الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صدقوا نعمة المحبة

صدقوا نعمة المحبة
14 أكتوبر 2015 18:00
اختيار وتقديم: عبير زيتون الكونت ليو نيكولاي?يتش تولستوي (9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) من عمالقة الرواية، ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. روائي ومفكر وفيلسوف، ورجل إحسان. كتب الرواية والقصة والبحوث الفلسفية، خلق لنفسه مذهباً نشره في أخريات حياته تجلى في بحثه اليائس في الإجابة عن السؤال الذي لطالما أرقه وهو: (لماذا نعيش؟) و(لماذا لا نعيش)؟ أشهر أعماله، رواية «الحرب والسلام» (1869م)، وهي أقل أعمال تولستوي تعبيراً عن الصراع الذي لطالما قام في داخله بين حيويته الخاصة، وأسئلته الوجودية القلقة، مثل ذلك الصراع نجده في أعمال أخرى لتولستوي لاتقل شهرة عن سواها مثل «آنا كارينيا»، و»سوناتا كرويتزر»، و»اعترافاتي»، و»مملكة الله في داخلك»، و»رواية البعث» وغيرها. كفيلسوف أخلاقي اعتنق الأفكار النابذة للعنف، وتعمق في القراءات الدينية، وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، التي لم تقبل آراءه، ونبذته وكفرته، ومنعت كتبه في عام 1901، أي قبل وفاته (العام 1910) بتسع سنوات. عاش حياة المزارعين البسطاء، تاركاً عائلته الثرية المترفة، أصيب في عام 1880 بأزمة روحية كبيرة، جعلته يستنتج أن مبرر العيش الوحيد هو أن نعيش مثل الناس البسطاء، وأن نؤمن بالله خارج إطار الكنيسة، وأن نحب إخواننا في البشرية ونشجب العنف، وأن نرفض الحضارة الحديثة بصناعتها وكذلك سلطة الدولة. * كنت أظنُّ أنَّي سوف أموت يوم كتبت هذا، ولكني لم أمت، إلاَّ أنَّ قناعتي بما قلتُ هنا تبقى ذاتها، وأعلم أنها لن تتغيَّر حتى مماتي. * من نحن، ما نحن؟ إننا مجرَّد كائنات تافهة وضعيفة، قابلة للفناء في أية لحظة، انبثقت لبرهة من العدم إلى حياةٍ رائعة مفرحة، بسمائها وشمسها وغاباتها ومروجها وأنهارها وطيورها وحيواناتها، مع غبطة محبة الأقربين ومحبة أنفسنا، محبة الخير ومحبة كل ما هو حي... * أيها الإخوة الأعزاء! ثوبوا إلى رشدكم، انظروا من حولكم، فكِّروا في ضعفكم، في سرعة فنائكم، في قِصر وعدم تحديد الحياة التي بين أبديتين، أو بالحري بين سرمديتين، والتي لا تعرف خيرا أسمى من المحبة؛ فكَّروا كيف أنَّ من الجنون ألاَّ تفعلوا ما من طبيعتكم أن تفعلوا، وأن تفعلوا ما تفعلونه الآن. * أيها الإخوة الأعزاء! استيقظوا، تحرروا من عطالة الضلالة المرعبة (ضلالة أنَّ الصراع الوحشي يمكنه أن يكون ملائماً للإنسان، وأنه ليس مميتًا له)؛ وستعرفون فرح وخير وقدسية الحياة. * إنكم تتصوَّرون، بسبب جهلكم اللاشعوري الذي يعزِّزه الرأي العام، أنَّ كل ما تفعلونه إنما هو شرط محتوم لحياة البشر في زماننا، وأنكم لا تستطيعون إلاَّ أن تفعلوا ما يفعله الآخرون، ولكن، الأفضل أن تفكِّروا على