الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصائد مجنونة

قصائد مجنونة
16 أكتوبر 2013 22:34
ستجدت ظواهر جديدة في الشعر العربي خلال العصر العباسي في عاصمتي الخلافة العربية الإسلامية في بغداد وسُرّ مَن رأى “سامرّاء اليوم”، وذلك نتيجة الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي ورفاهية الحياة الاجتماعية وقد وصل الثراء إلى العامة، وكان يقال للمتنعمين والمُترفين للتدلل بأنّهم “يتبغددون”، ولعلّ كل تلكم العوامل فإنها قد ساعدت على بروز ظواهر شعرية وأدبية جديدة في الحياة الأدبية العباسية آنذاك... ونجد ظاهرة الموسوسين من الشعراء إحدى الظواهر الشعرية التي وجدت لها مكانة ومنزلة لدى الشعراء العباسيين، وبرزوا كشعراء ظاهرة شعرية. ويعرض كتاب “شعر الموسوسين في العصر العباسي” لمؤلفه الدكتور عبدالمجيد? ?الإسداوي والصادر مؤخراً عن سلسلة إصدارات المجلة العربية في السعودية، قراءات? ?وصفية ونقدية وتحليلية وتأملية في نصوص شعراء عرب إبان العصر العباسي نسبت? ?إليهم الكثير من العلل والاختلالات العقلية، كما يتكئ موضوع الكتاب على أخبار? ?ومرويات الموروث العربي الذي تناقلته مصادر ومراجع، تكشف عن جوانب من سير? ?هؤلاء الشعراء?.??كما نهج المؤلف في الكتاب أحكام وقواعد المنهج الوصفي? ?التحليلي لشعر الموسوسين في العصر العباسي، من حيث مضامينه الشعرية وتشكيله الجمالي، ويدرس الظاهرة الأدبية من زوايا متعددة مع الاستفادة ما أمكن? ?من بعض نتائج المنهج النفسي الذي يربط بين الشاعر من جهة وحاجاته ودوافعه? ?وسلوكه من جهة أخرى. وتضمن الكتاب على مقدمة وأربعة فصول: الفصل الأول: الوسوسة في الفكر القديم والمعاصر، الفصل الثاني: مع الشعراء الموسوسين في العصر العباسي، والفصل الثالث: مضامين شعر الموسوسين، والفصل الرابع: التشكيل الجَمالي في شعر الموسوسين. أشار الدكتور عبدالمجيد الإسداوي في المقدمة إلى أنّ موضوع كتابه هو دراسة نصيّة وصفيّة “تدلف إلى النصوص الشعرية، موضع الدرس مباشرة، تستنطقها، وتحاول ترويضها، واسترفاد معالم فتنتها، من خلال التواصل مع عطاءاتها الممتدة، عبر الزمان والمكان، دون التعرّيج، إلاّ نادراً على المرويات، والأخبار التاريخية، وما يتصل بها، مما نقلته المصادر والمراجع المعنية من تاريخها، وكشفها النقاب عن جوانب من حيوات هؤلاء الشعراء وإشاراتها إلى أشعارهم، وبعض قضاياهم وخصائصها الفنيّة”. وجاء الفصل الأول للكتاب بعنوان “الوسوسة في الفكر القديم والمعاصر”، حيث تناول فيه المؤلف لمعنى الوسوسة في اللغة المُشتق من: “الوسوسة” بوزن فَعللة، والوِسواس، والوَسواس بوزني: الفَعلال والفِعلال: مصدر رُباعي من الفعل اللازم، وسوس: يُوسوس. وتُجمع على الوساوس، بوزن فَعال”. وذكر أنّ كلمة “الوسواس” جاءت بمعنى صوت الحُلي، والهمس، والإلقاء الخفي، كما ورد الاسم في القرآن الكريم مرتين، إحداهما ترتبط بالشيطان الرجيم ذي الوساوس، وقد أضمر سوءاً لآدم وحواء، والأخرى ترتبط به “لعنة الله” أيضاً، ولكن