الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سفتلانا آلكسيفيتش: كنا نجمـــــع العصافير بالمجرفة!

سفتلانا آلكسيفيتش: كنا نجمـــــع العصافير بالمجرفة!
15 أكتوبر 2015 00:15
في أوروبا هناك دول توقف الزمن فيها. في مينسك، عاصمة بيلاروسيا، الشوارع شبه الخالية مزينة بالإعلانات الرسمية عن الأسمدة أو المعادن المحلية. في السوق التجاري «أوسيون»، نجد علب الأسماك المحفوظة التي تنتجها شركات تنتمي إلى عصر الاتحاد السوفييتي. وفي «محل الدولة العالمي»، تصطف زجاجات الشامبانيا الشراب المسكر للغاية التي تلازم كل المآدب في زمن الاتحاد السوفييتي إلى جانب «الكونياك» الأرمني أو الفودكا الروسية.. منتجات تعظم الحنين الذي لا نجده أبداً على الأرفف الموسكوفية. أكثر من ذلك، في الميدان الستاليني الكبير المهدى إلى ذكرى الحرب العالمية الثانية، كتبت كلمات زاعقة بأحرف كبيرة: «استغلال الشعب أبدي». بعيداً نوعاً ما، قرب البرلمان المغطى بندف الثلج، شاحنة تذكر المعارضين الافتراضيين بأن السلطة دوماً جاهزة للاستلام. بالابتعاد عن وسط المدينة، أصل إلى حي متطرف نوعاً ما، يطل على البحيرة. من اللازم أن أجد المدخل الصحيح حتى أتمكن من الدخول إلى البناية التي تسكنها الكاتبة البيلاروسية الشهيرة سفتلانا آلكسيفيتش، التي استقبلتني في غرفة قرمزية مزدانة بالخشب المجدول. حتى وإن قالت بأنها تشعر بكونها في أمان، تفصح لي عن جيرانها المساجين، وأن هناك من يفتح رسائلها وأن كافة اتصالاتها الهاتفية تحت المراقبة. بلغت مينسك على أمل اختراق الخفايا التي تدفع سفتلانا إلى وصفها في نتاجها الذي تم تعيينه بكونه ينتمي إلى ما يسمى «روايات الصوت»، السيمفونيات التي تمزج الشهادات الرهيبة والحميمية المصورة لتراجيديا العصر السوفييتي: القمع الستاليني. الحرب العالمية الثانية، حرب أفغانستان، كارثة شيرنوبيل، الصراعات ما بعد المرحلة السوفييتية... رغماً عن المعاناة الكبيرة، لماذا لم تزل النوستالجيا نحو الشيوعية قائمة؟ لماذا يتشابك الخير والشر في التاريخ الواقعي؟ بينما أوكرانيا، الجارة، في حالة حرب، نرجع طويلاً إلى هذا الماضي الذي يعتبر أفقنا، ونحن نتناول الشاي والحلوى البيلاروسية. * ما الذي تتذكرينه كثيراً من مرحلة طفولتك؟ ** كنا نحيا في الريف حيث كان والدي يعمل مديراً لمدرسة وأمي معلمة وأمينة مكتبة. كانا يمضيان وقتهما في العمل ولا أراهما كثيراً. فتحت جدتي عيني على العالم. كل صيف، نرحل لرؤيتها في أوكرانيا. بيلاروسيا بلد فقير. الفقر سائد، ولكن البيوت جميلة والطبيعة معطرة. المقالي تسخن على القش وتفوح منها روائح عطرة. كنا نعد خبزنا بأنفسنا... ومع ذلك، في قلب هذه الطبيعة الغنية، كنا نلاقي مصابي الحرب، المقعدين الذين يتحركون على ألواح خشبية ذات عجلات. في السوق، يطلبون الصدقة. في القطارات، يتجمعون لكي يغنوا أغاني الجبهة. لوحة غريبة. وفي الأساس، يتبادل الفلاحون الأحاديث بصورة رائعة. كانت جدتي تقص عليّ كيف تزوجها جدي. بيد أنها كلمتني أيضاً عن «الهولودومور»، تلك المجاعة التي أمر ستالين بها في عام 1933 وأدت إلى وفاة ملايين الأشخاص. عاشتها جدتي وحكت لي أشياء فظيعة. مضينا أمام بيت الجيران. خرجت عجوز منه. وهنا بدأت جدتي تتكلم بصوت خفيض، فسألناها عن السبب، فقالت لأن هذه المرأة أكلت أطفالها خلال المجاعة. ذكريات الجوع * بيلاروسيا، أرض عانت كثيراً خلال الحرب العالمية الثانية، هل كان الناس يتكلمون عن هذا الشأن؟ ** نعم! وفي الريف أكثر من المدينة، حيث كان الناس حذرين. وقت التعميد أو الزواج، يبدأ العجائز في الكلام عن الحرب. وبما أنه لم يعد هناك الكثير من الرجال، فلا كلام عن الجبهة. ولكن، وكانت النساء على وجه الخصوص تستدعي حرب الأنصار ضد النازيين. ومع ذلك كانت هذه الحرب ضارية. كان الأنصار السوفييت جوعى ومنهكين يختفون في الغابات. فجأة، يتجهون إلى قرية ويأخذون آخر بقرة يملكها فلاح. تلك هي الحكاية الأكثر قسوة وقوة. لم أنسها. تخيل: البالغون على طاولة. نحن، الأطفال، نركض حولهم. أحيانا، ينهروننا ويطالبوننا بالخروج. ولكن دوما أحاول التنصت... (حكاية) عن هذه المرأة التي تختفي في المستنقعات، مع أطفالها، هاربة من النازيين. لا تستطيع إطعامهم كلهم. اقتربوا من الإمساك بها. أغرقت اثنين منهم. * ما الذي يتبقى لك من هذه الذكريات؟ - شيء من الريبة إزاء الكلمة المطبوعة. ما ذكره هؤلاء الناس أكثر رعباً مما نقرأه في الكتب والمقالات التي تتكلم عن انتصار «النحن» على «الآخرين». الحرب، في الأدب، جميلة جداً. لها معنى: يجب دفع العدو للوراء. ولكن ما ترويه الفلاحات محروم من المعنى. يروين القسوة الإنسانية، مثلاً، عن الطريقة التي وصلت بها جماعة من الأنصار إلى قرية معينة وقتلت كل أفراد عائلة أحد «البوليتساي» (كلمة ألمانية تعني شرطة، بيد أنها تشير إلى أعضاء الشرطة المدنيين العاملين مع «الفافن اس اس»، وحدة الحماية الوقائية النازية، في الدول التي تم احتلالها)، الأطفال والأجداد، وحرقت مزرعتهم. فضلاً عن ذلك، عصرذاك، هناك موضوعات محرمة: لم يذكر الإعلام السوفييتي والكتب الطريقة التي تعامل الألمان بها مع اليهود. لقد تم محو الثقافة اليهودية من الثقافة البيلاروسية، وتلك خسارة كبيرة. تروي الفلاحات ما جرى. في القرى، من الممكن وجود خياطين، صانع أحذية، وتجار يهود. في ليلة، قبضوا عليهم ولم يرهم أحد بعد ذاك. كانت هناك حكايات رهيبة عنهم. كنت ريفية * هل منعتك هذه الحكايات من الاعتقاد بالشيوعية؟ ** ليس تماماً. لم أولد منشقة. مثل كل التلاميذ السوفييت، أقرأ الأدب المسموح، الذي يحتوي على حجم كبير من حكايات الحرب المليئة بالانتصار والبطولة. خضعت لضغط أيديولوجي مزدوج، من المدرسة والوالدين. لم يكن من الضروري عدم الاعتقاد بالشيوعية في هذه الظروف. انتميت من دون مشكلة إلى الشبيبة الشيوعية. ولكنني طرحت بالمثل أسئلة مخالفة على معلميّ. ولمعاقبتي، منعنوني من الاستفادة بجائزة حصلت عليها وتسمح لي بزيارة كل «أماكن لينين» في أوروبا. لم أكن معارضة، ولكنني كنت أفكر بطريقة أخرى. حينما دخلت إلى الجامعة، كلية الصحافة، شغفت كثيراً بالفلسفة. حاولت قراءة ماركس، ولكنه لم يثر إعجابي وأهملته. فضلت جرامشي الذي يمثل الطبعة الإيطالية للاشتراكية. وبفضل طلاب «الدول الشقيقة»، تمكنت من قراءة فرويد أو نيتشه. ومتأخراً، سافرت إلى الخارج، وبدأت أبتاع كتباً، وتحديداً أدب المعسكرات الستالينية. ولكن في السبعينيات، لم أكن أعرف شيئاً عن هذا كله، كنت ريفية ولم أذهب بعد إلى موسكو! * كيف نشأت فكرة كتابك الأول «الحرب لا تحمل وجه امرأة» (1983)؟ ** في نهاية دراستي، اخترت العمل في صحيفة محلية. وهكذا رحت أتناقش مع العجائز. في هذه الأثناء، قرأت كتب الكاتب البيلاروسي آلس آداموفيتش. كان يجوب وزملاؤه الريف بحثاً عمن بقوا أحياء من القرى التي حرقها النازيون خلال الحرب ويسجلونها. عند الاستماع إلى هذه الأصوات الكثيرة، شعرت من فوري بالشكل الأدبي الذي عليّ أن أتبناه. أيضاً، رحت بدوري أجمع الشهادات، طوال سبع سنوات. اخترت موضوعة الحكايات النسوية عن الحرب، لأنها أصوات النساء، مثل جدتي، التي بقيت في ذاكرتي. أدب الحرب * قلت إننا نشعر بكوننا سجناء الصور الذكورية عن الحرب... ** تأثرت كثيراً حينماً عرفت أن هذه النساء شعرت بالشفقة تجاه الألمان. في المدرسة، تعلمنا بأننا لا يجب أن نشعر بالشفقة تجاه الأعداء. ولكن الحرب، بالنسبة لهذه النساء، لم تكن مدونة في القوانين التي كتبها الرجال. كانت النساء تحدثني عن الأشجار المحروقة والعصافير المقتولة بعد القصف كما عن الضحايا من الناس. في أدب الحرب، المرأة موجودة لتزيين استغلال الجندي. بالسفر عبر البلاد والإنصات إلى السيدات العجائز، اكتشفت شيئاً آخر. أفضل النساء البسيطات. ترجع الشخصيات المتعلمة إلى المصطلحات والمفاهيم المستعارة من الكتب والصحف. لدى البسطاء، تولد المعرفة والحكمة من المعاناة، من الجهد الشخصي والموهبة. بعد ذاك، لاحظت نفس الشيء بعد كارثة شيرنوبيل. العلماء، المثقفون، الموظفون شردوا جميعاً ولم يعرفوا كيفية التفكير. بينما لدى البسطاء، لاحظت الهدوء والحكمة الكبيرين. * كيف تم استقبال الكتاب؟ ** بدأ النشر في البداية في المجلة الموسكوفية «أكتوبر»، في عام 1983. تم حذف بعض الأجزاء رقابياً. ولكن الرقابة الذاتية، رقابتي ورقابة المجلة، كانت أشد من (جهاز) الرقابة. حاز الكتاب استحساناً كبيراً. تم طبع مليوني نسخة. ظهر في عصر «الشفافية» لجورباتشوف، الذي كان بمثابة إعلان نهاية الاتحاد السوفييتي. كنا نبحث عن الحقيقة مرحلة معينة وبدأنا نشك في أن الرجل ليس بالهين، كما كانت البروباجندا تشيع عنه. أخذت أبحث عن فهم الحياة الإنسانية. فضح كذبة النظام الشيوعي أو البوتينية التي تعتبر ثانوية. لا تثير الأشياء اهتمامي بما أنها تتموضع على السطح الإيديولوجي، وتظل بالنسبة لي مزيفة. ولكن المحصلة تبدت في أن هذه الكتب دمرت نفس الأساطير، السوفييتية أو ما بعد السوفييتية. فيأفغانستان * كيف تمكنت من نشر «توابيت رصاصية»، ذلك الكتاب القاسي عن حرب أفغانستان (1979ـ 1989)؟ ** لم أكن أود كتابة كتاب آخر عن الحرب. هذا الموضوع أنهكني. غير أنني ذهبت لزيارة والدي في الريف. عرفوني بجندي قادم من هناك. أصبح مجنوناً. طريقته في الكلام، الصياح، أثرت علي. وهكذا، قررت على الفور كتابة هذا الكتاب. بدأت في جمع الشهادات. الاختلاف، أنني استطعت السفر إلى أفغانستان. لم يكن الحصول على ترخيص بالأمر السهل. أمضيت هناك ثلاثة أسابيع في نهاية الثمانينيات. لم تزل الحرب أكثر رعباً من الكتب. تبدى لي كل شيء مشوشاً: بطولة هؤلاء الصبية ـ ولكن باسم من؟ ـ هذا الموت الفظيع، الإدمان على الخمور الليلي... لا أتحدث عن التعذيب... ومع ذلك كان هؤلاء الصبية بعيدين عن أن يكونوا وحوشاً. كان الكثير منهم من أبناء معلمي وأطباء الريف، أبناء الانتلجنسيا الحضرية الذين شربهم آباؤهم الشعارات السوفييتية. عائلتي من ضمنهم. الجنود القادمون من المناطق الريفية سذج. كانوا يعتقدون بأنهم يشاركون في حرب جميلة من أجل مثاليات نبيلة. ولكن هناك من خانهم وغدر بهم منذ البداية. وصنع منهم قتلة. لتتخيل انحرافهم بعد ذاك! وقتذاك، فقدت إيماني بالاشتراكية. هذا الوصف، البعيد للغاية عن صورة الجندي السوفييتي، أفضى إلى مقاضاتي عند صدور الكتاب. ولكننا كنا في بداية التسعينيات، وكان من المستحيل منعه من التداول. * من كتاب إلى كتاب، هل واتتك فكرة وصف جدارية عن العصر السوفيتي؟ ** لا. ولكن هذا ما جرى مع حدوث كارثة شيرنوبيل، في عام 1986، التي أصابت بيلاروسيا بقوة مثل أوكرانيا. بمناسبة هذه الكارثة النووية، شعرت بأن الصرح السوفييتي على وشك الانهيار وأننا وصلنا إلى نهاية تاريخ هذه اليوتوبيا. من دون شك، كتابي «الابتهال» الأكثر أهمية. تطلب بذل الكثير من الجهد. أكثر صعوبة، لأنني تكبدت الكثير للامساك بالموضوع: كيف نسمي ما جرى هناك؟ وهكذا واصلت منهجي: جمعت الشهادات. ثم رسمت خطوطه العامة. فلسفة «الكل» انبثقت، وفهمت ما علي تحقيقه. مع شيرنوبيل، ولجنا عالماً ممنوعاً. فهمنا أن التقدم التكنولوجي يعرض طريقاً انتحارياً. يتعلق بحرب من نمط جديد: حرب لا يحارب الإنسان في ميدانها أخاه الإنسان فقط، وإنما يحارب كل ما هو حي عامة: النبات والحيوان، الأرض والسماء. في النطاق المشع، نجمع العصافير بالمجرفة. لا نحرق أوراق الشجر الميتة، المشعة، وإنما نطمرها. فضلاً عن ذلك، لا نعرف عما يجب الخوف منه. وكان الموت مؤجلًا، صامتاً. لا تشبه الطبيعة شيئاً معروفاً. يوم الحادث، رأيت سحابة سوداء ضخمة. في الأيام اللاحقة، أخذت المستنقعات ألواناً عجيبة. أصبحت سوداء، صفراء، خضراء، لامعة. في النطاق المشع، أشجار التنوب والصنوبر تحول لونها إلى الأحمر ثم إلى الأحمر القاني. في السماء، شيء من اللمعان، الألق. بالتأكيد، لم يتجهز أحد لذلك. لقد نشأنا في ظل الفكرة القائلة بأن المشروع النووي السوفييتي السلمي غير ضار. ونتيجة لذلك، للمقاومة، استعنا بالوسائل التي نعرفها: أرسلنا العسكريين المزودين بالبنادق. يا للعبث! «الإحياء» السوفييتي * «نهاية الرجل الأحمر»، نهاية سلسلة كتبك. يستدعي النوستالجيا القوية تجاه الاتحاد السوفييتي، بعد خمسة وعشرين عاماً من تفككه. مينسك، كنموذج سوفييتي كبير، مثال طيب... ** يرتكن الكتاب إلى «الإحياء» السوفييتي الذي يجتاز حالياً روسيا بوتين والكثير من الدول السوفيتية السابقة. بيلاروسيا حالة مختلفة: لم نرجع إلى الشيوعية لأننا لم تخرج منها بعد! بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أوقف الرئيس لوكاتشنكو الزمن. وحينما رأوا، في الدول السوفيتيية السابقة، أن الإصلاحات حملت عدم الأمن ولم تفض إلى أي نتيجة فورية، قبل الناس بكل سرور بالسوفييتية. خاف البيلاروسيون من التغييرات. في الأساس، كان انهيار الاتحاد السوفييتي لدى غالبية الناس مأساة. مثلًا، فقد والدي صوابه. كان مؤمناً بالشيوعية. وكان يرى ضرورة تنظيف هذا الصرح، ولكن ليس إسقاطه. ووجهة النظر تلك لا تتعلق بإنسان فاسد، وإنما بإنسان صادق وجاد. الشهادات في «نهاية الرجل الأحمر» تغوص في هذا الشأن. يتحسر الكثيرون على تعظيم التضحية التي بلورت المجتمع. كانت النقود محتقرة. الإيثار قيمة. السيء، ليس فقط في أن الناس يريدون العودة إلى الوراء، وإنما أيضاً أولادهم. اليوم، بين الشباب، هناك الكثير من الشيوعيين. ولا أعتقد في إمكانية تحريرهم بسهولة من الشيوعية. * حينما سئل المنشق البولوني آدم ميشنيك عن السيء في الشيوعية، أجاب: «ما سوف يأتي لاحقاً»... ** تلك جملة واضحة للغاية. بعد الشيوعية، لم يبق سوى المشرد الذي لا يعرف كيفية العيش. القادة الذين حكموا روسيا بعد نهاية الاتحاد السوفييتي سلبوا البلاد وجعلوا الشعب حانقاً. نتيجة لذلك، أصبح المفهومان «ليبرالي» و«ديمقراطي» كلمتين كبيرتين. وهكذا قرر الناس إعادة بداية التجربة. هنا، التاريخ تراجيدي: طوال الثلاثين أو الأربعين عاماً، جرى شيء فظيع. ولكن الناس اعتادوا على العيش في ظل هذه الظروف. لم يعيشوا شيئاً آخر. لم يكونوا يوماً ما أحراراً. يعرفون أنه يمكن أخذ كل شيء منهم في أي لحظة. علاوة على ذلك، جذور هذا الشعور أعمق من الشيوعية. وهذا يرجع على الأقل إلى عصر إيفان الرهيب. في هذه الأرض الآسيوية، الثقافة المسيحية المتعلقة بالتضحية ارتبطت بالتقديس الشيوعي للموت. بالنسبة لبيلاروسيا، ما جرى رهيب. في ديسمبر 2010، خرج البعض يتظاهر ضد انتخاب لوكاشينكو. ألقت الشرطة القبض على ستمائة وتسعة وثلاثين شخصاً منهم. وهكذا، لم يكترث أحد لما جرى. الناس مشغولون دوماً بالبحث عن عمل، كسب المال، وجاهزون لإغلاق العينين عن الباقي. في الواقع، هناك عقد ضمني مع الحاكم: لدينا عمل، نستطيع السفر فإلى دول شينجن، وبالتبادل، نتركك حراً. وهكذا، بعد الشيوعية، لم يكن الناس قادرين على الإجابة بأنفسهم. الشجعان قلائل هنا. بالتالي لا يمكنهم الكلام صراحة عن الرعب، وإنما عن الخوف الدائم. بالنسبة للوكاشينكو، أنه حر، لأنه يفكر في ضبط وضع المجتمع. ولكن إذا شعر بفقدانه للضبط، لن يوقفه أحد لكي يظل في السلطة. يغلق البلاد ويحولها إلى كوريا الشمالية. إذا اجتمع مائة ألف شخص، لن يتردد عن إسالة الدماء. تاريخ النفوس * ما هي الحقيقة التي تعملين على إدراكها بطريقتك الخاصة للغاية في الكتابة؟ ** لا أبحث عن إنتاج وثيقة، وإنما عن رسم لوحة العصر. ولهذا أعكف من سبع إلى ثماني سنوات في كتابة كل كتاب. أسجل مئات الشخصيات. أرجع لرؤية الأشخاص أكثر من مرة. في الحقيقة، من اللازم بداية تحريرهم من التفاهة القابعة في داخلهم. في البداية، يرددون كل ما قرأوه في الصحف والكتب. ولكن، تدريجياً، يتجهون إلى أعماق ذاتهم وينطقون جملاً مستعارة من التجربة الحية والفريدة. في النهاية، لا أحتفظ من كل خمسين أو ستين صفحة إلا بنصف صفحة أو أقل. بالتأكيد، أغربل قليلاً ما قالوه لي، أحذف التكرار. ولا أؤسلب أبداً، وأعمل على المحافظة على اللغة التي يستعملونها. وإذا شعرت بأنهم يتكلمون جيداً، فهذا لأنني أترصد اللحظة التي سوف يذكرون فيها الموت أو الحب. وهكذا ينتبه ذهنهم، وينشطون. والمحصلة دوماً رائعة. قبل أن تحصل على جائزة نوبل للآداب هذا العام 2015، حازت قبل عامين على جائزة ميديسيس الفرنسية المرموقة عن كتابها «نهاية الرجل الأحمر». منحت سفتلانا آلكسيفيتش صوتاً لهؤلاء الذين ـ بدءاً من الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة بوتين مروراً بحادثة شيرنوبيل ـ وسمتهم علامة السلطة السوفييتية. سأشتري الحرية بحسب بيان الأكاديمية السويدية، فإن فوز الكاتبة والصحفية البيلاروسية سفتلانا آلكسيفيتش، كان بسبب كتاباتها المتعددة الأصوات التي تمثل معلماً للمعاناة والشجاعة في الزمن الراهن. وتعد آلكسيفيتش أول صحفية تفوز بالجائزة، ومن أشهر أعمالها: أصوات من تشيرنوبل، تاريخ شفاهي للكارثة النووية في عام 1986، و«أولاد في الزنك». وتظهر تيمة الموت في معظم أعمالها، لكنه «الموت الذي يلهم المرء الحياة»، كما كتب أحد النقاد الروس. وتتضمن أعمال ألكسيفيتش تصويراً لحياة النساء السوفييتيات خلال الحرب العالمية الثانية إلى جانب تداعيات كارثة تشرنوبيل النووية عام 1986 والحرب الروسية في أفغانستان من منظور مواطنين عاديين. وقالت الأكاديمية السويدية لدى إعلانها عن فوز ألكسيفيتش بالجائزة: «تعمق ألكسيفيتش بأسلوبها الاستثنائي - الذي يقوم على تداخل دقيق بين صوت البشر - فهمنا لعصر كامل». وقالت أليكسيفتيش، إن الجائزة ستمكنها من التفرغ لمشروعي كتابة جديدين. وقالت للتلفزيون السويدي «بالنسبة للنقود سأشتري شيئاً واحداً، سأشتري الحرية. أستغرق وقتاً طويلاً للغاية لكتابة كتبي. من خمس إلى عشر سنوات». وتابعت قولها «لدي فكرتان جديدتان لكتابين جديدين، لذا أنا سعيدة الآن لأنني سأتمكن من العمل عليهما». وقالت سارة دانيوس الأمينة الدائمة للأكاديمية السويدية «ابتكرت نوعاً أدبياً جديداً، تجاوزت القوالب الصحفية، ومضت قدما في نوع ساعد آخرون في ابتداعه». النوبليون تعتبر سفيتلانا ألكسيفيتش، وهي من مواليد 1948م، في الرتبة 14 في تسلسل النساء الحائزات جائزة نوبل للآداب في تاريخ الجائزة. علما أن الحاصلين على الجائزة في العشر سنوات الأخيرة، هم: 2005، هارولد بنتر، المملكة المتحدة 2006، أورهان باموق، تركيا 2007، دوريس ليسينغ، المملكة المتحدة 2008، جان ماري غوستاف لو كليزيو، فرنسا 2009، هيرتا مولر، ألمانيا 2010، ماريو بارغاس يوسا، بيرو 2011، توماس ترانسترومر، السويد 2012، مو يان، الصين 2013، آليس مونرو، كندا 2014، باتريك موديانو، فرنسا يذكر أن الجائزة في الأعوام التالية: 1914 و1918 بسبب الحرب العالمية الأولى، وفي العام 1935، وفي الأعوام: 1940,1941,1942,1943 بسبب الحرب العالمية الثانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©