السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء بعد الأوان

لقاء بعد الأوان
21 أكتوبر 2011 11:16
تلقيت اتصالاً هاتفياً من رقم هاتف لا أعرفه، جاءت كلمات محدثتي التي تبدو من صوتها أنها في العشرينيات من عمرها، هامسة لطيفة وبدأت كلماتها بالاعتذار عن الإزعاج أولاً، وثانياً لعدم وجود سابق معرفة بيننا، وقالت إنها تعمل ممرضة في أحد المستشفيات الخاصة المعروفة، وأن مريضاً عجوزاً قد تجاوز الستين كلفها بأن تطلبني على الهاتف لأنه يُريد أن يتحدث معي قبل أن يفارق الدنيا، وعلى حد تعبيرها أنه ربما يكون في الساعات الأخيرة من عمره، وعندما أخبرتني باسمه أصبت بالخرس وتوقف لساني عن الكلام من المفاجأة التي لا يمكن أن تخطر على بال أحد، ولا أدري كم من الوقت ظللت صامتة وهي تحدثني وتحاول أن تعرف أن كنت اسمعها جيداً وما زلت معها على الهاتف، وانتهى الاتصال. وضعت السماعة وأنا أشعر بحالة من الدوَّار وفقدان الاتزان، تسارعت دقات قلبي المريض الذي لا يتحمل الصدمات ولا المفاجآت، وارتميت على أقرب مقعد أحاول أن ألملم ذرات جسدي التي شعرت بأنها تناثرت في المكان، سالت دموعي من دون أن اشعر لأن الأسباب كانت كثيرة وتشابكت بسرعة البرق، وأحمد الله أنني كنت وحدي في تلك اللحظات، لأنها لحظات ضعف ولا أحب أن يراني أحد من أبنائي وأحفادي وأنا على تلك الحال، وربما لأول مرة أشعر أنني ضعيفة إلى هذا الحد، وأن هذا الاتصال كشف حقيقتي التي لم أعرفها عن نفسي، ولا أعتقد أن أحداً قبلي قد تعرض لهذا الموقف على الإطلاق. هذا الرجل هو أول من دقّ قلبي بحبه، منذ ما يقرب من خمسين سنة كنت في الثامنة عشرة من عمري فتاة جميلة مثل الزهرة المتفتحة في الربيع، ابنة عائلة ثرية، أكبر إخوتي وأخواتي، كلنا مدللون، لكني كنت أكثرهم تدليلاً، أدرس في الجامعة، هناك التقيت به لأول مرة وحدنا بعيداً عن عيون أهل القرية التي ننتمي إليها، فأنا أعرفه منذ كنا طفلين، لكن لم تتح لنا فرصة الحديث أو التلاقي، كان يسبقني بعامين في نفس الكلية، شهامته هي التي جذبتني إليه، نشأ بيننا تفاهم غير مسبوق، شدتني إليه أشياء كثيرة كنت أفتقدها فيمن حولي، يقدم لي كل الخدمات ويقضي الاحتياجات، ويصطحبني في السفر ذهاباً وجيئة، يتابع دراستي، ولا يحدثني عن نفسه، أستطيع أن أقرأ مكنونه من غير كلام، ويفهم مقصدي بمجرد نظرة. كان ذلك كافياً لأن أحبه ويحبني، والغريب أن أحداً منا لم ينطق بهذه الكلمة للآخر صراحة لأن المشاعر والأحاسيس كانت أقوى وأفضل وأكثر تعبيراً من الكلام، وكان يوم حزني الكبير يوم أن أنهى دراسته قبلي وتركني وغادر الجامعة وهو يتعهد بأن يراني كلما سنحت الفرصة، وقد كان وفياً، وأراه بين الحين والآخر، يمنعني الحياء من التعبير له عن أشواقي وأتمنى أن يبقى معي ولا يتركني، ثم تباعدت زياراته وقلت لقاءاتنا لأنه التحق بوظيفة ولم يعد لديه الوقت الكافي لنتقابل بما يناسب ظروفي. بعدما انتهيت من دراستي جاء يوم التناقض الكبير، أوله سعادة بالغة، وآخره