الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«ألبرت نوبس».. الذات الأنثوية تحضر من غيابها في لحظة موت

«ألبرت نوبس».. الذات الأنثوية تحضر من غيابها في لحظة موت
21 أكتوبر 2011 10:38
ما ألبرت نوبس؟ ما هو هذا الفيلم الأميركي/ الايرلندي الذي يحمل توقيع رودريجو غارسيا، نجل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وتمثيل الممثلة المسرحية السينمائية والمغنية غلين كلوز والممثلة البريطانية جانيت ماكتير وسواهما من الممثلين والممثلات؟ باختصار، هو فيلم صعب عن حياة شديدة القسوة وشخصيات مركّبة تعيش أوضاعا صعبة كأنما هي ذات طابع قدري من غير الممكن لها تجاوزه أو كسر شرطه الخاص. الفيلم، الذي عرض مساء أول أمس في سينما فوكس في مارينا مول ضمن عروض السينما العالمية، ولجهة حكايته فإنه مأخوذ عن قصة قصيرة للروائي الانجليزي جورج مور، ويتناول إيرلندا أواخر القرن التاسع عشر، حيث لم يكن بوسع النساء أن يعشن حياتهن كما ينبغي أن تعيشها امرأة لا تنتمي إلى طبقة مرفهة وعليها أن تعمل من أجل لقمة عيشها، هكذا فحسب هو فيلم بعاطفة متقدة عن أوضاع النساء عموما. ولعل أول ما يلفت الانتباه في “ألبرت نوبس” هو التصوير ودرجة الإضاءة والموسيقى، إذ تقوم معا بدور يحفز التوتر الدرامي مثلما نسهم في خلق عالم من الأجواء النفسية، تحديدا عندما تكون الإضاءة خافتة والموسيقى تتكرر جملتها الموسيقية الكلاسيكية الهادئة وفقا لإيقاع بطيء أو حتى رتيب ترافقها لقطات متعاقبة قريبة متعاقبة من أوضاع مختلفة تتبدى على وجوه الشخصيات الأنثوية لتنتقل بالتالي إلى “روح” المتفرج. غنى التمثيل غير أن التمثيل في حدّ ذاته من الممكن القول إنه عالم قائم بذاته، فالممثلة غلين كلوز، في دور ألبرت، قد أغنت الشخصية بإضافات عميقة من عندها؛ من روحها وأدواتها، وكذلك جانيت ماكتير في دور هيربرت بيج. “ألبرت نوبس” بهذا المعنى درس سينمائي حقيقي من أجل رفعة الفن وسموه، يكتمل غناه بذلك الإشباع الروحي الذي يوفره للمتفرج بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فكما لو أنه لم يُصنع فحسب بل جرى تطريزه غُرزة فأخرى على نحو ما تصنع الفلاحات أثوابهن. ولِـ”السيد ألبرت جونز” بحسب توقيع غلين كلوز بالفعل، وجه ناحل غير حليق وناعم ويبدو في اللقطات القريبة وجها ذكوريا مئة بالمئة من نوع خاص، غير أنه وجه أنثوي بالنسبة ذاتها أيضا، وجه يحمل تعبيرات مختلفة عن الإنسان بالمعنى المطلق وتشعر معه بأنك أمام شخص يعذبه شيء ما لست تدركه تماما مع بداية الفيلم لكنه ـ أي الفيلم ـ يضعك في مواجهته منذ لحظة البداية. إنما مع التقدم في السرد السينمائي للحدث الروائي للفيلم يشعر المشاهِد أنّ هذا الدور “ألبرت نوبس” لم يكن بمقدور أحد أن يؤديه سوى هذا الممثل بمواصفاته الشخصية والتكوينية الخاصة من فرط ما استغرق في الشخصية واستغرقت الشخصية فيه. وعبر شخصية نوبس والخادمات الأخريات يأخذ الفيلم المُشاهد لبعض الوقت إلى تلك المطارح التي خرجت منها النساء اللواتي يطلبن العيش لعائلاتهن. دبلن آنذاك بأسافلها وقيعانها، بأشرارها وطيبيها، مثلما برقّتها وعنفها أيضا، الأمر الذي يجعل المشاهِد يشعر بأن هناك أساسا حقيقيا للشخصيات الرئيسية ولم تأتِ من نبْتِ الفراغ. فيما بعد، وفي إثر لحظة انكشاف ينجذب فيها “ألبرت نوبس” إلى الرجل الذي يمتهن الطلاء، هيربرت