السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العمر المسروق

العمر المسروق
18 فبراير 2010 19:29
ألقيت بالعرائس والدمى وألعاب البنات، رغم كثرتها وتنوعها؛ لأنني لم أجد من يشاركني فيها، واتجهت إلى ألعاب إخوتي الذكور، فأنا طفلة بين ثلاثة ذكور، كنت الأكثر تدليلا في الأسرة، حيث تتلقفني الأيدي والأحضان من الأهل والأقارب، وأتحدث فيسمع الجميع وأطلب فيستجيبون وأحلامي تتحقق وتتحول إلى واقع، وما كان ذلك إلا رغبات طفلة تهفو نفسها إلى شيء، وليس جنوحا أو مبالغة. وفي النادي، كنت أرافق إخوتي وهم يتدربون على الكاراتيه والفروسية وكرة القدم والمصارعة وأتابعهم وتستهويني هذه الألعاب والحركات وفنونها، حتى أحببتها وطلبت من أبى الاشتراك في الكاراتيه، خاصة بعدما شاهدت فيلما أجنبيا تقوم فيه فتاة بحركات سريعة خفيفة وهي تطير في الهواء كالفراشة، وتستطيع رغم نحافة جسدها، أن تقهر عددا كبيرا من الرجال الأقوياء وتتغلب عليهم، وينتهي الفيلم بانتصارها، ولم يكن اختياري لهذه اللعبة تقليدا لها أو لكي أفعل في حياتي كما فعلت، وإنما لأتعلم هذا الفن الرياضي الراقي، غير أنني وجدت في اللعبة بعض العنف وإن لم يرق إلى ما في المصارعة من قتال شديد، لم أتوقف عند هذه الملاحظات، فحبي وإعجابي بالحركات والملابس والأحزمة، وحقيبة النادي أكبر وأحببت الصيحات ولا أتوقف عنها مع إخوتي حتى في السيارة والمنزل وهم يتلقون مني الضربات، والجميع يقابلون ذلك بالضحكات والإعجاب. أما الطلب الغريب الذي لم يستجب له أحد بسرعة كالمعتاد، ولأول مرة يجادلونني ولا يتأثرون ببكائي ودموعي الغزيرة وصراخي المتواصل، فهو عندما طلبت أن أقص شعري مثل إخوتي ليكون قصيرا، رفضت كل مبرراتهم وأسباب اعتراضهم وتعاملت معها على أنها قهر وتعنت وعدم مساواة، وفي النهاية لم يستطيعوا المقاومة واستجابوا لرغبتي، لكن اصطحبتني أمي إلى محل الكوافير الحريمي وطلبت منه قص شعري “جرسون” يعني “قصة شعر الأولاد”، ولم يكن ذلك خافيا عليَّ ولا غريبا؛ فأنا رغم صغر سني أفهم هذا المعنى، لكنني لا أدرك ما وراءه، ولم يكن تصرفا شاذا لأنني شاهدت الكثيرات يفعلن ذلك، ولا أنكر أنني حزنت على شعري الجميل وهو يتساقط على الأرض خصلة خصلة. وفي المدرسة، كنت البنت الوحيدة التي تتعامل مع الأولاد بجرأة لأنني اعتدت ذلك من خلال تعاملي مع إخوتي، وفي نفس الوقت أعرف حدود التعامل، وأحافظ على المسافات بيني وبين الآخرين، يتعامل معي المعلمون والمعلمات بشيء من الاهتمام الزائد بسبب ما يرونه في شخصيتي من مميزات، فكنت عضوا في كل الجماعات والأنشطة المدرسية، وزادني قوة وأهمية تردد أبي على المدرسة ومتابعتي وعضويته أيضا في مجلس الآباء، مما جعلني أكثر شهرة من المديرة نفسها، وانتقلت إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية على نفس المنوال، في مدارس مشتركة للبنين والبنات. وانتقلت إلى الجامعة في واحدة من كليات القمة، فأنا متفوقة في دراستي، ولا أستطيع أن أحصي الهدايا التي حصلت عليها جراء ذلك، والجديد