السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تخليص الذات من أدرانها

تخليص الذات من أدرانها
19 أكتوبر 2011 20:40
صدر حديثا عن دار النهضة العربية في لبنان، ديوان شعري جديد للشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري تحت عنوان: “أجنحة بيضاء تحت قديميها” وهو الديوان الذي يأتي بعد أعمال شعرية أخرى أصدرها الأشعري وهي: صهيل الخيل الجريحة ( 1978)، عينان بسعة الحلم ( 1982)، يومي التار والسفر (1983)، سيرة المطر (1988)، مائيات (1999)، سرير لعزلة السنيلة، قصائد تائهة (2006). يضم الديوان 13 قصيدة شعرية موزعة 85 صفحة من القطع المتوسط، وتحمل العناوين التالية: استحالة، أحداث مسارعة، سوء تفاهم، مشهد، موعد، غراميات، في ذهابها، موعد، مشهد جانبي، أنا أيضا، يد فُوبْيا، قل تلك الكلمة، فسيفساء. يعمل الشاعر محمد الأشعري في ديوانه هذا على اختصار الذات بغية تخليصها من أدرانها، والبحث عن خلاص للروح القلقة والتائهة في عالم متحول تنقلب في ظل تسارع وتيرة قلقه اليومي الحافل القيم وتنمسخ الأعراف والعادات وتختفي هويات بكاملها منهزمة أمام رعب اللحظة التي يشعلها التهافت على المصالح. إن الشاعر لا يكتب الواقع، بل يكتب المأمول ويجرد اللغة من حطامها بحثا عن إشراقة وضيئة ولو عبر المتخيل، والهروب الممكن من الممسوخ الى الجمال، من السجن الى الحرية، وكما نلمس هذا في قصيدته الأولى: “استحالة إذ يقول: وحتى لم كان المكان شاسعا/ شسوع بحيرة/ أو غابة/ أو مدينة نائمة/ فإنني لم أكن لأشغل سوى/ هذا الحيز الصغير/ الذي يشبه رحما/ ليس لأني أحب الزحام/ ولكن فقط/ لأن الشساعة ترعبني/ والحيز الوحيد الذي يلاءم مزاجي/ هو هذا الركن القصي/ حيث تقبع تفاصيلي كلها/ مثل كلاب متبعة/ هنا أحقق ذلك القرب الأمثل/ مع التلاشي/ حيث يصبح الموت المتربص/ نوعا من الذكرى/ والرغبات المخذولة/ مجرد تنويع في سلم اللذة/ وحتى لو كان المدى شاسعا/ فإنني كنت سأبقى حيث أنا/ قريبا من أضواء مدينة تنام/ ومن نداء يردد اسمي/ هنا أكاد أفهم/ لماذا نمشي ونمشي ونمشي/ غير عابئين بصوت الأرض/ وهي تهرب من أقدامها/ غير نادمين على شيء/ سوى أننا انتظرنا طويلا/ هذا الفطام الصعب/ هنا أكاد أجزم/ أن الكلمات التي تنسج جسدي/ هي نفسها التي أجري/ وراء ريشها/ مغمورا برغبة قصوى/ أن نعثر ذات يوم/ على حبر يجمعنا/ في حلكة واحدة/ هنا أشرع على نفسي/ نافذة مفترضة/ وأمضي/ سعيدا باكتشافاتي الصغيرة/ خفيفا/ لأنني تخلصت من المعطف/ الذي ينافس ملامحي/ وأصبحت شخصا آخر/ شخصا آخر تماما”. أما في قصيدة “أحداث متسارعة” فنرى الشاعر يقترب من حبيبته، في لحظة مكاشفة،حيث يقول: “حتى في ضجيج القطارات/ وحتى هدير السيول/ والمارة / وانهيار النداءات/ لم يكن ليحجٌبَ مرورك/ بعيدا/ حيث أنت/ إنني أسمع خطوك/ أسمع نبضك السريع/ ينساب عبر نهر الحياة/ خفيفا/ كأنه مطر ينقر عطش الأرض/ أسمع رفات عينيك/ تحرك أوراق شجر يشبهني/ أسمع عناءك الشجي/ ينزلني إلى ندى الأعماق/ نعم أسمعك/ توقعين على الرصيف/ الذي يغمرني/ نشيد غيابك/ أسمع حدائك صغيرة تتبعك/ مبتلة/ متوترة/ تحمل عصافيرها وتجري/ أسمع صوتي يقول لك/ خذي هذه الزهرة الوحيدة/ التي نجت من الكارثة/ أسمع هديرا من الهتافات يتبعني/ من الأزقة والشرفات/ والسطوح يعلو/ من الأرصفة والمقاهي/ ونوافذ العربات/ يعلو/ إنه يحبها!/ يحبها!/ إنه يحبها!/ ثم أسمعني أردد مبهورا/ يا لها من معجزة!”. وفي قصيدته “موعد” يستعيد الشاعر ذكرى سنوات مضت.. وهذه النوستالجيا التذكرية هي نوع من الهروب إلى الخلف من الواقع المر الذي يطوق الذات ويحولها إلى كائن غير منسجم مع ذاتها خاصة وأن الشاعر وزير وله وضع مادي واجتماعي مريح، لكن طابعه الشعري وحسه الإنساني جعله يتخلى عن هذا الوضع الاعتباري ليعود إلى أصله النقي وهو الشعر الذي يحل في الناس الذين يعيشون في القاع الاجتماعي المتدني الذي يرزح بين قيود الخيبات والمواجع والأحلام المتكسرة والتشظي. أما باقي القصائد فهي تعزف على نفس المنوال، معزوفات نوستالجية، تحاول الإمساك بلحظات جميلة من لحظات الحب والعشق التي مر منها الشاعر وعايشها. وتلمس هذا في قصيدة “فسيفساء” والتي يقول فيها الأشعري: “السماء ارتعشت/ عندما مرت ابتسامتها/ وأرخت غيمها/ على زرقة الكون/ ثم أجهشت ممطرة/ كيف نعبر هذه الساحة/ بينما الظلال التي ترافقنا/ ما تزال في ناصية الشارع/ مشدوهة/ لأنها لا تعرف/ أين تقضي الليل/ كلما اقتربت من جسدها/ حطت على أصابعي/ فراشها/ مرتبكة”. ديوان محمد الأشعري هذا لا يخرج عن تيمة نفسه الشعري في دواوينه السابقة ولغته، حيث بالرغم من أن المسؤولية السياسية أخذت منه وقتا طويلا، وحركت فيه انعطافات ومسارب أخرى، لكن أصله الشعري العميق لم تفسده السياسة وتحولاتها وأقنعتها البغيضة التي غالبا ما تستهلك الإنساني والاجتماعي في البشر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©