حزن قاتل، فقد فوجئت به يتقدم لأبي طالباً يدي للزواج وهو يعتقد أن ما بيننا وحده يكفي، إلا أن طلبه قوبل بالرفض بحجة أنني مخطوبة، وإنما الحقيقة أن أبي كان يرى أنه من عائلة متوسطة لا تتناسب مع مستوى عائلتي، كان أبي يفكر بطريقة الحفاظ على الأنساب من الاختلاط، ولا تجوز عنده المصاهرة بين النبلاء وعامة الناس، ويرى أن هناك فوارق يجب أن تظل عند نفس المسافات. لم يكن أبي ولا غيره يعرفون بما بيني وبين هذا الرجل، إلا أختي التي تليني، وهي الوحيدة التي استطعت أن أخبرها من قبل بكل تفاصيل ما جرى في حينه، لذلك كانت الوحيدة في هذا اليوم التي تشعر بمعاناتي وأحزاني وأنا غير قادرة على البوح، فالحب كان نوعاً من الفضائح التي يجب التستر عليها وإخفاؤها، حاولت أختي أن تهون الأمر وتمسح دموعي الغزيرة، وبكيت يومها كما لم أبك من قبل، أو هذه هي أول مرة أعرف فيها البكاء بهذا الشكل، وبعدها حاولت أختي أن تتصرَّف وهمست في أُذن أمي ببعض ما تعرف عن مشاعري لعلَّها تتدخل بطريقتها لإقناع أبي، إلا أنها لم تجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة. لم يكن في مقدوره أن يعاود الكرة بعد أن فهم الرسالة واضحة، وأنه مرفوض، وقد كان لهذا أثر سيئ على نفسه، فلم يعد يأتي إلى القرية إلا قليلاً، في الأعياد والمناسبات، وانخرط في عمله محاولاً النسيان الذي لم يستطعه، وتوقف عن التفكير في الزواج وأنا أتابع أخباره عن بعد واحياناً تحدث بيننا بعض الاتصالات أو اللقاءات التي تأتي بالمصادفة البحتة، وبحكم فهمي لشخصيته أستطيع أن أجزم بأنه عزف عن الزواج ولو مؤقتاً لحين أن يتأكد له أنني تزوجت غيره، وأملاً في حدوث معجزة. وعندما جاء من يطلب يدي ممن يراهم أبي من أرباب العائلات والحسب والنسب وافق عليه، ولم يكن عندي ما أقوله، وتم الزواج وأنا غير راغبة في زوجي ولا حياتي، رغم أنه لا يفتقد ميزة وتتمناه معظم الفتيات حتى من أمثالي، وفي بيته كانت الحياة على شاكلة بيت أبي، لكنني لم أجد السعادة التي ترجوها كل فتاة عند زواجها، وأن كان الزوج لا يسيء إليّ إلا أنني لم أجد عنده ما كنت أجده عند من خفق له قلبي، ولم يعوضني عن ذلك، ولكن رغم هذا كنت وفية له ولبيته ومخلصة إلى أقصى حد غير أني لست قادرة على التحكم في مشاعري. أنجبت ثلاث بنات وكل همي ألا يتعرضن لما تعرضت له، فكانت بيني وبينهن صداقة تسمح بالحديث عن كل شيء، تلك الصداقة التي افتقدتها مع أمي، أسمع لهن وأناقشهن في حدود الأخلاق والالتزام وعاهدت نفسي على أن أكرس حياتي لهن، فلا يوجد في الحياة ما هو أهم منهن حتى نفسي، أُتابع دراستهن وأهتم بكل صغيرة وكبيرة، وزوجي سعيد بهذا الاهتمام، وتزداد سعادتي وأنا أراهن مثل الورود وينتقلن من سنة إلى سنة ومن مرحلة دراسية إلى أخرى حتى تخرجن في الجامعة. حبيبي تزوج فتاة من بنات المدن، لم يجد عندها ما كان يريده أو ما كان يجده عندي، وكان التواصل والتفاهم بينهما في حكم المفقود فهو ما زال رغم كل هذه السنين متأثراً بعلاقتنا، لم