الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملاحة معرفية في ذاكرة البشرية

ملاحة معرفية في ذاكرة البشرية
11 أكتوبر 2012
تساورني في أحيان كثيرة “رغبات كتابية” يثيرها عنوان ما أو تحرضها معلومة ما، تؤرقني قليلاً ثم سرعان ما تمضي – في غمرة العمل والمشاغل الحياتية التي لا تنتهي إلا بانتهاء الأجل – إلى حالها، وتتسرب بعيداً كما تتسرب قطرات الماء في تربة عطشى. من بين هذه الرغبات الصغيرة كتاب يذكرني بنفسه كلما أعدت ترتيب أوراقي. وفي كل مرة أتركه إلى غيره غير آبهة بنظرة التأنيب التي يسلقني بها ولسان حاله يقول: تأخرتِ كثيراً وأنا ما زلت أنتظر. هذه المرة قررت أن ألبي دعوته، وأن أذهب على جناحه الورقي إلى عوالم جديدة بعضها – بكل صدقية – يقع عليه نظري للمرة الأولى، وأظن أن الكثيرين منكم سيشاركونني الانطباع نفسه في حال قرروا أن يمتطوا حصان القراءة ويعيشوا التجربة. “التراث الثقافي غير المادي للبشرية – المأثورات المدرجة على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية عام 2008” هو العنوان الذي يحمله هذا الكتاب الذي يفتح نافذة عريضة على ثقافات الشعوب وتراثها، والذي ترجمته هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ليكون في متناول القراء العرب. والحقيقة أن العلاقة بين هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة وبين اليونسكو آتت أُكُلها في السنوات الأخيرة على أكثر من صعيد، وانعكست إيجابياً على حالة التراث غير المادي في الدولة والذي شهد عناية غير مسبوقة بعد أن كان مهددا بالضياع والاندثار تحت إيقاع التحديث العمراني المتسارع الذي شهدته وتشهده دولة الإمارات العربية المتحدة، فعلاوة على ما حققته في مجال صون التراث وتعزيز جهود وآليات الحفاظ عليه فإن هناك جانباً آخر في هذا التعاون الاستراتيجي بين الطرفين يتمثل في ترجمة نخبة من إصدارات اليونسكو إلى اللغة العربية، في خطوة تعزز مسيرة التعاون بين دولة الإمارات ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم لخدمة الثقافة الإنسانية بعامة، والتراث الإنساني على وجه الخصوص. غَناء.. وغِناء تقدم ترجمة هذه الإصدارات خدمة ثقافية كبيرة للمختصين والمعنيين والباحثين وحتى القارئ العادي الذي يسعى وراء المعرفة والتثقف، وهي لا تقتصر فقط على التعريف بالإنجازات التي تحققها اليونسكو في مجال رعاية الثقافة الإنسانيّة والتراث الثقافي بل تقدم لوحة بانورامية عميقة تعرف بثقافات الشعوب الأخرى وموروثها الشعبي بشتى صوره وأشكاله، وتسهم في إيجاد نوع من الحوار الثقافي أو ترسيخه أو إطلاقه إلى أمداء أوسع، فالتراث المعنوي يشكل جزءاً حميماً من ذاكرة كل شعب من شعوب الأرض، وفيه أشواقها وأفراحها وأحزانها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها، إنه جُماع نشاطها في المكان، وجناها الروحي الذي يحظى بتقدير كبير. وتهدف اليونسكو ببرامجها المختلفة وبخاصة برنامج إدراج عناصر التراث المعنوي في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية إلى تشجيع الحوار واحترام التنوع الثقافي، واقتراح أشكال تواصل وأوعية ثقافية لتحقيق المزيد من التعاون والتآخي والتفاهم بين شعوب العالم، وإذ تفعل فإنما تكرس ثيمة الاحترام للتراث الإنساني وتمارس الاحتفاء بالتنوع الثقافي وهو ما يزخر به التراث غير المادي الذي يعتبر بحق واحداً من تمظهرات أو إمكانيات التقارب الثقافي والإنساني بين الشعوب. هذه ملاحة