الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

..وليس الخبر كالمعاينة

19 أكتوبر 2011 20:35
يقترن المفهوم الاصطلاحي للموازنة بنشأة النقد، وإدراك البعد الموضوعي لتفاوت أبنية الشعر وتباينها في التعبير، وقدرتها على استلاب ذاتية المتلقي وإخضاعه طواعية للنظر النقدي، حيث تقتضي عملية الموازنة الإجرائية استحضار مثالين للقياس، واستخلاص قيمة شعرية متميزة يمكن الاحتكام إليها في بيان أفضلية المثلين. ذلك لأن آلية الموازنة تعمل بأدوات الشعر ومكوناته الذاتية، اي أن منهجيتها ترتكز على معايير استقرائية وصفية، تجزئ بنية الشعر وتعيد تشكيله، وبقدر دلالة النص على القصد وإصابة الغرض المشترك ومراعاة المقام، ينحاز المتلقي إليه، وقد تكون شروط الموازنة التي رويت على لسان ام جندب في موازنتها بين زوجها امرئ القيس وعلقمة الفحل، مهاداً مصنوعاً ليلائم المواقف النقدية المستندة إلى التوازن بين الشعراء. د. ماهر مهدي هلال dr-mahrem@hotmail.com أن يكون الغرض واحداً وبناء القصيدتين على قافية واحدة وروي واحد، ليصح حكمها بعد ذلك في أيهما أشعر، فقال امرؤ القيس في صفة فرسه: فللسوط ألهوب وللساق درّة وللزجر منه وقع أخرج متعب وقال علقمة: فأدركهنّ ثانياً من عنانه يمر كمرّ الرائح المتحلب فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك، وعللت حكمها بموازنة القولين، فوجدت كفة ميزان الجودة تميل حيث يشكل سياق البنية الشعرية صورة مقنعة بالتفوق، فحصان امرئ القيس كليل لأنه جهده بالسوط، ودردره بساقيه، وزجره بشدة حتى يجري “فبدا بصورة المتعب”، بينما كان حصان علقمة يمر منساباً كمرور السحاب وقد أمطر فساقته الريح، هيناً ليناً، فهو حصان سابق بدلالة التشبيه الذي قرب الصورة من التصور وقرر الحكم. ولئن كان القول يفضل بعضه، فإن الشعر يفضل القول من حيث هو شعر ويتفاوت مع جنسه، وليس الموازنة بين شعر وشعر إلا تمييزاً للصنعة بعلل تكوينها وتشكيلها. فقول مروان بن ابي حفصة: طرقتك زائرة فحيّ خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها يفضل قول الأعشى: رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها بموازنة يونس، وبشار، والأعشى من هو؟ العلمية والموضوعية فالموازنة في هذا الاتجاه تمثل رؤية نقدية، تقترب من العلمية في تقريرها للحكم، وهذه القيمة الموضوعية تتجاوز شهرة الشاعر، لأنها تعمد إلى لغة الشعر ودلالته، واستجابة المتلقي الذي يعيد إنتاج النص بوعيه وإدراك مقاصده. ولا يتحرج “بشار” في هذا أن يقول لمروان بن أبي حفصة: أنت أشعر من الاعشى، فسرّه القول لاستحسانه الشعر وساءه لأنه قدمه على الأعشى، ولكن إقرار مروان بفضل الأعشى مسألة أخرى. وهو إقرار بفضل السابق على اللاحق. وربما لا تكون الموازنة على شرط “أم جندب” وإنما تكون بين أبيات المعاني الواحدة دون الوزن أو القافية. فقد وازن الناس بين قول طرفة: أسد غيل فإذا ما شربوا وهبُوا كل أمون وطمرْ وقول عنترة: وإذا شربت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يُكلمِ وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى وكما علمتِ شمائلي وتكرُمي فاستحسنوا قول عنترة؛ ذلك لأن طرفة جعلهم يهبون إذا تغيرت عقولهم، وإنما فضلوا بيتي عنترة لأنه دلّ على أن جوده باق على الحالين؛ صحوه وسكره، وأنه لا يبلغ من الشراب ما يثلم عرضه، وهو معنى حسن جميل. ويرى ابن قتيبة أن قول زهير: أخو ثقة لا تُتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله أجود منه لأنه أتى المعنى ببيت واحد وأتاه عنترة ببيتين، ولكن “المرزباني” فضّل بيت امرئ القيس بهذا المعنى: سماحة ذا وبّر ذا ووفاء ذا ونائل ذا، إذا صحا وإذا سَكِرْ وإنما جودته في التفصيل والتقسيم، أي في وضوح المعنى عند المتلقي ومن هذه المفاهيم الاولية المتناثرة في كتب النقد التي اعتمدت السياق التاريخي في تدوين المقولات النقدية، اتخذت الموازنة سمتها النقدي، حتى جعل منها “الآمدي” في القرن الرابع مصطلحاً نقدياً قيدّه في موازنته بين “أبي تمام والبحتري” والتي اعتمد فيها “مقارنة المعاني بالمعاني ليعرف الراجح في النظم من المرجوح” ولا يُراد بها بطبيعة الحال الموازنة البديعية التي تكون بها “الألفاظ متعادلة الأوزان متوالية الأجزاء” وتعد “موازنة” الآمدي: بين أبي تمام والبحتري “جامعاً أصولياً لحيثيات النقد عامة ولمقولات النقد حول شعر أبي تمام والبحتري خاصة، وقد عمل الآمدي بحذق ووعي على بلورة تلك المقولات ووضعها وضعا محايداً يحتمل التأويل، وكأنه بذلك قصد اشراك جمهور المتلقين في عمله، لأنه كان يرى أن العملية النقدية تالية لإنتاج النص فهي استهلاكية وليست إبداعية، ولذلك فقد عوّم احكامه النقدية (لتباين الناس في العلم) ولم يطلق القول بأيهما أشعر لاختلاف مذاهب الناس في الشعر وتباين آرائهم فيه. وعي نقدي ودارس كتاب الموازنة يمكنه أن يتبين الوعي النقدي الذي أتسم به “الآمدي” في رسم كتابه وتبويبه، والحذق الفني في منهجيته الموضوعية في توصيف البناء الشعري، ولتحقيق ذلك اختط منهجا وضع فيه مقولات النقاد والعلماء موضع الحيثيات النظرية في جدلية بين أنصار أبي تمام وأنصار البحتري، وهذه الجدلية هي تصور علمي اختطفه الآمدي وابتدعه ليغري القارئ في متابعة الجدل حتى يوصله الى ما يريد إيصاله في الجانب التطبيقي، الذي يجلّي فيه سمات الشعرية التي يراها في شعر الشاعرين، وقد حاول الآمدي على هذا الأساس أن يقيم جدليته بين الطرفين على الإثبات والنفي وتكافؤ القيمة، فبدأ بالتلمذة ـ أي تلمذة البحتري على أبي تمام ـ فنفاها فلم يُقر أصحاب البحتري هذه التلمذة قالوا: “أما الصحبة فما صحبه ولا تلمذ عليه ولا روى ذلك احد عنه” وان القصيدة التي سمعها أبو تمام عند أول اجتماع لهما عند “محمد بن يوسف” التي أولها: فيم ابتداركما الملام ولوعا أبكيت إلا دمنه وربوعا؟ وأنه لما بلغ إلى قوله فيها: في منزل ضنك تخال به القنا بين الضلوع اذا انحنين ضلوعا نهض إليه أبو تمام فقبل بين عينيه سروراً به وتحفياً بالطائية ثم قال: أبا الشعر إلا أن يكون يمنياً. وهذا يعني أن الآمدي يلمح لشاعرية البحتري، ولمَ لا يكون البحتري في هذا أشعر من أبي تمام. فهذا “كُثير” قد أخذ من “جميل” وتلمذ له، واستقى من معانيه، فما رأينا أحداً أطلق على “كُثير” أن “جميلاً” أشعر منه ـ بل هو ـ عند أهل العلم بالشعر والرواية. أشعر من “جميل” ويسوق الآمدي من مقولات القدماء الكثير ليحكم بإمكانية أن يكون التلميذ أشعر من استاذه، لأن البحتري تدارك سقطات أبي تمام فتوسط القول إذ كان أبو تمام: “يعلو علواً حسناً وينحط انحطاطاً قبيحاً، وان البحتري يعلو بتوسط، ولا يسقط، ومن لا يسقط ولا يسفف أفضل ممن يسقط ويسفف”. وعندما عرض أصحاب أبي تمام إلى ريادته في فن البديع وشهرته به حتى قيل: هذا “مذهب أبي تمام” يرد الآمدي ذلك على لسان صاحب البحتري، بأن أبا تمام لم يكن أولا وإنما هو سلك في ذلك سبيل “مسلم بن الوليد” ثم يستدرك القول ليضع الأمر في سياق المألوف عند العرب “لأن مسلماً أيضا غير مبتدع لهذا المذهب ولا هو أول فيه ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها أسم ـ البديع ـ منشورة متفرقة في أشعار المتقدمين، فقصدها وأكثر في شعره فيها. وهي في كتاب الله عز وجل أيضاً موجودة قال تعالى: “واشتعل الرأس شيبا).. فهذه من الاستعارة التي هي مجاز في القرآن... ثم يورد من الأقوال ما يجعله حجة تدعم قوله، كمقولة: “أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم اتبّعه أبو تمام، واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه”، ثم يؤكد هذا القول بما اثبته ابن المعتز في كتابة “البديع” (بأن بشاراً وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن تقيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم).. ويدور بالكلام ليجعله دليلاً على صفة شعر أبي تمام... قال: “ثم إن الطائي تفرع فيه، وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض” فأسقط حجة الريادة لأبي تمام في البديع. ويقف الآمدي موقفاً دقيقاً من قضية فهم الشعر، وقصور إدراك المتلقي في تأويل المعاني بحجة ـ لم لا تفهم ما يقال ـ وإن العلم في شعر أبي تمام أظهر منه في شعر البحتري والشاعر العالم أفضل من الشاعر غير العالم. وذلك بأن وضع مسألة العلم موضعاً تقابلياً مع علماء الشعر ليدلل على أنه ليس من شروط جودة الشعر ان يكون من قاله عالم “فقد كان الخليل عالماً شاعراً وكان الأصمعي عالماً شاعراً وكان الكسائي كذلك، وكان خلف الأحمر أشعر العلماء وما بلغ منهم العلم طبقة من كان في زمانهم من الشعراء غير العلماء فقد كان التجويد في الشعر ليس علته العلم... ثم يجعل لذلك لازمة عرفية بقوله: إذ كان معلوماً شائعاً؛ أن شعر العلماء دون شعر الشعراء” ومع ذلك تعمَّد أبو تمام أن يدل في شعره على علمه باللغة وبكلام العرب فأدخل الفاظا غريبة في مواضع كثيرة من شعره وذلك نحو قوله: هُنّ البجاريّ يا بجير أهدى لها الأبؤس الغوير والبجاري، الدواهي، والبُجر: الشر، والغوير تصغير، غار والبيت مأخوذ من مثل: “عسى الغوير أبؤسا” ويعني ربما جاء الشر من معدن الخير “هنّ”. وهذا في شعره كثير، والبحتري لم يقصد هذا ولا اعتمده وإنما كان يتعمد حذف الغريب والوحشي من شعره، ليقرّبه من فهم ممدوحه؛ وهكذا يُنظّر الآمدي في جدليته بين حديّ الشيء ونفي الشيء ويدافع عن الحيثية التي يسوقها، بأن يضعها موضع العُرف عند النقاد حتى تستوي له بالشاهد. فإذا نعى أصحاب أبي تمام اللحن على البحتري ـ فاللحن لا يكاد يعرى منه أحد من الشعراء المحدثين والإسلاميين ـ وقد جاء في شعر المتقدمين ما عرفنا من “الإقواء” وغير “الإقواء” من عيوب الشعر، ولذلك فما عيب على البحتري ليس خارجاً عن مقاييس العربية (بل قد جاء مثله كثير في أشعار القدماء والأعراب والفصحاء)، ويوظف الآمدي مقولة البحتري عندما سئل عن شعر أبي تمام: “جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه”، بأن شعر أبي تمام شديد الاختلاف وشعره شديد الاستواء، ولذلك صار (جيد أبي تمام موصوفاً لأنه يأتي في تضاعيف الرديء الساقط فيبدو رائقاً لشدة مباينته مايليه فيظهر فضله بالإضافة... والمطبوع الذي هو مستوى الشعر قليل السقط لا يبين جيده من سائر شعره بينونة شديدة، ومن أجل ذلك صار جيد أبي تمام معلوماً وعدده محصوراً) ثم يقرر “الآمدي” بعد ذلك حكماً موضوعياً في ماهية المقولة هذه بأن يضعها موضع التجريب العلمي التطبيقي قال: “نظرت في شعر أبي تمام والبحتري وتلقطت محاسنهما، ثم تصفحت شعريهما بعد ذلك على مرّ الأوقات، فما من مرّة إلا وأنا الحق في اختيار شعر البحتري مالم أكن اخترته من قبل، وما أعلم أني زدت في اختيار شعر ابي تمام ثلاثين بيتاً على ما كنت اخترته قديماً”، وهذا يعني أن شعر البحتري مُتجدد المعاني يتصور فيه الإبداع بصور مختلفة، بينما يتخذ شعر أبي تمام سمة الجمود على المعنى أو أن تراكيبه معقدة لا تؤدي إلى حركة المعنى في مفاصل بنيته وتجديد علاقات الفاظه ودلالتها. وعلّة التجريب بالشعر تفضي به إلى المعرفة “فليس الخبر كالمعاينة” كما يقول الآمدي ولا يمكنك أن تُخبّر عن مختلف الأجناس والجواهر والأوصاف في لحظة واحدة ووقت واحد، وإنما نحتاج لكل علّة ونوع وجنس “الدُربة والدراية” والمعايشة بمرور الأيام، فكلما يعرف البزاز بأنواع الثياب وكذا العلم بالجواهر والخيل يميز اجناسها، فكذلك المعرفة بكل جنس من أجناس الكلام والشعر والخطابة “لكل صناعة، وثقافة”، فإذا رجعت في المعرفة “بتلك” إلى أهلها فأرجع ايضاً بمعرفة أجناس الشعر إلى أهله، وبالعلم انتهى النقاد إلى تفضيل بعض الشعراء على بعض فنظروا في شعر “أوس بن حجر” و”النابضة الجعدي” ففضلوا أوساً فأنظر من أين فضله.. ونظروا في شعر “بشر بن ابي خازم” و”تميم بن أبي مقبل”، ففضلوا بشرا، وانظر كيف صاح “المفضل الضبّي” صيحة منكرة عندما سئل عن الراعي وذي الرمة: أيها الشعر؟! وإنكاره يعني: أن “ذا الرمة” لا يقاس “بالراعي” وكذلك غير المفضل لا يقيسه به ولا يقارب بينهما، فأنظر أين وقع التفضيل، فقد قيل: بدأ الشعر بـ “امرئ القيس” وختم بـ “ذي الرمة” فكيف تصح موازنته “بالراعي النميري” الذي أسكته “جرير” وأخرجه من حلبة “النقائض” بقصيدته “الدماغة” التي قال له فيها: فغض الطرف إنك من نُمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا المبنى والمعنى وباب الموازنة بعد هذا هو ما يلوح لك به الطريق التي بها قدمّوا من قدموا وأخروا من أخروا؛ عن علم بالشعر يفضي بك الى علم بنقده، وإن لم ينته بك التأمل الى علم ذلك فاعلم أنك بمعزل عن الصناعة. تلك دعوة الآمدي في منظوره النقدي اطلقها منذ القرن الرابع، بأن يؤسس النقد على علم بالشعر، ومعرفة بمبناه ومعناه. وإلى مثل هذا ذهب ناقد معاصر يوازن بين الشعراء الذين ترجموا “رباعيات الخيام” شعرا ومدى مطابقة المبنى للمعنى ولعل المقطع الآتي أقرب الشواهد إلى الغرض لأنه جمع بين أربعة منهم: وهم أحمد رامي وإبراهيم العريّض وأحمد الصافي النجفي وصالح القرق. يقول رامي في ترجمته: لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان ونقرأ في ترجمة العريّض: ولا أمس ظلّ ولا الغد حلّ فما يمنع اليوم أن يُغتنم؟ وفي ترجمة النجفي نقرأ: دع ذكر أمس فهو قد مرّ ودع ذكر غد فإنه ما وردا أما ترجمة “القرق” للرباعية نفسها فهي: أمس ولى فانسه للأبد دعك منه، وامحه من خلد ثم لا تجزع لآت في غد فغد يا صاحبي لم يولد صاح لا تبن طموحا أبدا فوق ماض أو لآت في غد لا تدع عمرك يغتال سدى واغنم الحاضر ... واسعد ترجمات الرباعية يقول عبد الواحد لؤلؤة في موازنته بين الصوغ الشعري لمعنى واحد للرباعية: أجد في ترجمة رامي شاعرية أكبر مما أجده في صيغة النجفي التي تبدو فيها استعلاء على المخاطب، كما تصرف رامي تصرفا فنيا لتلافي العبارة التقريرية في ترجمة الثلاثة “الأمر بالشرب” والحث على اغتنام الحاضر ولذاته بعبارة “فليس من طبع الليالي الأمان” على أن الحكمة التي يراها الدكتور لؤلؤة في هذه الرباعية من “حكيم ذي تجربة في الحياة” قد سبقه إليها حكماء قريبون منه أي من الناقد. فقد قال “زهير بن أبي سلمى” في معلقته: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم وقال “طرفة بن العبد” وكأنه يتم معنى زهير: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكأني بمترجمي هذه الرباعية وهم من صفوة الشعراء قد تمثلوا معاني هذين البيتين في احتواء معنى الرباعية “وقد قيل الشعر وقع حافر على حافر” قبل أن تصطلح “كرستيفا” التناص بقرون عدة. وعليه أقول: إن شاعرية رامي في إيجازه؛ والإيجاز يستغرق وعي المتلقي ويتقصده ولاسيما إذا طغت “غنة النون ومد الروي” الذي جعل كفة الميزان تميل إليه بمعزل عن مد صوت “أم كلثوم” الشاجي؛ على أن محاولة “الٌقرق” احتواء المعنى بدقة أوقعه بالإطناب المخل والمعوق لاستجابة المتلقي. ولعل من نافلة القول بعد هذا أن الوعي النقدي الحديث قد انشغل بالموازنة بين الشعراء انشغاله “بالتناص” والبنية والتأويل وقراءة النص وموجباتها اللسانية؛ يذكر الدكتور عبد الواحد لؤلؤة: إن الناقد الأمريكي “ماتيسن” يقول: عندما يحين الوقت لتدوين تاريخ الشعر المعاصر في بلادنا فإن الشخصيتين الرئيسيتين ستكونان في الغالب “فروست” و”إليوت” إن الفرق بين الاثنين هو كون الأول “شاعر الإنسان في الطبيعة” والثاني “شاعر الإنسان في قفر المدينة”، وفي موازنة عبد الواحد لؤلؤة، الذي درس الشعر الإنجليزي عن قرب؛ بين “إليوت” و”تشوسر” أول وأهم شاعر إنجليزي قبل “شكسبير” يقول إليوت في مطلع قصيدته “الأرض الخراب”: نيسان أقسى الشهور، يولد اللّيلك من الأرض الميتة، مازجا الشهوة بالذكرى، محركا بليد الجذور بغيث الربيع ويقول “تشوسر: عندما نيسان، بزخاته العذبة تغلغل في جفاف آذار حتى الجذور، فغمر كل عرق بماء غيث فيه من الخير ما ينبت الزهور يقول لؤلؤة: الفرق بين معالجة (نيسان) في القصيدتين هو الفرق بين مزاج الشاعرين... فمطلع إليوت يقلب المفاهيم “ويعني مفهوم التكاثر والنماء في الربيع”؛ إذ ليس المعروف عن الربيع أنه قاس، بل هو كما في أول بيت لأشهر قصيدة من قصائد شيخ الشعراء الإنكليز “تشوسر” حيث أعاد الحياة إلى الجذور ـ الهامدة ـ إن صورة العقم/ الغيث، التي أشاعها “إليوت” في أشهر قصائده، كأنما هي تعبير عن وهن الصلة بين الماضي والحاضر أو انقطعت تماما “فالمجتمع الحاضر مقلوب القيم” فأظهرت “الموازنة” وعي الناقد في قراءة النص وتأويله. وبعد فقد يحسن بنا وحديث الموازنة بين شاعر وشاعر، ذو شجون أن نختمه بحكم “النوار” زوج “الفرزدق” وقد بدأناه بحكم “أم جندب” زوج امرئ القيس وزوج “علقمة” لاحقا، فقد روي أن “امرأ القيس” طلقها بعد أن فضلت قول “علقمة” على قوله، قائلا لها: ما هو بأشر مني وإنما أنت له عاشقة؛ فتزوجها “علقمة” فلقب “علقمة الفحل”. أما “النوار” فقد قيل أن الفرزدق سأل “النوار، كيف ترين شعري من شعر “جرير” فقالت: “شركك في حلوه وغلبك على مرّه” وأي موازنة محكمة هذه ارتقت بها “النوار” إلى مستوى شعر فرسي رهان النقائض. إنها رؤية النقد/ الشعر/ المتلقي؛ بمعزل عن الشاعر برؤية معاصرة ترقى إلى رؤية (موت المؤلف) فقد كان الفرزدق لا يجيد النسيب وكان جرير رقيق النسيب مع عفته ولعل الفرزدق أدرك المرمى النقدي للنوار وعقله. وقيل لما ماتت “النوار” لم يستطع الفرزدق رثاءها، فناح عليها بشعر جرير: لولا الحياء لعادني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار فصدقت رؤيا النوار وأذعن الفرزق لشعرية غريمه (الذي غلبه في مُرّه) وتظل الموازنة بين الشعراء أرجوحة النقاد التي لا تستوي ولن يستوي الشِعر والشَعر في طرفيها ولا سيما إذا كان “منثورا”، ورحم الله “أبا العلاء المعرّي” الذي يقول في موازنة من بدائعه: والشعر يظهر في بيتين رونقه بيت من الشِعْر أو بيت من الشَّعَر قال أبو العلاء هذا يوم لم يكن قد ولد “بيت من النثر” ليجانسه “ببيت الشِعر” فوازنه “ببيت الشَّعَر” على البديهة في أبلغ صيغة من صيغ الجناس وأجمل صورة من صور البداوة ؛ ولا مشاحة يا شيخ المعرّة (ففي البداوة حسن غير مجلوب).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©