في هذه المرحلة، أنني غيرت هندامي وبدأت أرتدي البنطال الذي كان وقتها صرعة من صرعات الموضة، وانقلابا في ملابس النساء، وأنا مثل الفتيات أجري وراء الموضة وأبادر بالحصول عليها ليكون لي السبق والريادة، فأحب دائما أن أكون في الصفوف الأولى، حتى لو كان ذلك في الموضة، بل إن الموضة من أكبر اهتماماتي، وكثيرا ما تنهال عليَّ عبارات الإعجاب والثناء لأن الزي جديد والتصميم حديث متطور وكنت في الجامعة أكثر نشاطا مما سبق واتسعت اهتماماتي وكبرت أفكاري، ونضجت اتجاهاتي وأصبحت أيضا أكثر شهرة مما كنت عليه في المدرسة، يدعمني في ذلك تفوقي الذي مازال يلازمني ولا أرضي عنه بديلا، فدراستي قبل كل شيء، لكن الشيء الوحيد الذي لم أفعله هو الحب الذي انتشر بين الشباب كانتشار النار في الهشيم، قوة شخصيتي منعت الجميع من الاقتراب مني أكثر من ذلك، فلا أسمح ولا أفكر في هذه الأمور التافهة والخيالات المريضة، وإن لم يكن عندي تفسير أكثر من ذلك، إلا أنني أعتقد أن الزملاء وقتها كانوا يخشون فعلي العنيف لو تجرأ أحدهم وفاتحني بكلام مثل هذا، ومع هذا لم يخل الأمر من أنني قرأت الإعجاب في عيون بعضهم، وقهرته وقضيت عليه في مهده قبل أن يتطور؛ لأنني أرى أن هذه التصرفات من صغائر الأمور، والكبار من أمثالي يجب أن يظلوا في مواقعهم ترنو إليهم العيون وترتفع الهامات إلى أعلى. أخي الأكبر سافر إلى الخارج لاستكمال دراسته والأوسط تزوج واستقل بمسكنه بأسرته، وأخي الأصغر غائب في دراسته بجامعة نائية ولا يحضر إلا كل عدة أسابيع، وأبي تجاوز الستين بسنوات وأحيل إلى التقاعد وأمي مثله، خفت حركتهما، وبدأت أعراض الشيخوخة تعرف طريقها إليهما وكثرت احتياجاتهما ولم يبق لهما إلا أنا، فأصبح اليوم عندي مشحونا لا يكفي إلا القليل من عشرات المهام، التي يجب أن أنجزها، فقد تخرجت في الجامعة وحافظت على تفوقي وعينت معيدة في كليتي وصرت حائرة بين الأطباء والأدوية بأبي وأمي، وإنهاء وإنجاز الأوراق الكثيرة التي يطلبها أخي المسافر، ونهارا في الكلية حيث الدراسة والتدريس في نفس الوقت، وفي الليل أضرب في بطون الكتب وأغوص في بحار الأبحاث والدراسات، فأمامي مهمة لا تحتمل التهاون ولا التقصير ولا تقبل التراخي أو الكسل، فكنت مثل النحلة لا أكف عن الحركة من أجل تحقيق هدفي والقيام بواجباتي تجاه أسرتي. تقدم بعض الشباب يطلبون يدي، ولم أشعر تجاه أي منهم بارتياح أو ميل عاطفي، وربما سخرت من فكرة الزواج نفسها، والأهم من هذا كله أنني وجدت في هذا تعطيلا وعرقلة لمسيرتي العلمية وإهمالا لواجبي نحو أبى وأمي، فهما يعتمدان عليّ تماما في كل الاحتياجات، فقد كنت رجل البيت وأتحمل كل أعباء الأسرة والإخوة الغائبين الذين لم ألمُهم على ذلك، فكل منهم مشغول بعمله وحياته. وأنهى أخي الأصغر دراسته وبدأ يتحمل مسؤولية أبي وأمي، فأتاح لي الفرصة للتركيز في دراساتي للحصول على درجة الماجستير، وجاءتني منحة دراسية في أوروبا لمدة خمس سنوات، وهي بالطبع فرصة، وقررت أن أغتنمها وحزمت حقائبي، كنت مختلفة عن زملائي