معرفية في ذاكرة البشرية تنقب عن كنوزها في العمق الوجودي، وتضيء على أغانيها وموسيقاها وحكاياها ورقصاتها الشعبية وفضاءاتها الثقافية المختلفة. هي حكاية الإنسان في رحلته الوجودية الكبرى مع التاريخ والجغرافيا، وأثره في المكان والزمان. بين 90 رائعة من روائع التراث الإنساني غير المادي التي قامت منظمة التربية والثقافة والعلوم “اليونسكو” بحصرها ووضعها في قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية ينتقل المرء على حصان الشغف، يعبر فضاءات ثقافية لسبعين دولة من دول العالم، من بينها 14 في أفريقيا، و 8 دول عربية و20 من منطقة آسيا و21 في أوروبا و 17 في أميركا اللاتينية والكاريبي. يمكن للكلمة، إذن، أن تكون بساطاً سحرياً يطوف بك الدنيا ويلتقط جماليات الروح البشري في تجلياته كافة.. في النغم والإيقاع وقرع الطبول والرقص وفنون الأداء المختلفة التي يمارس فيها الجسد حضوراً عالياً، ويحاور في إيقاعاته الهواء والشجر والجبال والمياه والأنهار والبحار. في ألبانيا تستمع إلى الأصوات المتعددة المتساوية التي تعرف باسم “ايزوبوليفوني” ودندناتها التي تختلف بين أسلوب الجيغ بشمال ألبانيا وأسلوب التوسكس واللابس الذين يقطنون جنوبها.. وفي أرمينيا تلتقط أنغام الدودوك التي ترجع جذورها إلى عصر الملك الأرميني ثيجران الأكبر (95 - 55 ق. م) وما يصحبها من رقصات تقليدية يتناغم فيها الإيقاع مع الرقص ليولد طقس جسدي حافل بالتعبير الجمالي.. في أذربيجان يهدهدك مقام أذربيجاني دوزنه صاحبه على حواف الارتجال معرفاً إياك بتاريخ فن القول في تلك البلاد.. في بنغلاديش أنت في حضرة أغاني البوول، وهم شعراء قوالون متصوفة، يعيشون في المناطق الريفية ببنغلاديش وفي البنغال الغربية بالهند.. في بلجيكا يحملك كرنفال بينش الذي يقام في مدينة بينش في جنوب مدينة بروكسل طوال ثلاثة أيام إلى العصور الوسطى، حيث كان يقام في أجواء من الفرح الغامر، وهو إلى الآن واحداً من أقدم التظاهرات التي ما تزال حية في أوروبا.. وفي بليجيكا وفرنسا تطوف مع مواكب تماثيل الحيوانات أو التنانين في ما يعرف باسم تطواف العمالقة والتنانين، وهو مجموعة فريدة من التظاهرات الاحتفالية الشعبية والتمثلات الطقوسية، وما تزال هذه التماثيل التي ظهرت لأول مرة في المواكب الدينية في نهاية القرن الرابع عشر في العديد من الدول الأوروبية تمثل دلالة للهوية في بعض المدن في بلجيكا. تغادر أوروبا إلى بليز وغواتيمالا وهندوراس ونيكاراغوا التي يعيش فيها الغاريفونا ويمارسون لغة ورقص وموسيقى خاصة بهم، والغاريفونا يتكونون من مزيج من مجموعات أصولها من افريقيا والكاريبي، وقد استوطنوا ساحل المحيط الأطلسي لأميركا الوسطى في القرن الثامن عشر.. ثم إلى بنين ونيجيريا وتوغو حيث تتعرف الى التراث الشفهي جيليده، الذي تمارسه جماعة يوروبا ناغو، وتقام طقوسه تكريما للأم الأصل ليا نلا، ويبرز الدور الذي تلعبه النساء في التنظيم الاجتماعي وتنمية مجتمع اليوروبا. كرنفالات الفرح البشري تحط قدميك في بوتان لتجد أمامك رقص الأقنعة لطبول درامستي، وهو رقص مقدس يؤدى أثناء مهرجان درامستي، تكريماً لذكرى المعلم الروحي البوذي بادماسامبهانا.. في بوليفيا تتعرف إلى كرنفال أورورو، وأورورو هذه كانت تمثل موقعاً قديماً للمارسات الطقوسية في مرحلة ما قبل كولومبس، في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي كل سنة، يكون هذا الكرنفال الذي يستمر ستة ايام مناسبة لعرض تشكيلات من