يرزق بأبناء ولم يستطع استكمال حياته الزوجية على هذا المنوال، وأيضاً لم يرد أن يظلم زوجته، فحدث بينهما الانفصال، وعاش وحيداً على ذكرى حبنا، ليس له إلا العمل حتى أحيل إلى التقاعد، وأيضاً قد نلتقي في المناسبات على فترات متباعدة، وألمح في عينيه حزناً دفيناً وأسى على الماضي المفقود والأمل الذي لن يعود. توفي زوجي وأصبحت وحيدة بعد زواج بناتي الثلاث، أشعر بفراغ كبير في حياتي إلا عند زيارات بناتي وأزواجهن أو زيارتي لإحداهن، وألعب مع أحفادي في أيام العطلات ونهاية الأسبوع وأتزاور مع اخوتي وأخواتي، لكن انشغالات الحياة لا تمكننا من استمرار اللقاءات، والوحدة قاسية خاصة بعد أن يتقدم العمر، فأقضي الأيام الطوال لا أخرج من البيت والليل أصبح طويلاً طويلاً، والنهار ثقيلاً، وحياتي بلا قيمة تذكر. لا يجوز لمن في سني أن تفكر في الحب وقد أصبحت جدة وأحيلت إلى التقاعد من عملها، ويمنعنا الشيب من التفكير في الماضي السحيق والعودة إليه، لكن لم يكن النسيان سهلاً إلا أنه لا بديل عنه، وعندما جاءني هذا الاتصال الهاتفي المباغت كانت النتيجة عكسية. جلست أفكر وأتدبر الأمر، حائرة بين الرفض والقبول، مترددة بين الذهاب لزيارته وهو في هذه الظروف، وبين الامتناع، الرجل، كما قالت لي الممرضة يحتضر، وأستطيع أن أفهم بحكم ما كان بيننا أن أقول إنه يريد أن يراني وفي لهفة إلى ذلك مثل العشاق المراهقين وقد استشعرت ذلك في نفسي للحظات، وأنا عجوز مثله، فالحقيقة أن القلب لا يتوقف عن الخفقان بالحب ما دام ينبض بالحياة. ساعة وأنا أدور حول نفسي في مكاني وأقلب أفكاري وأعود بذاكرتي إلى الخلف، غير قادرة على اتخاذ أي قرار أخشى الندم في كلتا الحالتين أن ذهبت وإن لم ألب الدعوة التي قد تكون الأخيرة وحتماً ستكون النهائية، فلا مجال للقاء ولم يبق في العمر ما يتيح فرصة أخرى وقررت أن أشرك أختي فيما جرى لتساعدني في اتخاذ هذا القرار المهم الذي يمكن أن أقول إنه قرار مصيري، فجاءتني بسرعة ووجدت لديها ميلاً نحو تلبية الدعوة من باب زيارة المريض والتخفيف عنه، وان كنت أرى أيضاً أنها تريد أن تدفعني لأراه فهي تعرف أنني ما زلت أحبه. كنت في الطريق أتعثر في خطاي أتوكأ على أختي على غير العادة فأنا ما زلت قوية وقادرة على السير وحدي بلا مساعدة أحد، إلا أنني الآن في حالة اهتزاز، شاردة بعيداً أغوص في أعماق الزمن، أسترجع الماضي الذي تتداعى أحداثه وتتزاحم، وان كنت تمنيت مثل هذا اللقاء من قبل لكن الآن أراه غير لائق بي، صافحته وهو غير قادر على الكلام، لكن كما كنت في السابق أجيد قراءة لغة عينيه قرأت ذلك الآن في عينيه الذابلتين، فهمت كل ما يريد أن يقول وهو لا يستطيع أن يغالب دموعه التي أراها لأوَّل مرة، ولم أتمكن من البقاء كثيراً وقلبي ينزف. ورغم ذلك ندمت على ما فعلت لأنني أتساءل: هل يجوز لي أن أفعل فعلتي هذه، هل كنت على حق أم ارتكبت حماقة لا تغتفر، لا أتوقف عن لوم نفسي وتوبيخها.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©