السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتغزّل المعتزل

المتغزّل المعتزل
11 أكتوبر 2012
حكاية اليوم بطلها الشاعر عمر بن أبي ربيعة، واسمه بالتفصيل أبو الخطاب عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة حذيفة بن المغيرة بن يقظة بن مرة. ولد عمر في سنة 23 هجرية/ 644 ميلادية، ويقال إنه ولد في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب. اختلف الباحثون في مكان ولادته وهل هو الجَنَدْ في اليمن وهي مركز تجارة والده أو مكة وهي مقر عائلته ومسرح نشأته. نشأ عمر في المدينة، وكان من عائلة غنية موسرة فتمتع بعزها وجاهها. كان عمر بن أبي ربيعة شاباً يتمتع بجمال غير عادي ورجولة متدفقة جعلته محط أنظار الحسان، وفتحت له أبواب اللهو وجعلته لا يستقر مع واحدة بعينها، بل كانت حياته سلسلة من المغامرات الغرامية والحكايات التي لعبت فيها المرأة دور البطولة دائماً. حتى عندما انتقل من المدينة إلى مكة واصل حياته اللاهية مستغلاً مواسم الحج للقيام بمغامراته مع النساء حتى قال: ليْتَ ذا الدّهر كان حتماً علينا كلّ يومينِ حجّةً واعتمارا أما تنقله من واحدة إلى أخرى فهذا سجلته قصائده والتي تكاد أن تكون جميعها روايات غرامية وتجارب عاطفية مر بها الشاعر. ولعل ما يشرح حقيقة هذا الشاعر هو بيت الشعر الذي قال فيه: سلامٌ عليها ما أحَبّتْ سلامنا فإن كَرِهَتْهُ فالسلامُ على أخرى ولكن عمر بن أبي ربيعة تاب في أواخر حياته وكرّس شيخوخته في الصلاة والصيام تكفيراً عما قام به في شبابه. ? ولكن.. هل نظم الشعر ذنب يا عمر؟ ـ ولكن شعري كان كله في الغزل.. الغزل كل حياتي.. ولذلك قررت أن أغيّر حياتي وأن أتوقف عن الشعر. ? يمكنك أن تنظم الشعر في أغراض أخرى غير الغزل. - مستحيل.. أنا خلقت للغزل.. أو للصمت. ? ألا تشعر بالحنين للعودة إلى النظم؟ - وهذا الحنين هو الذي جعلني أخسر الكثير. ? كيف؟ - حتى أكفّ تماماً عن الشعر.. نذرت أن أعتق عبداً من عبيدي كلما قلت بيتاً واحداً من الشعر.. وقد أدى هذا النذر إلى الآن أن أخسر تسعة من عبيدي مرة واحدة.. لقد أعتقتهم تنفيذاً للنذر الذي نذرته. وقصة النذر هذه التي كلفته إعتاق تسعة من العبيد، إنه في يوم من الأيام وبينما كان يطوف بالكعبة رأى وسمع شاباً يكلم فتاة في الطواف وعلم من خلال الحوار أن الفتاة ابنة عمه وأنهما تحابا وعندما ذهب لخطبتها طلب عمه مهراً لم يكن في مقدور الفتى أن يقدمه. تأثر عمر بن أبي ربيعة بقصة هذا الفتى وصحبه إلى عمّه وخطب له ابنته ودفع عنه المهر. وتسجيلاً لهذه القصة نظم عمر تسعة أبيات قال فيها: تقول وليدَتي لمّا رأتني طربتُ وكنتُ قدْ أقصرتُ حينا أراك اليومَ قد أحدثت