الفنون الشعبية، من خلال تعبيراتها المتنوعة، كالأقنعة والمنسوجات والطرز والزخارف. ويشكل الموكب الاحتفالي المسمى “إنترادا” الحدث الرئيس في الكرنفال، كما تتعرف أيضاً إلى الرؤية الكونية الأنديزية للكاياوايا التي ترجع جذورها حقبة ما قبل إنكا.. في البرازيل أنت على موعد مع التعابير الشفهية والرسومية للواجابي وزخارفها ونقوشها وأصباغها الملونة، وأيضاً مع السامبا دي رودا وهي تظاهرة احتفالية تمزج بين الموسيقى والرقص والشعر. لا تزال الرقصات والأغاني متعددة الأصوات التقليدية لمنطقة شوبلوك في بلغاريا تعرض إلى اليوم، هناك سترى مجموعة من النساء المتقدمات في العمر تدعى بـ “بيستريستا بابي” يقدمن هذا الفن التقليدي في حلقة دائرية راقصة تسمى “هورو”.. ثم إلى الباليه الملكي لكمبوديا الذي يعرف أيضاً بالرقص الخميري الكلاسيكي المشهور برشاقة الحركات، وبأزيائه المبهرة التي تعكس ثراء البلاط الخميري منذ أكثر من ألف عام.. وهناك أيضاً تنفتح لك عوالم الـ سبيك توم وهو مسرح الظلال الخميري الذي يعرض عرائس من دون مفاصل، منقوشة على الجلد، قد يصل طولها إلى مترين ويرجع تاريخ هذا المسرح إلى ما قبل عصر أنكور، ومثل البالية الملكي والمسرح المتقنع يعد فناً مقدساً. تتوقف في جمهورية أفريقيا الوسطى لتسمع أغاني الأصوات المتعددة لأقزام أكا أفريقيا الوسطى.. وفي الصين تشاهد أوبرا كون كو، وتتعرف الى الغوكين وموسيقاها العريقة، فهذه الآلة ترجع إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهي تتصدر الآلات الموسيقية في الصين.. وتشنف آذانك بأداء مقام الاويغور وهو المصطلح الذي يطلق على مجموع ممارسات المقام المنتشرة بين جماعات الويغور، التي تشكل واحدة من أكبر الأقليات الاثنية في جمهورية الصين الشعبية.. في كولومبيا تمتع ناظريك بلوحة من الإبداع اللوني في كرنفال برّانكيّا ورقصاته وتعبيراته النابعة من مختلف الثقافات الكولومبية.. وفي كوستاريكا تتعرف إلى التقاليد الرعوية وعربات الثيران... وتطول القائمة: عبوف أفوكاها: موسيقى الأبواق المستعرضة لطائفة تاغبانا في كوت ديفوار، لا تومبا فرنثيسا في كوبا، رقصة المجندين الجدد في الجمهورية التشيكية، تقاليد المسرح الراقص في كو كو لو في الجمهورية الدومينيكية، التراث الشفهي والمظاهر الثقافية لشعب الثبارا في غابة الأمازون، الغناء الجيورجي المتعدد الأصوات في جورجيا، تقاليد المسرح الراقص رابينال أتشي في غواتيمالا، المسرح السانكريتي خو تيياتام و تقاليد الإنشاد الفيدي وعروض رامايانا التقليدية في الهند، مسرح الدمى المتحركة وايانغ والكريس الإندونيسي في أندونيسيا، مسرح الدمى المتحركة الصقلي والغناء الصادح: غناء رعوي سارديني في إيطاليا، وتقاليد المارون لموور تاون في جامايكا، ومسرح نوغاكو ومسرح الدمى المتحركة نينجيو جوهروري بونراكو ومسرح كابوكي في اليابان.. إخوّة ثقافية تواصل جولتك المدهشة في أنحاء الأرض.. كل التقاليد وأشكال التعبير الشفهي تتكشف لك.. كل فنون العروض والأداء وتقاليدها تتجوهر أمامك.. أما الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات فتأخذك إلى القرابة الإنسانية بين البشر، فثمة تقاطعات وتشابهات تتكرر هنا وهناك ما يحيل الى مفهوم هجرة النصوص من مكان إلى آخر. كما أن المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون تثبت لك من جديد أن هناك أخوّة ثقافية وليس إنسانية فقط تمتد بين أبناء بني آدم، وتعيدك الى طفولة البشرية ووقع خطاها الأولى على أرض المعرفة، حين كان الإنسان يبحث عما يشبع أسئلته الحائرة ويهدئ خوفه من مظاهر الطبيعة وتقلباتها فلجأ إلى السحر أو قدم القرابين وفروض الطاعة المتنوعة ليتقي ما كان يرى فيه شراً يهدد حياته. تجيل الطرف في حجم الإبداع الذي تتوفر عليه الفنون الحرفية التقليدية أينما وجدت، فهذه بالتحديد كانت مجالاً خصباً ليمارس الإنسان، لا سيما المرأة، اقتراحات جمالية شديدة التنوع ليضفي على حياته الجمال ويكسب ما يقيم أوده.. هذه الفنون تحقق المعادلة التي ما تزال تثير إشكالاً لدى منظري الجمال والفن التشكيلي: المنفعة والجمال، فبين أعطافها يتجاور الاثنان ويندغمان ويدخلان في حوار إبداعي عميق، ومدهش، ربما لا يتوفر للكثير من الإبداعات التشكيلية أو الفنية الأخرى، رغم الدونية التي ينظر بها بعض منظري الفنون والمفكرين إلى هذه الفنون والتهمة التي يرشقها بها اتجاه فني عريض من أنها ليست فناً ولا تنتمي إلى الإبداع. أما القرابة الثانية التي تتكشف لك في هذه الرحلة المعرفية فهي القرابة بين أنواع الإبداع الفني المختلفة، إذ سرعان ما تلاحظ أن أشكال التراث الثقافي غير المادي لا تقتصر على مظهر واحد بعينه وكثيراً ما يتجاور فيها أكثر من عنصر من عناصر التراث الشفهي، ففي الاحتفالات والمهرجانات تتجاور الموسيقى والرقص التقليديين مع الأغاني والصلوات وعروض الملابس التقليدية والمظاهر المسرحية والولائم والسرد ورواية السير الشعبية والحكايات وعروض الفنون الحرفية، وكذلك الممارسات الطقوسية والاحتفالية والإحساس الحاد بالعالم الطبيعي ومعرفته، وهذا ما يجعلها شكلاً معقداً من أشكال التعبير غير المادي. وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم أكثر فأكثر ازدياد الصراعات بين الإثنيات والعرقيات والطوائف والمجاميع البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتتكرس الحدود والعزلة والانفصال بين البشر رغم التقدم التكنولوجي، يقدم التراث غير المادي للبشرية دليلاً جديداً على درجة عالية وتاريخية من التواصل الثقافي بين البشر، والوحدة الإنسانية في إطار التنوع، ويبرز بعفوية تامة كم أن التواصل بين الناس يتم بالفعل على أرض الثقافة في حال تركت تمارس فعلها بحرية أو طاقة ذاتية، ذلك أن الحدود المصطنعة من قبل البشر لا تثبت إطلاقاً أمام اختبار المعرفة الموضوعية، غير المدنسة بشبهة التسييس الأيديولوجي أو الاستخدام السياسي. ربما تختلف المجتمعات فيما بينها في النظرة الى ممارسة ثقافية ما، أو إلى طقس من الطقوس أو شكل من أشكال التعبير، لكن هذا الاختلاف لا يفسد للود قضية كما يحدث في عالم السياسة والاقتصاد والفكر.. فكل مجموعة تبقى على موقفها وتمارس ما تعتقده وتحترم في الوقت نفسه ممارسة الجماعة الأخرى. لم يحدث أن شنت مجموعة بشرية ما حرباً على مجموعة أخرى بسبب الطريقة التي تمارس بها شكلاً من أشكال التراث غير المادي. كل شعب يرقص ويغني ويحتفل على هواه، ولكل مجموعة أن تمارس تراثها غير المادي على النحو الذي يعجبها وتراه معبراً عنها.. فبينما يمكن لمجموعة ما أن تعتبر أشعارها الغنائية شكلاً من أشكال الطقوس، فإن مجموعة أخرى قد تفسرها باعتبارها من أصناف الغناء. وعلى الشاكلة نفسها، فإن ما يمكن لمجموعة ما أن تعتبره من أشكال “المسرح” فإن مجموعة أخرى قد تفسره بأنه “رقص” في سياق ثقافي مختلف. مع ذلك، يمكن لهذا التراث أن يكون ضحية من ضحايا الحروب، وأن يتأثر بها، ويمكن أن يصادر أو يسرق أو يتم