغييرات في الظّلال، وفي الاِتّجاهات الاِجتماعيّة”. وانتهينا إلى أنّ هذا الحكم لا يخلو من مبالغة وقسوة واستعراض وتهويل. وهو غيرُ مقبولٍ أكاديميّاً لأنّه يحتاج إلى تأسيس متين، وهذا التأسيس غائب منه، منعدم فيه. ولذلك ناقشْنا حكْم الأستاذ الخرّاط القاسي من منطلَق أنّ مفهوم الحداثة الشّعريّة يظلّ مفهوماً نسبيّاً جدّاً في أيّ تنظير نقديّ رصينٍ. كما أومأنا في المقدّمة إلى نكَد الحظّ لدى أمل دنقل الذي لم يلقَ العناية الكافية من الدّارسين العرب على المستويين الأكاديميّ والإعلاميّ معاً، كما لقي ذلك، مثلاً، صلاح عبد الصبور، جميعاً. وأمّا الناقد المصريّ الذي أثّر فيّ تأثيراً كبيراً، فهو أستاذي الدكتور نجيب محمد البهبيتي الذي درّسني في جامعة الرباط، وكان ربما أحْرجني أمام الطلاّب من زملائي بأن يقول علانيَةً: “ما كلُّ منكم عبد الملك”! وقد طلبت إليه، وأنا في السنة الرابعة، من المرحلة الجامعيّة الأولى، أن يكتب لي مقدّمةً لأُولَى رواياتي، وهي: “دماء ودموع”، التي كتبتها وأنا في السنة الرابعة والأخيرة من المرحلة الجامعيّة بالحيّ الجامعيّ بأكدال بالرباط، فقدّمت إليه النص من أجل ذلك، مخطوطاً بيدي، بلون الحبر الأزرق الجاري، فأجابني إجابةً لم أفهَمْها إلى اليوم، وهو يبتسم في عجَبٍ: ـ عبد الملك! تريدني أن أقرأ هذا العمل مخطوطاً؟! وما دارُ النشر التي كان يمكن أن تنشر لي أوّل نصّ روائيّ عن الثورة الجزائرية، وأنا لا أزال طالباً في السنة الرابعة الجامعيّة، مع قلّة دُور النشر في ذلك العهد، وغلاء التكاليف؟!... وكان آخر العهد به، ولم أتمكّن من لقائه من بعد ذلك حين اختار جامعة مراكش ليدرّس فيها، ليموت في مدينتها. ومن أصدقائي من مثقّفي مصر الدكتور، المرحوم، عبد العزيز شرف الذي كان يوافينا في مدينة وهران سنويّاً، حين كان معهد الحضارة الإسلاميّة بوهران يعقد مؤتمرات فكريّة سنويّة. ومنهم الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي الذي التقيت به في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من مكان، في المشرق والمغرب، وقد أهداني من كتبه الكثيرة. وممّا أذكر من مصاحبتي إيّاه وقد كان يزدارنا سنويّاً، تقريباً، في وهران لشهود مؤتمرات معهد الحضارة الإسلاميّة بإدارة صديقنا الدكتور عبد الكريم بكري، أنّا حضرْنا يوماً جلسة علميّة صباحيّة انعقدت بمدرّج محمد البشير الإبراهيمي بجامعة وهران، وحين انتهت الجلسة العلميّة الصباحيّة كان علينا أن نذهب إلى ضواحي وهران، إلى إقامة “كناستيل”، حيث إقامة الضيوف ومطعمُهم، فحملته في سيّارتي صحبة الأستاذ المرحوم أحمد ابن ذياب الذي ركب بجانبي، وكان الدكتور خفاجي راكباً في المقاعد الخلفيّة للسيارة، فرأى الأستاذ ابن ذياب أن يُتْحفنا بإسماعنا قصيدة لاميّة طويلة من شعره، فكان في بداية الإنشاد ونحن لا نزال بحرَم الجامعة، يعلّق الدكتور خفاجي على شعره بأن يقول للأستاذ أحمد ابن ذياب: أعِد هذا البيت! فلكأنّ فيه كسراً عروضيّاً! فكانا يتناقشان... ومضى أحمد ابن ذياب يُنشد قصيدته متدفّقاً في إنشادها، وكنت أنا منهمكاً في سياقة سيارتي، وظلّ ابن ذياب يُنشد إلى أن بلغْنا كناستيل!... وكانت المفاجأة أنّ الدكتور خفاجي إنما كان سكت عن التعليق، لأنّه كان يغطّ في نوم عميق!... فأيقظناه لينزل من السيارة لنذهب جميعاً إلى المطعم... وعلى أنّ إنشاد المطوّلة، فيما يبدو، لم يكن قد انتهى!... ومن أصدقائي، من الأدباء المصريّين الدكتور إبراهيم عبد الرحمن الذي تعارفْنا، في مدينة صنعاء. وقد ناقشت معه ثلاثَ أطروحات جامعيّة على الأقلّ بجامعتها. وكان ربما أرسل إليّ بعض طلاّب الدراسات العليا اليمانِينَ ممّن كان يُشرف عليهم للنظر في خُطط أطروحاتهم، قائلاً ببعض اللهجة المصريّة، وفي شيء من احتشام العلماء وتواضعهم: “ربما يكون لك رأيٌ في المَنهَـج، وابْتاع”! وكان الدكتور إبراهيم عبد الرحمن أهداني كتابه: “بين القديم والجديد”، فكنت لاحظت عليه، بمودّة: لماذا تكتب، يا علاّمة، كتابيْن اثنين في واحد؟ وهلا فصَلت بين القديم والجديد، فكان لكلّ مجالٍ كتابُه الخالص له؟ فاعترف الصديق الكريم بما وقع فيه من بعض الخلْط المنهجيّ، وظهرت عليه الحسرة لذلك!... وقد كان الدكتور إبراهيم عبد الرحمن أهداني كتابه هذا الضخم الذي يقع في ستمائة وخمسٍ وعشرين صفحةً من القطع الكبير، والمطبوع في مصر، طبعةً رديئة بكلّ أسف. كما أهداني كتابه الجميل: “شعر عُبيد الله بن قيسٍ الرُّقَيَّات: تحقيق ودراسة”. وكان أرسل إليّ رسالة من القاهرة، مع أحدِ طلاّب جامعة وهران، ممّن كانوا مسجَّلين في الدراسات العليا تحت إشرافه، تتمحّض لقضيّة كانت أثيرت عن الدكتور رمضان عبد التواب، وقد استغربْت أمر رسالته عن رمضان بعض الاستغراب، إلاّ أن يكون ذلك كان في باب تنافُس العلماء المعاصرين! والمعاصَرة حجاب، كما كان يقول رواة الحديث. ذلك بأنه أرسل إليّ مع الكتابيْن الاثنين رسالةً خطّيّة مكتوبة بحبر أسود، عثرت عليها محفوظة في الكتاب نفسه الذي كان أهدانِيهِ، وبعض الوثائق المتمحّضة لـ”محاكمة” الدكتور رمضان عبد التّوّاب، على أساس نقْله من كاتب ألمانيّ فيما أذكر، وفيما كان يقال... وقد عشنا عشرين يوماً، ذات مرّة في صنعاء، أنا وهو والدكتور عزّ الدين إسماعيل، فلم نكن نفترق إلاّ للنوم، كما أنّنا لم نفترق، يوم التوادع، إلاّ بتَذراف الدموع! وبالمناسبة فقد كان الدكتور رمضان عبد التواب صديقاً لي، وكان يتردّد علينا بمدينة وهران، حين كان معهد الحضارة الإسلاميّة بوهران يعقد ندوات سنويّة عن شؤون من العلم والمعرفة. وقد الْتمستُ منه، يوماً، أن يصوّر لي “مقامات النساء”، أو “مقامات الجواري”، لجلال الدين السيوطيّ، من الدّار المصريّة للمخطوطات، ولم أكن اطلعت على نصّها الكامل، وهي مقامات جنسيّة، بحكم أنّ أطروحة دكتورايَ الأولى كانت في موضوع المقامات... فوافاني بها بواسطة البريد. ولمّا عقدْنا مؤتمر “مكانة اللغة العربيّة بين اللغات العالميّة” بالمجلس الأعلى للغة العربيّة برئاسة الجمهورية، دعوناه إليه، وقد أسهم في ذلك المؤتمر ببحث نُشر ضمن أعمال المؤتمر بالجزائر سنة 2001، بعنوان: “الدرس اللغويّ في العربيّة بين التراث والمعاصرة”. وكان آخر العهد به. وممّن عرفتهم من أدباء مصر ونقّادها في العهود الأخيرة الدكتور أحمد درويش الذي نال جائزة البابطين للنقد العربي، فدُعِيت (أحسب ذلك كان في سنة 2009) لشهود مؤتمر النقد الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة. وأظنّ أنّي قدّمت بحثاً في أحَد محاور المؤتمر، ولكنّي وقد كنت ملتزماً بحَكَم في مسابقة أمير الشعراء بمدينة أبوظبي، اعتذرت للإخوة عن عدم استطاعتي حضور ذلك المؤتمر النقديّ. ولكنّ الدطتور أحمد درويش، الذي كان يبدو أنّه هو الذي كان مسؤولاً عن تنظيمه، أصرّ على أن أتنقّل من أبوظبي إلى القاهرة، ولو لليلة واحدة، لأنّ وزير الثقافة يومئذ عيّنني لتقديم كلمة الوفود في جلسة الافتتاح... ومع ذلك اعتذرت له تارة أخرى، وبإصرار، ولكنّي، مع ذلك سألت الدكتور أحمد: عمّا عسى أن أقول في تلك الكلمة، فأجابني: ما كنتَ كتبته في مقدّمة كتابك “نظريّة النقد” (وهو الكتاب الذي نشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، واشتريت نسخة منه في معرض أبوظبي للكتاب، كأيّ غريب!). وقد خجلت وحزنت أنّي لم أستطع التنقّل إلى القاهرة فأجيب دعوة الداعي الذي دعَانِ. وبالمناسبة فقد أخبرني الدكتور أحمد على هامش مأدبة غداء أقامها لنا عبد العزيز البابطين، في إحدى زياراتي للكويت، أنّه هو الذي قرأ كتابي “نظريّة القراءة”، فاعترض على بعض الاستعمالات اللغويّة ورآها معتاصة الفهم على القرّاء، فاقترح عليّ في تقرير علميّ، حين قدّمت ذلك الكتاب ليُنشر في سلسلة “عالم المعرفة”، أن أعيد النظر فيه، قبل أن تنشر لي “عالم المعرفة” “نظريّة الرواية”، عوضاً عنه. ونظريّة القراءة، نشرته بعدُ في الجزائر، ونفِدَ ما نُشر منه، وهو يعاد الآن طبعُه. غير أنّ الطريف في الأمر، أنّ صديقاً مصريّاً آخر، من الأدباء، زعم لي وأنا بأبوظبي على هامش الموسم الخامس لأمير الشعراء، أنّه هو الذي قرأ مخطوطتي “نظريّة القراءة” واقترح عليّ من التغيير ما اقترح. ولم أخبرْه، خجلاً، أنّ الدكتور أحمد درويش كان أخبرني بذلك منذ زهاء عشر سنوات ونحن بالكويت. فأيّهما كان الأصدق؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©