مع تخصيص وسوسته لآدم فقط. ثم تناول الإسداوي في هذا الفصل للحديث عن الوسوسة لدى عدد من المصنفين العرب، ذاكراً لنماذج من أشعار الموسوسين، عند أبو الطيب الوشّاء، وابن عبد ربه الأندلسي، وأبو القاسم بن حبيب النيسابوري، صلاح الدين الصفدي، ابن تغري بردي، كما عرض للوسوسة في الفكر المعاصر، إذ يرى بأنّ علماء الطب النفسي قد أطلقوا على الوسوسة اسم “العصاب الوسواسي القهري”، أو “عصاب الحصار” مستعرضاً لعدد من تلك الآراء حول هذا المرض وأسبابه. “لشعراء المُوسوسين في العصر العباسيّ” هو عنوان الفصل الثاني للكتاب، الذي عرض فيه مؤلفه لثمانية عشر شاعراً عباسيّاً حسب الترتيب الهجائي، وهم: أحمد بن عبدالسلام، برذعة المُوسوس، بكّار المجنون، أبو بكر المُوسوس، بهلول بن عمرو، جسّاس الأعرابيّ، جعيفران المُوسوس، أبو حيّان المُوسوس، أبو حيّة النميري، خالد بن يزيد، أبو دانق المُوسوس، سعدون المجنون، سمنون بن حمزة الخوّاص، صباح المُوسوس، عبدالله بن أبي الشيص الخزاعي، أبو فراس قديس البصري، محمّد بن القاسم، ومصعب بن الحسين الكاتب. وقال المؤلف عن الشاعر أحمد بن عبدالسلام، بأنّه: “ووسوس في آخر عُمره، فرآه الصبيان يصيحون به: يا كاتب الشريطي؛ فيخرق ثيابه، ويحلف ألاّ يخرج من داره”. بينما ذكر جوانب من سيرة الشاعر سعدون المجنون، ولحكايتين عنه، حيث يراه يصرح لهجرانه بني جنسه، مُؤثراً عليهم مَن تفرّد بالكمال والجَلال، فاستحق المحبة والإجلال، قائلاً: هجرتُ الورى في حُبِّ مَن جادَ بالنِعَم وعِفْت الكَرَى شوقاً إليهِ فلَم أنَمْ وموهتُ ذهني بالجنونِ على الوَرَى هواه فَمَا أنكَتَمْ فإنْ قيلَ: مجنونٌ فقد جنني الهَوَى وحرمة روح الأنس في حَنْدَسِ الظُلَمْ وأشار إلى الشاعر صباح المُوسوس الذي عثر على إشارتين عنه لدى الجاحظ، وروى بأنّه وقف على قوم، فسألهم شيئاً، فردوه؛ فولي، وهو ينشد: أسأت إذا أحسنت ظني بهم والحزم سوء الظنِّ بالناسِ يرى عبدالمجيد الإسداوي في الفصل الثالث “مضامين شعر المُوسوسين” بأنّ العمل الأدبي كلٌّ لا يتجزأ، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالنصوص التي وصلتنا مستقلة بعضها عن بعض، لذا ينظر إلى هذه المضامين بصورة أجزاء يكمل بعضها الآخر، يأثر به، ويؤثر فيه. لقد وضع المؤلف نصب عينه ما تيسر له من اشعار المسوسوين العباسيين، التي تزيد عن “460” نصاً شعرياً، يتقدمها الغزل، بنوعية المعنوي/ المثالي/ العذري/ العفيف، والحسيّ/ المادي، بمجيئه في نحو “230” نصاً، منها “148” نصاً مما جرى على لسان خالد الكاتب، و”18” نصاً مما أنشده ماني المُوسوس، و”17” نصاً مما انشده أبو حيّة النميري، و”5” نصوص مما أنشده كلّ من جعيفران المُوسوس، وعبدالله بن أبي الشيص الخزاعي، إضافة إلى نصّ شعري واحد مما تيسر من شعر بكّار المجنون. كما تناول تلك المضامين من خلال “البوح الذاتي” أي أحاديث الشعراء عن انفسهم، وكشفهم النقاب عمّا يعتلج بأعماقهم من أحساسيس ومشاعر، وأفكار وهواجس متباينة، بلغة مشحونة بالتوتر الهادر، والقلق