الادعاء بملكيته في بعض الأحيان، وما هذا إلا لأهميته الكبيرة لدى أصحابه ومكانته المقدرة في الضمير الجمعي وفي ذاكرتهم. الذات في ضوء الآخر على محور واحد أو في سياق بعينه لا تدور أشكال التعبير غير المادي.. بل تنتظم في محاور وسياقات لا حصر لها.. بعضها شائع يمكن أن تستخدمه مجتمعات بأكملها، في حين أن أنواعاً أخرى تقتصر على مجموعات اجتماعية خاصة.. بعضها للجنسين وبعضها خاص بالنساء أو الرجال أو بفئة اجتماعية بعينها كالمسنين.. وفي كل أحوالها وتمظهراتها تقدم هذه المجموعة المتنوعة من الأشكال المحكية، صورة عن العالم الذي نعيش فيه، تطلعنا على ما يدور حولنا، تعمق من جهة معرفتنا بالآخر وتعمق من جهة ثانية معرفتنا بذاتنا الثقافية، وربما تطرح علينا تساؤلات كثيرة تتعلق بهذه الذات التي تلقي عليها معرفة الآخر ضوءاً مختلفاً، وربما تحضر إلى الواجهة أسئلة غائبة أو قارة في بركة المألوف والنظرة العادية. وأمام الغَناء (بفتح الغين) الذي يقع عليه المرء في تطوافه بين ممارسات الدول المختلفة لتراثها غير المادي، يغتني بهذا الدفق الإبداعي وما فيه من رحابه.. فطيفه الواسع يضم الفوازير والحكايات وأغاني الأطفال وقصص البطولات والأساطير والأغاني والقصائد الملحمية والتعاويذ والصلوات والأناشيد والأغاني المسرحية أو الأداء المسرحي وغير ذلك مما يقوم بدور شديد الأهمية في الحفاظ على الحياة ريّانة، خضلة.. وما هذه الممارسات سوى وسيلة يقول بها البشر أنهم أحياء، قادرون على الفرح والاحتفال والتعايش مع محيطهم، وأن لهم ذاكرة تعمل... بكفاءة رغم كل الصعوبات. ويظهر هذا الغنى في التنوع المذهل لأشكال الممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية: فمنها شعائر الصلاة؛ ومراسم البلوغ؛ وطقوس الولادة والأعراس والجنازات؛ والنظم القانونية المختلفة؛ والألعاب والرياضة التقليدية؛ والقرابة وطقوس القرابة؛ وأنماط المستوطنات؛ والتقاليد المطبخية؛ والأعياد الموسمية؛ والممارسات التي تقتصر على الرجال أو على النساء؛ وممارسات الصيد وصيد الأسماك والقطاف؛ وكثير غيرها. كما تشمل مجموعة متنوعة من أشكال التعبير والعناصر المادية: الإشارات والكلمات الخاصة، والإلقاء، والأغاني أو الرقصات، والأزياء الخاصة، والمواكب، والأضاحي، والأطعمة الخاصة. وفي الموسيقى تتجسد روح الإبداع البشري، ولعلّ الموسيقي هي الشكل الأكثر عالمية من أشكال فنون الأداء فهي موجودة في كل المجتمعات، وأغلبها يوجد كجزء أساسي من أشكال الأداء الأخرى ومن مجالات التراث الثقافي غير المادي الأخرى، بما في ذلك الطقوس أو احتفالات الأعياد أو التقاليد الشفوية. ويمكن للموسيقى، كما تقول اليونسكو، أن توجد في سياقات شديدة التنوع، سواء منها المقدس أو المبتذل، أو الكلاسيكي أو الشعبي، أو المتصل بالعمل أو باللهو على نحو وثيق. ويمكن أن يكون للموسيقى كذلك بعد سياسي أو اقتصادي: فقد تروي تاريخ المجتمع المحلي وتمدح القوي وتؤدي دوراً هاماً في التبادلات الاقتصادية. أما الأداء المسرحي التقليدي، فكثيراً ما تشمل عروضه التمثيل والغناء والرقص والموسيقى والحوار والرواية أو الإلقاء، كما قد يشمل العرائس والإيماء. على أن هذه الفنون ليست مجرد “عروض” تؤدى ببساطة أمام جمهور المتفرجين. إذ يمكنها أيضاً أن تؤدي أدواراً شديدة الأهمية في الثقافة والمجتمع. غول العولمة كثيرة هي المخاطر والمهددات التي تتربص بالتراث غير المادي منها التحضر السريع والهجرة على نطاق واسع والتصنيع والتغير