الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجغرافيا والتاريخ.. والعاطفة

الجغرافيا والتاريخ.. والعاطفة
16 أكتوبر 2013 22:32
في طبعة جميلة وأنيقة، أصدر المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، الترجمة العربية للمسرحية الفرنسية الشهيرة “شيخ الجماعة” le maitre de santiago لمؤلفها هنري دي مونترلان، والتي رأت النور أول مرة في عام 1947. وسبق للقارئ العربي والمغربي على الخصوص أن تعرف على هذا النص بعد أن نشر في حلقات في مجلة “الأقلام” المغربية، قبل نصف قرن من الزمن. وقد جاء اختيار عبدالله العروي لعمل مونترلان “شيخ الجماعة” وتعريبه ليس إلا تعبيرا عن وعي عاطفي تجاه الأندلس وتاريخها، كما يقول، بخاصة أن هناك ارتباطا وجدانيا مستمرا بين العربي وإسبانيا، يدفع دائما إلى استظهار مكونات نفسية إنسانية تلك الأرض وسلوكاته، وأثر الدين والمجتمع والسياسة في واقعه المعيش. حقائق وتجري أحداث مسرحية هنري دي مونترلان في إسبانيا بعد سقوط مملكة غرناطة واكتشاف القارة الأمريكية. ومن هنا نبّه العروي إلى ضرورة معرفة بعض الحقائق التاريخية: “منها، إذا كانت المسيحية تنتصر في غرب الكرة الأرضية، فإن الإسلام كان يغزو أقاليم جديدة في شرقيها وجنوبها. ولم يكن في مقدور أحد أن يتنبأ بمن سيكسب المعركة الأخيرة، إن كان لهذه الكلمة معنى في التاريخ”. ليؤكد العروي رؤيته مُوضحا أن مجال المسرحية ليس الكرة الأرضية، بل شبه الجزيرة الأيبيرية. وهنا كانت الغلبة للمسيحية بلا جدال. يتساءل العروي كيف تم لها النصر؟ بتضافر ثلاث قوى يجيب: البابوية، الملكية المطلقة، رهبانيات الفرسان. الأولى تخطط، الثانية تطبق، الثالثة تنجز. لم يكن للفرسان من صناعة سوى المبارزة والقتال. لا هم لهم سوى مواجهة أعداء دينهم وملوكهم. البابا، مولاهم الروحي، يباركهم، الملك، مولاهم المدني، يرعاهم ويميزهم عن غيرهم. يقاتلون تحت راية قديس يختارونه ويعتقدون أنه يرافقهم في كل معركة. القديس، بالنسبة إلى إسبانيا، هو ياجو (جاك/ جيمس الأكبر) أحد الحواريين المقربين من المسيح، والذي يقال إن جثمانه، بعد استشهاده، نقل إلى اسبانيا، ليدفن في بلده كوميوستله من إقليم جليقية، حيث اكتشف قبره “بالمصادفة” أثناء القرن التاسع. او هكذا يقول الإسبان. الفرق الواضح بين هؤلاء الفرسان ومن يقابلهم على الساحة، أعني المجاهدين المسلمين، هو وحدة النظام. ولاؤهم واحد، للقديس، للبابا، للملك، في نطاق جماعة تخضع لضوابط صارمة لا تتغير إلا لتزيد إتقانا وتماسكا. لا يستبعد الدكتور العروي أن يكون النظام الصارم نفسه قد وجد عند المجاهدين المسلمين، إما في فترة معينة، أيام المرابطين مثلا، وإما حتى أثناء فترات الجهاد، لكن، يضيف، العروي، المؤرخون، مسلمين وغير مسلمين، إلى حد الساعة، لم يثبتوا لنا ذلك بوثائق قطعية. يحق لنا إذا أن نقول، لا سيما بعد مقارنة وضع الغرب الإسلامي مع ما نعرف عن أحوال الشرق تحت حكم المماليك ثم الأتراك العثمانيين، إن نظام الفروسية في إسبانيا المسيحية هو الذي رجح كفتها وجعل زحفها يتقدم باستمرار وإن تعثر من حين إلى آخر. مع انهيار سلطة الخلافة الأموية، أصبحت حروب النصارى هجومية ومكاسبهم قارة، في حين أن انتصارات المسلمين كانت دفاعية ومؤقتة. يقول العروي “أعرف من تاريخ الأندلس ما يعرفه أي مثقف مغربي حفظ مرثية الرندي وقرأ نتفا من نفح الطيب وذخيرة ابن بسام. تتحكم في وعيي العاطفة أكثر مما يرشده التفكير الرصين المتأني. وهذه العاطفة المبهمة هي، بدون شك، ما جذبني إلى مسرحية مونترلان إلى حد الإقدام على تعريبها”. سقوط وحول سقوط غرناطة يقول العروي: “سقطت غرناطة فاستعادت بذلك لإسبانيا وحدتها الجغرافية والعقائدية. نجحت إذن خطة البابا الصليبية في منطقة الغرب كما تحققت أطماع ملك قشتالة. لكن ما مصير أولئك الفرسان الذين لم يتقنوا سوى صناعة الحرب والذين قد يتحولون بسهولة إلى عنصر شغب يقوض أركان الوحدة المستعادة ويضعف سلطة الملك؟ من حسن حظ الجميع أن توافق سقوط غرناطة مع اكتشاف أميركا. اندلعت في القارة المكتشفة حرب مقدسة جديدة، هدفها ليس استرجاع جزء من الوطن بل توسيع ذلك الوطن إلى أرض جديدة مع دعوى السكان إلى اعتناق دين المسيح. الذهاب إلى أميركا كان يعني آن التخلص من كابوس البطالة والفقر ومواصلة خدمة أهداف الملك والباب. لكن ضمن الفرسان الذي استولوا على غرناطة، لاسيما القادة، كان يوجد أشخاص اعتقدوا صادقين أن الحرب التي خاضوها ضد المسلمين كانت مقدسة لأن أهدافها كانت تتسم بالقداسة ولا تقتصر على مواجهة الغزو بغزو مضاد، وغضب الوطن بالسطو على وطن الغير”. هذه هي عقيدة دون ألفارو دابو، الملقب بشيخ الجماعة، لأنه يترأس من تبقى من فرسان القديس ياجو. أغلبية زملائه يحبذون الذهاب إلى أميركا، بل يستعدون لذلك بكل جدية دوافعهم شتى، بعضها شريف وبعضها سخيف. أقرب هؤلاء الزملاء إلى نفسه، دون برنال، لا يستطيع أن يذهب لكبر سنه وسوء حاله، لكنه يشفق على مستقبل ابنه الذي يشغل منصبا مهما في ديوان أمريكا ويطمح أن يصل إلى مرتبة أعلى، شريطة أن يتزوج فتاة غنية تساعده بثروتها على تحقيق آماله. يعشق منذ صباه ابنة دون ألفارو، لكن هذه، رغم فضائلها الكثيرة، لا تناسبه لأنها فقيرة. إلا إذا تطوع أبوها وقبل أن يذهب إلى أميركا، فيجمع من الأموال ما يريد في ظرف وجيز وبدون أدنى مساس بشرفه أو خدش في نزاهته. هذا ما يعرضه بكل وضوح دون برنال على دون ألفارو. يرفض ألفارو هذا العرض بتكبر واستعلاء، وفي مواجهة عنيفة يفند كل الحجج التي يدلي بها صديقه. عندها يتجه دون برنال إلى ماريانة، ابنة ألفارو، ويقنعها بأن تشارك في فخ ينصبه لألفارو، وذلك بجعله يعتقد أن الملك، وهو الرئيس الأعلى لكل رهبانيات إسبانيا، يأمره بالذهاب إلى أمريكا حاميا لحقوق الهنود المهضومة وقدوة للمحاربين الإسبان. تقبل ماريانة، لكي تضمن زواجها بحبيبها، أن تخدع أباها، رغم إعجابها العميق بسلوكه وأخلاقه، بل هي التي توصي بأن يلح الوفد المزعوم على الدوافع السامية للمبادرة الملكية، وعلى أنها بمثابة أمر لا يمكن أن يرده من تربى على الخضوع والانقياد. يوشك ألفارو أن يسقط في الفخ المنصوب له، لولا أن ماريانة تشعر بغتة بتحول في نفسها، فتندم على ما أقدمت عليه، وتهرع إلى أبيها، لتطلعه على الحقيقة. عندها يقرر ألفارو أن يعتزل الدنيا ويلجأ إلى أحد الأديرة. ثم يستغل وضعية ابنته النفسانية ليقنعها بأن تلجأ هي الأخرى إلى دير خاص بالنساء. مُساكنة ويتساءل العروي: ماذا استهواني في عمل مونترلان؟ ويرد بقوله “لا يمكن أن يكون الأسلوب؛ فهو كلاسيكي، تقليدي، خطابي، منمق مضخم إلى حد التشدق. مليء بالمفردات والتعابير المستوحاة من كُتّاب القرن السابع عشر ذوي النزعة الدينية المُتشددة. ولا يمكن أن تكون التقنية المسرحية؛ تقليدية هي الأخرى، بعيدة كل البعد عن التجارب المعاصرة التي أتذوقها. فماذا إذن؟”