النحو الذي يوافق مطالب نفوسكم في المحبة، ويحقق لكم وللآخرين السعادة. * فليضحِّ المناضل في سبيل «الحرية» أو «الاستقرار» بواحد بالمئة فقط من الجهود والتضحيات التي يبذلها في النضال في سبيل أهدافه من أجل مضاعفة المحبة في نفسه ولدى الآخرين، وسوف يرى ثمار عمله المُحبِّ، لا في ذاته فقط، بل وفي الآثار التي لا بدَّ أن يُخلِّفها هذا العمل على الآخرين. * أطلب منكم شيئاً واحداً، أيها الإخوة الأعزاء: شكِّكوا في أنَّ الحياة التي نعيشها هي الحياة الواجبة (هذه الحياة تشويهٌ للحياة)، وصدِّقوا أنَّ المحبة هي مغزى وجوهر وخير حياتنا الكامن في كلِّ القلوب، ومن الواجب إشباع هذا الشعور المشروع، وهو يرضى بسهولة: فقط ألا يعتبر البشر ما هو تشويهًا للحياة حياةً، كما يفعلون الآن. * الحياة البشرية لا تسير كما ينبغي لها، والناس يعذِّبون أنفسهم والآخرين. كلُّ إنسان يعرف أنه من أجل خيره، وخير الناس جميعًا، يجب محبة القريب لا أقل من حبِّ النفس، وأنكَ، إن كنتَ لا تستطيع أن تقدِّم له ما تريد لنفسك، فلا تفعل به ما لا تريد لنفسك. وتعاليم أديان الأمم كافة، وكذلك العقل والوجدان، تقول ذلك للإنسان. * موتُ الجسد واقفٌ لنا بالمرصاد ليذكِّرنا بأنه لم يُعْطَ لنا أن نذوق ثمرة أيٍّ من أفعالنا وبأن الموت قد يقطع سيرورة حياتنا في أية لحظة. لهذا السبب فإن ما يمكننا القيام به، وما يمكنه أن يمنحنا السعادة والطمأنينة، إنما هو القيام، في كلِّ لحظة، بما يسمو بعقلنا وبوجداننا، وإذا لم نكن قادرين أن نقدِّم للقريب ما نرغب فيه، فعلينا، على الأقل، ألا نفعل به ما لا نريد لأنفسنا. * المحبة شرطٌ ضروري وصالح للحياة الإنسانية؛ واعترفت بها كافة التعاليم الدينية القديمة. اعتُرف بالمودَّة والعطف والرحمة والإحسان، والمحبة عمومًا، كفضائل رئيسية. والاعتراف الأسمى بين هذه التعاليم بلغ درجة أنَّ محبة الكلِّ، بما في ذلك مجازاة الشرِّ بالخير، امتُدحت، وخاصةً في مواعظ الطاويين والبوذيين. لكن أيًّا من هذه التعاليم لم تجعل من هذه الفضائل أساسًا للحياة، وقانونًا أعلى يجب ألا يكون رئيسيًا فحسب بل والمرشد الوحيد لأفعال البشر. * أجل! فقط في تحقيق قانون المحبة في الحياة، ليس بمعناه المقيَّد بل بمعناه الحقيقي الذي لا يجيز أية استثناءات، فقط في هذا يكمن الخلاص من ذلك الوضع المرعب الذي يزداد بؤسًا أكثر فأكثر، والذي يبدو بلا مخرج، والذي تعيشه شعوب العالم في الوقت الراهن. * يمكن للعيش المشترك أن يتحسَّن فقط عن طريق تفاني الناس. يُقال: «عصفور واحد لا يصنع ربيعًا»، ولكن هل يُعقل، بسبب أنَّ عصفورًا واحدًا لا يصنع ربيعًا، أن لا يطير العصفور الذي يشعر بقدوم الربيع، وأن ينتظر؟ إذا ما تمَّ انتظار كل برعم وعشبة على هذا النحو فلن يحلَّ الربيع أبداً. * يتوهَّم البشر أنَّ أوضاعهم سوف تتحسن بنتيجة تغيير الأنماط الخارجية للحياة، لكن تغيير الأنماط الخارجية يكون دومًا مجرَّد نتيجة لتغيُّر الوعي، وتتحسَّن الحياة بمقدار ما يكون هذا التغيُّر قائمًا على تغيُّر الوعي. * إنَّ خلاص البشر من ذلِّهم وعبوديتهم وجهلهم لا يتمُّ عبر الثورات، ولا عبر اتحادات العمال أو مؤتمرات السلام، وإنما يتمُّ عبر أبسط السُّبل، وذلك بأنَّ يقوم كل إنسان يتمُّ استدعاؤه للمشاركة في العنف ضد إخوانه، مُدركًا في ذاته «أناه» الروحية الحقيقية، بأن يتساءل في حيرة: ولماذا قد أفعل ذلك؟ * افهموا هذا بشكل خاص أنتم الشباب، جيل المستقبل. لا تفعلوا ما يفعله معظمنا الآن، وتوقَّفوا عن البحث عن السعادة المتخيَّلة في المناصب، والوظائف وابحثوا عن الشيء الوحيد الذي يحتاج إليه كل الناس دائماً، والذي هو في متناول الجميع، ويمنح الخير الأكبر للمرء ذاته، ويخدم مصلحة قريبه الإنسان. * ابحثوا في أنفسكم عن شيء واحد: زيادة المحبة عن طريق الخلاص من كل ما يلي: الأخطاء والخطايا والشهوات، التي تعيق تجلِّي المحبة، وسوف تساعدون على خير البشر بأكثر السُّبل فعَّاليةً. * افهموا هذا ياجيل المستقبل أن تطبيق قانون المحبة السامي الذي نعرفه، في زماننا، والذي ينبذ العنف، حتمي بالنسبة لنا بقدر حتمية الطيران وبناء الأعشاش بالنسبة للطيور، وبقدر حتمية أكل اللحوم للحيوانات المفترسة، وأي تراجع عن هذا القانون من قِبلنا مميتٌ للانسانية. * أيًّا كنت: ملكاً أم قاضياً أم ملاَّكاً أم حِرفياً أم مُعدَماً، فكِّر في هذا، ارحم نفسك، ارحم روحك... إذ مهما التبس عليك الأمر، وكنت مخدوعاً بمملكتك أو سلطتك أو ثروتك؛ ومهما كنت معذَّباً وحانقاً بسبب فقرك وعذابك؛ فأنت كذلك، مثلنا جميعاً، تتجلَّى فيك، روح الله الذي يقيم فينا كلنا، والذي يقول في زماننا، بوضوح وبشكل مفهوم: لماذا، ولأجل ماذا، تعذِّب نفسك وكلَّ الذين تخالطهم في هذا العالم؟ فقط افهم من أنت، وابدأ بعيش كلِّ لحظة من لحظات حياتك، لا لأجل غاياتٍ خارجية، وإنما لتحقيق الرسالة الحقيقية لحياتك، المكشوفة لك ولحكمة العالم كلها عبر المحبة. * إن استمرار الحياة، في وقتنا الراهن، على أسس ولَّى زمانُها، وتناقِض، بشدة، الحقيقة التي تشرَّبها الجميع، لم يعد ممكنًا. ولهذا، فعلينا، سواء شئنا أم أبينا، أن نضع قانون المحبة ضمن نظام حياتنا بدلاً من العنف. * أؤمن، بكل جوارحي، بأننا نعيش على أعتاب انقلاب عالمي عظيم في حياة الناس، وهذا يتوقف، فقط، على تحريرنا أنفسَنا من وهم حتمية العنف ـ الذي يزعجنا باستمرار ـ في الحياة الجماعية للبشر، وإدراك أن تلك المحبة الأبدية تعيش في وعي الناس منذ أمدٍ بعيد، ويجب، حتماً، أن تحلَّ مكان العنف الذي انقضى عهده، والذي لا حاجة إليه منذ زمن بعيد، والذي هو وَبَالٌ فحسب. * من كتاب ليو تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، دمشق، 2009.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©