الفوّار، أو الأمن والسَكِينَة، ومن هذه الأصوات ما تعالى به الشاعر محمّد بن القاسم/ ماني الذي قال: سَلِي عائداتي كيف أبْصَرنَ كربتي فإن قلتُ “قد حابينني” فأسألي الناس فإن لم يقولوا: ماتَ أو هو ميتٌ فزيدي ـ إذن ـ قلبي جنوناً ووسواسا ومن النصوص الطافحة بالمرارة، وإن أخذ وجهة أخرى، ما نطالعه من قول الشاعر سعدون المجنون، الذي راح يبث فيه تباريح شكواه المُرّة مما دأب عليه بعض معاصريه من ملاحقته بتهمة الجنون، معللاً ذلك، بمداومة الخلوة مع الله سبحانه وتعالى والفوز بوصاله المحمود ذكراً وتسبيحاً قائلاً: زعم الناسُ أنّي مجنون كيف أسلُو ولي فؤاد مَصون عَلِقَ القلبُ بالبُكا في الدياجي هو باللهِ مُغرم محزون ومن المضامين الأخرى “شعرهم الاجتماعي”، حيث واكب الشعراء المُوسوسون اتجاهات معاصريهم، وبعض سابقيهم في إسباغ مظاهر الثناء على ممدوحيهم، رائين فيهم مظهراً، أو آخر من دلائل” المُثل” الاجتماعي، أو السياسي، أو الديني الأعلى المنشود، ومن ذلك ما نلحظه في لامية الشاعر جعيفران المُوسوس التي مدح بها أبا دُلَف العجلي: يا معدي الجُود على الأموالِ ويا كريمَ النفسِ في الفِعَالِ قد صنتني عن ذلةِ السُؤالِ بجُودِكَ المُوفي على الآمالِ كذلك من مضامين أشعار هؤلاء الشعراء “الطبيعة في شعر المُوسوسين”، حيث احتلت الطبيعة نسبة ضئيلة من أشعارهم، ولكن رغم القلة فإنّهم استعانوا بالطبيعة، وعناصرها الفنية، وبين بوحهم الذاتي، وهذا ما نلحظه في “بائية” سعدون المجنون، التي أشار فيها، بحدس فنيّ بليغ إلى كل مَن “ريح الموت”، وغصن البان الرطيب المُتكسِّر، وشمس العُمْر، التي آذنت بالمغيب طاويةً، بارتحالها، صفحة حياته، كغيره من المخلوقات، وهو يتحسس ببصيرته النافذة، معالم دنو أجلهِ، ويتجرّع كأساً، يودع بها مرارة العيش، وضراوة الانكسار، أمام قوى الشرّ المُحيطة به، مِن كلّ اتجاه، بقوله: نفضَ الموتُ ريحه كلّ طِيبْ ودهاني بفقدِ كلّ حبيبْ الفصل الرابع ـ الأخير ـ لكتاب “شعر الموسوسين في العصر العباسي”? ?هو “التشكيل الجَمالي في شعر المُوسوسين” الذي ألقى المؤلف الضوء فيه على أولأً “وحدة النص الشعري في أشعار الموسوسين”، من خلال الآتي: “وحدات النصوص الشعرية” التي توزعت على فصائل فنية عدّة متكاملة هي الأبيات المتناثرة اليتيمة، من جهة، والنتف الشعرية، التي يتكون منها كل منها بيتين اثنين، من جهة ثانية، والمقطوعات الشعرية والقصائد القصيرة والمتوسطة والطويلة. وثانياً: “الإيقاعية”، التي يقصد بها ائتلاف عناصر الموسيقى الداخلية والخارجية المُتعارف عليه من وزن وقافية، ومُماثلة صوتية وحسن تقسيم، وردّ الأعجاز على الصدور، من خلال: “الأوزان، والقافية”. وثالثاً “لغة الشعر وصوره”، حيث ارتبط بناء لغة الشعر وصوره الفنية في أشعار المُوسوسين، بما خصصوا له الجانب الأكبر من مضامين شعرهم، وهو التعبير عن مدى قلقهم، وتبرهم ومعاناتهم، مما أُصيبوا به، أو نُسبوا إليه من وسوسة، وجنون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©