وزميلاتي، فلست خائفة من القادم؛ لأنني تعودت تحمل المهام الجسام وتحملت تبعات أسرتي الكبيرة، فلا أخشى إدارة شؤوني الشخصية، ورحلت لا أفكر في شيء غير الحصول على الدرجة العلمية بتفوق في تخصص نادر وجديد، ولم يعكر صفو حياتي خلال تلك السنوات الخمس غير فقدان أبى وأمي اللذين رحلا واحدا تلو الآخر، دون أن أعيش معهما اللحظات الأخيرة، وكان ذلك يحز في نفسي كثيرا ويؤلمني. وتكللت جهودي بالنجاح واستفدت كثيرا من حياتي الماضية وعرفت كيف أنظم وقتي وأستثمره، حتى تفوقت على جميع الدارسين من جنسيات مختلفة، وذلك كان عزائي الوحيد، فرغم جرأتي وقوة شخصيتي، فإنه لا مكان لي غير الجامعة والمكتبة والبيت، حتى أن الغربة كانت ثقيلة صعبة وحصلت على الماجستير بدرجة ممتاز، وعدت إلى موقعي مرة أخرى في استراحة محارب، فلم أصل إلى محطة النهاية بعد، بل مقبلة على مرحلة جديدة ربما أكثر صعوبة، فما كان ذلك كله إلا تمهيدا للدخول في الأصعب وهي الدكتوراة. لقد تخطيت الثلاثين بسنوات ووجدت تلميحات وإيحاءات من بعض من حولي من زملاء الجامعة أو من أقاربنا يحاولون التقرب على استحياء لجس النبض إن كنت أقبل أيا منهم زوجا ووجدت أن الأوضاع لا تقبل القسمة على اثنين، فإما الدراسة العالية والتفوق وإما بيت وأطفال ورجل يتحكم في تحركاتي وتصرفاتي ويلقي علي الأوامر والنواهي، وقد يصل به الحد لأن يمنعني من العمل في الجامعة والحصول على الدكتوراة ويضيع حلمي المشروع وقد عايشت الكثير من المشكلات مع من حولي. اتخذت قراري بلا تردد ولا رجعة وأقمت في مسكن أسرتي القديم استعيد الذكريات وقد خصصت فيه مكانا للدراسة والبحث، ولاهم لي غير تحقيق الهدف والحصول على أعلى درجة علمية وخلال سنوات حصلت على الدكتوراة بتقدير ممتاز أيضا وأقامت لي الجامعة احتفالا لم أشهده من قبل وأصبحت مدرسة في الكلية يشار إليها بالبنان، لكن طموحاتي بدأت ولم تنته، فهناك ضرورة ملحة للحصول على درجة الأستاذية، وهذا يتطلب أبحاثا متميزة وكما اعتدت في حياتي كلها، فإنني أقبل التحدي وأحب المغامرة، فلم أغادر المكتبة ولم يعد الوقت يكفي لذلك، ولم أشعر لحظة بالملل لأنني مشغولة باستمرار. لقد تخطيت الخمسين بأيام وكانت مناسبة عيد ميلادي الخمسين صدمة في حياتي، وافقت فجأة لأجد نفسي في هذه السن وقد مرت كل هذه السنين ومازلت وحيدة، بعدما استقل أخي الأصغر بحياته وأسرته، حيث تزوج وأنجب وكانت الوقفة مع النفس مؤلمة، فقد أصبح عمري مسروقا وضائعا، وكان يجب أن أكون في هذا الوقت أما لأبناء في الجامعة، ولكن الاسترجال الذي عشته بدأت أدفع ثمنه. وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما تقدم لي زميل أستاذ بالجامعة اقترب من الستين، توفيت زوجته، طلب يدي وكان الأول الذي يطلب ذلك صراحة، فكيف يكون عريسا في الستين؟ وأصبحت أعيش الحيرة القاسية ولا يعرف أحد بمعاناتي ولا أستطيع أن أخبر أحدا ولا يمكنني أن أكابر مرة أخرى، فأنا فعلا أشعر بالنقص رغم كل درجاتي العلمية.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©