البيئي. فضلاً عن وسائل الإعلام المختلفة التي يمكن أن تؤثر سلباً وأن تُحدث تغييرات كبيرة في أشكال التعبير التقليدي الشفهي، بل أن تحل محلها بالكامل.. لكن السياحة ومتطلباتها والعولمة وما تشيعه من تنميط ثقافي تبدوان العاملان الأكثر خطورة على هذا الصعيد. فالسياحة تعمل كسيف ذو حدين، حيث إن الترويج الثقافي الذي يسعى إلى اجتذاب السياح يؤدي إلى زيادة في أعداد الزوار والعائدات بالنسبة لبلد ما ويفتح نافذة على ثقافة هذا البلد من جهة، لكنه قد يؤدي إلى ظهور طرق أخرى معدلة لتقديم فنون الأداء لأغراض سوق السياحة من جهة ثانية. من هنا، يمكن للسياحة أن تسهم في إحياء فنون الأداء التقليدية وتعطي “قيمة سوقية” للتراث الثقافي غير المادي، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تأتي بآثار مشوِّهة، نظراً لأن العروض كثيراً ما تُختصر لإبراز أجزاء مكيفة تلبي طلبات السياح. وكثيراً ما تتحول الأشكال الفنية التقليدية إلى سلع باسم الترفيه، وبذلك تضيع أشكال هامة من أشكال تعبير المجموعة المعنية. أما العولمة فتبدو هي المهدد الأكبر أو الغول الذي يبتلع في سياقاته التنميطية العالمية الخصوصيات الثقافية. فمع توحيد وتثبيت الممارسات الثقافية يتخلى الناس عن كثير من الممارسات التقليدية. وحتى في الحالات التي تتمتع فيها فنون الأداء هذه بالشعبية، فإن بعض أشكال التعبير تستفيد وحدها في حين أن الأشكال الأخرى تبقى متضررة. على صعيد الموسيقى، وهي تعطي أفضل الأمثلة على ذلك، يمكن للانفجار أو الاتساع المذهل في شعبية “الموسيقى العالمية” أن يخلق العديد من المشاكل، رغم أنها تؤدي دوراً هاماً في التبادل الثقافي وتشجع على العمل الخلاق الذي يُثري أجواء الفنون الدولية، كما تقول اليونسكو في واحدة من نشراتها، فكثير من أشكال الموسيقى المتنوعة تتعرض للتجانس في سياق تحقيق هدف تقديم منتجات ثابتة. وفي هذه الحالات، لا يعود هناك من مجال لبعض الممارسات التي لها أهمية حيوية في عملية الأداء وتقاليده في مجتمعات محلية معينة. أما الأشكال التقليدية من مهارات الفنون الحرفية فتتعرض لتحديات كبيرة تطرحها العولمة. فالإنتاج الجماهيري، سواء على مستوى الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات أو في الصناعات المنزلية المحلية، يقدم سلعاً منافسة للإنتاج اليدوي. ويكافح كثير من الحرفيين للتكيّف مع هذه المنافسة. كما أن تغير الأذواق الثقافية، يمكن أن يقلل من الفرص المتاحة للحرفيين للتعبير عن أنفسهم. وربما يدفع التدريب الطويل اللازم لتعلم الحرف التقليدية الشباب إلى تفضيل العمل في المصانع أو في صناعة الخدمات، حيث العمل أقل قساوة والأجر أفضل في كثير من الأحيان. كل ذلك يؤكد على أهمية استمرار هذا الموروث وضرورة توفير كل السبل لانتقاله من جيل إلى آخر، من المسنين إلى الشباب والأطفال، كما يؤشر على أهمية الترويج والتشجيع على خلق سياقات أخرى، لتمكين العمل الإبداعي التقليدي من إيجاد طرائق جديدة للتعبير. والاستفادة من معطيات التكنولوجيا والتقدم الاتصالي في تصوير وتوثيق الطرق التي تؤدى بها مثل الأقراص المدمجة والفيديو وغير ذلك. من المحزن، فعلاً، أن تكون هذه الذاكرة الثرَّة مهددة بهذه الأخطار المتنوعة، ومن هنا بالضبط تبرز أهمية النشاط الذي تقوم به اليونسكو للحفاظ على التراث غير المادي للبشرية وحمايته وصونه، والإبقاء على دورها في حياة المجتمع اليومية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©