بيج، في أحد فنادق دبلن الفخمة آنذاك وتقوم بأداء دوره جانيت ماكتير نكتشف أننا بإزاء امرأتين تنكرتا في زيّ ذكوري. البرت نوبس يبدو مفرطا بأناقته خادما في الفندق، وهادئ الطبع إنه ميّال إلى العزلة والانطواء، وربما يبدو مضحكا في اللقطات المأخوذة ضمن كادر من بعيد إذ تبدو أناقته شبيهة بأناقة شارلي شابلن وبالكيفية التي كان يمسك بها بمظلته. اما هيربرت بيج فهو العامل الخشن الذي يقوم بمهام صعبة، ويبدو حادّ المزاج كثير التدخين ومن الصعب أن ينصاع أو يتم ترويضه، باختصار، إنه يحمل فجاجة السلوك “البروليتاري” المتطفل على تقاليد الطبقة البرجوازية وأسلوبها في الأناقة، بعبارة تلك الأزمنة المأخوذ منها الفيلم، مع ذلك فله جاذبية خاصة تجاه النساء، خاصة انه طويل ويبدو بقوة حصان. ينجذب ألبرت نوبس، بحس أنثوي طبيعي نحو ذلك العامل الفج، فتكتشف المرأتان معا أنهما تنتميان إلى جنس النساء، وان هذا العذاب الذي يحيينه بعيدا عن أنوثتهن قد أوشك على التهام أرواحهن. مكاشفة قاسية ربما يكون مشهد تلك المكاشفة واحدا من أقسى مشاهد الفيلم إن لم يكن أقساها على الإطلاق، هو الذي لا يحتمل من فرط شفافيته وصدقه الفني والإنساني معا. هنا يدور المشهد في غرفة هيربرت بيج، التي تصبح، بمعنى أو بآخر، خشبة مسرح تدور عليها أحداث خاصة بها يمكن التعامل معها بوصفها المشهد المسرحي، خاصة مع الأداء والإضاءة وعناصر السينوجرافيا الأخرى، فيمارس هيربرت بيج على ألبرت نوبس نوعا من الاضطهاد المركب ويدور حوار عميق، بسيط ومنفعل أحيانا كأنما هو يرتد إلى “ذات” كل من الشخصيتين النسائيتين، وكان لكل واحدة منهما بالفعل فيها من المذكّر بقَدْر ما أنها أنثى ففيما الغلبة للذكر على الأنثى في شخصية بيج كانت شخصية ألبرت نوبس “مهزوم/ ـة” بالمقاييس كلّها. يربط هذا الحدث في سياق الفيلم المرأتان بصداقة حميمة رغم اختلاف الطبائع. أما المشهد الآخر فهو الذي ترتدي فيه المرأتان أزياء النساء، أو اللحظة التي تعودان فيها إلى طبيعتهما الحقيقية. مع ذلك هيربرت بيج يمشي كرجل أما ألبرت نوبس فتبدو كفلاحة في سوق مديني وقد هزمها الخجل، إلا انها تسترد هويتها حقيقة أما البحر فتركض وتركض فاتحة ذراعيها حتى تسقط وقد تعثرت بفستانها. ربما لا يبدو الوضع الاقتصادي لإيرلندا أواخر القرن التاسع عشر، وفي الأوساط المسيحية المحافظة في مجتمع دبلن، أن يفسّر تماما الحكاية كلها كما حدثت، ذلك ان التمثيل والإخراج يتعمق بها أكثر إلى حدّ أنه يضع النفس البشرية ذاتها في مواجهة مكوناتها معا، السيكولوجية والفيزيقية وطبائع الشخص بمفرده، لتخلق من ذلك نسيجا خاصا تنكشف عبره هذه الأبعاد من خلال مقولات أو جمل ملفوظة أو حركية من قِبَل الممثلين. وثمة ملاحظة هنا، على مستوى بناء الفيلم روائيا قد تشي بشيء ما، وهو انه ما من طفل على الإطلاق يظهر خلال الأحداث، أي ما من فكرة ذاهبة باتجاه المستقبل ومن الممكن ان تحمل أملا أو نبوءة به. في آخر الفيلم يظهر الطفل، لكنه ابن خادمة، تؤدي دورها الممثلة ميا واسكوفسكا، ثمرة علاقة حبّ من دون زواج. لكنه بالنسبة لهيربرت بيج الذي يراه بعد رحيل موت ألبرت نوبس أشبه ببوابة عريضة لأمل تشوبه مسحة من الحزن. “ألبرت نوبس”.. فيلم صعب ومدوّر من كل جهاته، ما يجعل من الصعب حتى الكتابة عنه.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©