الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن العلاج بالفنون..

عن العلاج بالفنون..
16 أكتوبر 2013 22:34
ربما تنطوي المغامرة في الحقول الثقافية، على بعض القلق والتوجس أو الخوف من الفشل، وهو أمر محتمل قبل التجريب، إلا أنها في حالات النجاح، وتحقيق المراد منها معرفياً، كانت دائماً بمثابة تعبير فائق الدهشة على إشراقات العقل الإنساني، ولا تعادل مسراتها قيمةً، سوى فرحة النجاح عينه. لعل هذا التوصيف هو الأقرب، لحال القائمين بالمبادرة الرائدة “العلاج بالفن التشكيلي”، التي تهدف بالأساس لإسعاد الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة، والارتقاء بحالهم الصحية والنفسية والمعنوية إلى حال أفضل، من خلال العلاج بالريشة والألوان، التي قام بها كوكبة من الفنانين العالميين، المشاركين في “ملتقى دبي التشكيلي الدولي”، الذي أقامه “مركز راشد لعلاج ورعاية الطفولة”، تحت شعار “روح الفن.. نبض الإنسان”، وشارك به أربعة وعشرون فناناً تشكيلياً، من بلدان عربية وأجنبية عدة، على مدى ثمانية أيام. لا ريب أن فكرة “العلاج بالفنون” ليست بجديدة على الوعي الإنساني، وإنما تعود إرهاصاتها الأولى إلى القرن الثامن عشر، عندما شرع الطبيبان الأميركيان فيليب بينيل ويوهن كريستيان رايلي، باستبدال السلاسل المعدنية المختلفة، التي كانت تستخدم لتقييد المرضى النفسيين، في مؤسستيهما الطبية، بالأنشطة الترفيهية، التي تتوقف على ما يهواه الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة، أو ما يشدهم، أو يلفت انتباههم بالدرجة الأولى. وأخذت هذه الوسيلة الجديدة في علاج الأمراض العصبية تلاقي قبولا بالتدريج، إلى أن صارت تُعرف باسم “العلاج الوظيفي”، وتقوم بالأساس على تنمية القدرات الحركية والإدراكية لاعتماد الأطفال على أنفسهم، تمهيداً لإعادة دمجهم بالمجتمع. وفي عام 1917 تم تأسيس أول جمعية تحمل هذا الاسم، لتعزيز هذا الأسلوب في معالجة القصور بالوظائف الجسدية للصغار والكبار. ولكن هذا الجهد اقتصر على الناشطين بمؤسسات المجتمع المدني، أو القطاع الخاص، حتى عام 1975، حيث صدرت تشريعات وقوانين ملزمة للمدارس الحكومية بتعيين أساتذة متخصصين لتعليم الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، فبرزت الحاجة إلى الخطوط والألوان والأوراق البيضاء، بعد أن أثبتت الدراسات المتعددة، التي جرت في هذا المجال، أن الفنون الجميلة بشكل عام لها دوافع فطرية أصيلة بشخصية الإنسان، وأن أكثر أنواعها وقعاً وجذباً للذات الإنسانية، هو الفن التشكيلي، لما للألوان من دلالات وتأثيرات على ما يمكن أن نسميه مزاج البشر عموماً، وبخاصة الأطفال منهم، باعتبار أن الألوان هي أول شيء يكتشفه المولود في مسيرة حياته. لذلك كانت الفنون التشكيلية على الدوام تستهوي الناس الأصحاء أو المرضى أو الذين يعانون من القصور في وظائف الجسد، لأن الألوان بمعنى من المعاني، تلامس الجانب الطفولي لديهم. وبهذا الإطار يقول بيكاسو: “عندما كنت صغيرا، كانت عيوني على الكبار، وعندما كَبُرت، وأصبحت فناناً مشهوراً صارت عيوني على الصغار”. ما يعني أن الأوراق والأقلام والألوان، أو الرسم ـ حتى ولو كان مجرد خربشات ـ تجذب الأطفال، إذ من خلالها يعبرون عما بدواخلهم بعفوية وتلقائية، وهي الزاوية الابداعية، التي كانت عيون بيكاسو عليها عند الأطفال. إذ بحركة الخطوط والألوان التي يخطها الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة، يمكن قياس مدى توتر أو التوازن الداخلي للأطفال، كما يقول الفنان التشكيلي بهرام حاجو (ألماني من أصل سوري مشارك في ملتقى دبي التشكيلي الدولي). ولما كانت العفوية أو التلقائية من أهم سمات الإبداع في مجال الآداب الإنسانية، كان الفنانون على الدوام يبحثون عنها في الطفولة الكامنة بذواتهم، حسب تعبير الفنانة التشكيلية التركية دنيز بياف. وهذا ما أكد أهمية الفنون بعلاج الأمراض العصبية والعضوية معاً، وجعلها في الوقت عينه، وسيلة علاجية رائجة على المستوى الوطني في معظم المجتمعات الحديثة، باعتبارها جزءاً أصيلا من خدمات الصحة العامة، التي تقوم بها الحكومات من ضمن وظائفها الرسمية حيال