، يجيب الدكتور العروي: “عندما عرضت المسرحية بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اشتدّ النقاش بين النقاد والمعلقين حول شخصية ألفارو. هل يُشخّص أعلى صور الزهد المسيحي أم يقدم صورة منحرفة تكاد تلتقي في غلوها العدميةَ البوذية. دافع المؤلف عن نفسه بإيراد شواهد كثيرة من الأقوال المنسوبة إلى المسيح ومن مؤلفات كبار الكتاب المسيحيين، مبرزا ان موقف ألفارو، إن لم يعد مفهوما اليوم لعامة معتنقي المسيحية لم يكن قط كذلك، ولا حق لأحد أن يرميه بالتشوه والانحراف. كما تساءل آخرون عن حقيقة علاقة ألفارو بابنته. هل يحبها فعلا كأب حنون يقدم في كل مناسبة مصلحتها على مصلحته، أم هل يود فقط الاستفراد بولائها خدمة لأنانيته المفرطة؟ أولا تشير بعض كلماته إلى غيرة مرضية وحرص غير عادي على طهارتها وعدم اختلاط دم آل دابو بأي دم آخر؟ جدال تبرره بعض العبارات التي يفوه بها هذا البطل أو ذاك، وقد يطول ويتشعب بدون أن يحسم أبدا، لكن هل يعنيني في شيء؟ إلا إذا قلنا، كما يوحي بذلك المؤلف نفسه، أن ألفارو لا يُمثل المسيحي المُتزمت بقدر ما يكشف عن تأثر المسيحية، في إسبانيا بالذات، بطول مساكنتها مع العقيدة الإسلامية، وأن نفسانيته في العمق عربية إسلامية تحت غطاء مسيحي شفاف”. ويضيف العروي “الحق أن اهتمامي بهذه المسرحية تم في ظروف خاصة، أعني السنوات التي تلت استقلال المغرب. ما يقوله ألفارو عن انتشار مظاهر اللؤم والخسة في إسبانيا بعد انتهاء “الحرب المقدسة” فيها، كان يجد صدى في نفسي وأنا أشاهد ما يجري في مغرب الستينيات الذي مر بسرعة من محنة الاستعمار إلى نشوة الاستقلال ثم عاد إلى حايته العادية المليئة بالمساومات والتنازلات الدنيئة. وقد يكون تجاوبي مع محتواها أعمق من ذلك، يعود إلى تساؤلات يصعب التعبير عنها وربما الوعي بها. ما يظل في مستوى الوعي هو أني تعاملت معها، بدون اعتبار لقيمتها الفنية، كمرآة أتفحص بواسطتها سمات نفسي من خلال وصف الغير لنفسه”. بين الإسبان والمسلمين.. وأميركا يقول “أوبريجون” في مقطع من المسرحية: “انهزمت يوما إسبانيا انهزاما شنيعا فاحتلها المسلمون بالكامل. فيما خضع الجمهور الأعظم لحكم الغزاة، لجأت شرذمة من فلول الجيش الوطني إلى أعلى الجبال وراحت تناوش المحتلين وتسترد أرض الوطن شبرا شبرا، أثناء حرب دامت ثمانية قرون وانتهت بتحرير الوطن تحريرا تاما. قام الشعب وحده بهذه المهمة متكلا على نفسه، لا يساعده أسياده بل كانوا يحزنونه أحيانا، وفي سنة 1492، السنة التي انهار فيها سلطان المسلمين على أرض إسبانيا، في تلك السنة بالتحديد، اكتشف كولومبوس جزيرة سان سالفدور. واليوم ها هى شرذمة أخرى من الإسبان تعتزم غزو إمبراطورية واسعة كما كانت بالأمس شرذمة نواة جيش التحرير. إن رب السماوات والأرض قضى أن تكون هذه السلسلة متصلة الحلقات، لا خلل فيها، حلقة بعد أخرى. إذا كانت هذه الدنيا معجزة باهرة فوالله لهي هذه!”. شخوص المسرحية يُشخّص أحداث المسرحية: “دون ألفارو دابو”، “فارس ينتمي إلى رهبانية القديس ياجو”، “دون برنا لدي لا أنسينا”، “دون فرناندو دي أولميضة”، “دون جريجوريو أوبريجون”، “المركيز دي فارجاس”، “دون أنريك هدي ليتاماندي”، “الكونت دي سوريا”، نبيل من خدم الملك ومبعوث خاص، “مارينة ابنة دو ألفارو”، “تيه كاميانيته”(العمة ناقوس) مربية ماريانة. وتدور أحداث المسرحية سنة 1519 في مدينة آبلة الواقعة في إقليم قشتالة العتيقة. ‎الكتاب: شيخ الجماعة ‎تأليف: هنري دي مونترلان ‎ترجمة: عبدالله العروي ‎الناشر: المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©