المجتمع، إلا أن الأمر ليس كذلك على المستوى العربي العام حتى الوقت الراهن. لذلك تُعتبر تجربة “مركز راشد لعلاج ورعاية الطفولة”، من دون أدنى شك، مغامرة، لا بل تقترب من المقامرة، عندما تدعو فناناً تشكيلياً مهما بلغت درجة احترافه، ليقابل طفلا يعاني من التوحد أو الصمم أو البُكم، كي يزرع الأمل في روحه المجهضة ونفسه المحطمة، بواسطة فن الرسم، خلال ثمانية أيام! فالمسألة لا تخلو من التعقيد، وليست سهلة أو بسيطة بأي وجه من وجوهها، على حد تعبير امل العاثم خبيرة الفنون في وزارة الثقافة والتراث في دولة قطر، المشاركة في “ملتقى دبي التشكيلي الدولي”. لأن هذه الوسيلة من العلاج لأصحاب العاهات المستديمة ليست معروفة عربياً بالمعنى الأكاديمي الصرف، قبل معناها الأخلاقي والإنساني. وإن عُرفت فتبقى محصورة بشكل فردي على مستوى النخبة، وهي باهظة التكاليف بكل الأحوال، ولم تصل في أي بلد عربي، إلى مستوى أسلوب العلاج المعتمد رسميا في قطاع الصحة العامة الذي تنهض به الدولة. ولكن التجربة المغامِرة ـ على المستوى العربي ـ لاقت نجاحاً منقطع النظير، سواء على مستوى التفاعل الإيجابي، الذي أبداه الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، تجاه الفرشاة والخطوط والألوان، أو من قبل الفنانين أنفسهم، الذين يعترف أغلبهم بعد خمسة ايام من التفاعل مع الأطفال، بأن التجربة كانت رائعة، وأنهم تعلموا من الأطفال أكثر مما علموهم. فتجسد الشعار على أرض الواقع، وصار بحق، روح الفن الراقي، يمثل نبض القلب من الإنسان، حينما دبت الحركة بالأرواح الخامدة، ونشرت المسرة بالمكان، وملأت الوجوه بالسعادة والثقة بالنفس، ما جعل الأطفال القاصرين عقلياً أو المقعدين، أو الصم والبكم، شعلة متوقدة من السعادة المشوبة بالذكاء، بحيث تمكن بعضهم ـ بتوجيهات بسيطة ـ من إنجاز لوحات فنية جميلة شبه متكاملة، على حد تعبير الفنانة التشكيلية الإماراتية فاطمة لوتاه. وهو الأمر الذي حفَّزَ القائمين على “ملتقى دبي التشكيلي الدولي”، للتفكير بجعل أنشطته وفعالياته تستمر على مدار السنة، من خلال مبادرات أخرى تشكل روافد “تشكيلية” للملتقى، تتفاعل مع الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة، بحيث تصبح التجربة جزءاً أصيلا من علاجهم ورعايتهم التي يقوم بها المركز، حسب المدير الفني للملتقى الفنان علي العامري. فنان إيطالي يتفاعل مع الأطفال فنياً بالحب والإصرار تبنى الفنان الإسباني اسيدرو لوبيث أباريثيو، المشارك في ملتقى دبي التشكيلي الدولي الأول، المنظم من قبل مركز راشد لعلاج ورعاية الطفولة، شعار الملتقى “روح الفن.. نبض الإنسان”، بشكل عملي وروحي، إذ تعمد الرسم طيلة أيام الملتقى مع وإلى أطفال راشد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأول التعابير التي باح بها “هؤلاء الأطفال بشر بكل معنى الكلمة، وإعاقتهم الصحية يجب أن لا تكون يوماً ما، رادعا لدمجهم اجتماعياً، وذريعة لتجريدهم من حقوقهم الإنسانية.. إلا إذا تنكر المجتمع لوجودهم بشكل طوعي!”. ولأنه شارك في الملتقى وأتى دبي لأجلهم، انفرد اسيدرو في ورش فنية مع أطفال راشد، وأخذ يرسم ويلون معهم مستخدما براعته بربط ريشة لكل إصبع من أصابعه، والرسم بالعشر معا، بقصد إدخال السرور لقلوبهم. أما طريقة مراقبة الأطفال له ومحاولتهم تقليده، فهي من جهة مثيرة للفرح والبهجة نظرا لسعادتهم وحركاتهم السريعة والعشوائية، محاولين مجاراة اسيدرو في التلوين والرسم على اللوحات أمامهم، ومن ناحية أخرى تبعث في النفس الحزن والعتب على الأسر والمجتمعات التي عاملت وما زالت تعامل أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وكأنهم تهمة أو فعل معيب نتوارى منه خجلا وتذمرا، متناسين تماماً عيوبهم المكتسبة. فأثناء تفاعل الأطفال معه أشار اسيدرو إلى بساطة متطلباتهم النفسية وعالمهم الداخلي، وقال: هم طيبون جداً وصادقون، ويمنحون الودود معهم الكثير من الحب والثقة، وما يتوجب علينا اتجاههم لتغذية وتعزيز الجانب الروحي لديهم، هو منحهم العاطفة والاحترام لإنسانيتهم، مثلما نحرص على علاجهم ورعايتهم طبياً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©