شوقاً وعادَ لك الهوى داءً دفينا وكنتَ زعمتَ أنكَ ذو عزاءٍ إذا ما شئتَ فارقتَ القرينا بربّك هل أتاك لها رسولٌ فشاقكَ، أم لقيتَ لها خدينا فقلتُ: شكا إليّ أخٌ محبٌ كبعض زماننا، إذ تعلمينا فقصّ عليّ ما يلقى بهندٍ فوافقَ بعضَ ماقدْ تعرفينا وذو القلبِ المُصاب وقد تعزّى مشوقٌ حين يلقى العاشقينا وكمْ من خلّةٍ أعرضتُ عنها من أجلكمُ وكنت بها ضنينا أردتُ فِراقها وصبرتُ عنها ولَوْ جُنّ الفؤادُ بها جُنونا لقد كان شعر عمر بن أبي ربيعة بمثابة تأريخ لحياته فكل ما نظمه عاش تجربته واكتوى بناره ولم ينظم الشعر للشعر بل جعله بمثابة سجل حياته.. أما زمن حكاية قصيدة اليوم التي سنذكرها في نهاية هذا المقال فهو بعد سنتين من تنسكه وتركه للعر وتفرغه للعبادة.. ويرويها هو بنفسه لعثمان بن ابراهيم الخاطبي: قبل أعوام وبينما كنت جالساً وحدي.. جاءني خالد الخرِّيت فقال: ? يا أبا الخطاب مرت بي أربع نسوة قبيل العشاء يردن موضع كذا وكذا ولم أرَ مثلهن في بدو ولا حضر. - ألم تعرف من هنّ يا خالد. ? عرفت واحدة فقط هي هند بنت الحارث المرَّية. - سأنطلق إليهن حالاً. ? مهلك يا أبا الخطاب.. لو رأينَكَ لعرفنكَ ونفرنَ منك.. فجميع النساء يخشين اللقاء بك والتحدث إليك. - إذن ماذا أفعل..؟ ? تأتيهن متنكراً فتسمع من حديثهن وتتمتع بالنظر إليهنّ ولا يعلمنَ من أنت. - ويحك.. وكيف لي أن أخفي نفسي عنهن؟ ? تلبس لبس أعرابي ثم تجلس على قعود.. ثم تأتي إليهن. وما كاد خالد ينتهي من كلامه حتى أسرعت ونفذت ما اقترحه عليّ ولبستُ ملابس أعرابي وركبت الجمل القعود وتوجهت إليهن وسلمت.. ? من أنت.. قالت هند.. - أعرابي ? وماذا لديك؟ - لديّ الحكايات والقصائد ? لمن تحفظ أيها الأعرابي؟ - لكثير عزة وجميل بثينة والأحوص وغيرهم. ? ألا تحفظ شيئاً لعمر بن أبي ربيعة؟ - أحفظ طبعاً ? إذن أنِخْ قعودك.. وانزل إلينا وحدثنا بما لديك؟ أنخت الركاب ونزلت وتجاذبت معهنّ أطراف الحديث فما كان أمتع ذلك الوقت الذي مرّ سريعاً والذي شعرت فيه أنني ملكت قلوبهن وملأتها طرباً وانتشاء.. إلى أن سمعت هنداً تقول: ? ما أشبهك بعمر بن أبي ربيعة.. أردت أن أعترف.. ولكن هنداً سبقتني وقالت: ? أنت هو.. عمر بن أبي ربيعة.. - ولكن كيف عرفت يا هند؟ ? تظنّ أنك خدعتنا وأخفيت نفسك؟ لا يا عمر.. نحن اللواتي خدعناك واحتلنا عليك. - كيف يا هند؟ ? أردنا أن نستمع إليك وأن نراك وأنت في أسوأ حال.. فاتفقنا مع خالد الخرّيت أن يأتي إليك ويخبرك بما أخبرك.. فجئنا بملابس الأعرابي وهذه الحالة الرثة.. بينما نحن بكامل أناقتنا.. فما رأيك. - إن كيدكنّ لعظيم. ? وأين عنك جميل بثينة.. ألم تخبرنا قبل قليل ما قاله جميل: لكلِّ حديثٍ بينهن بشاشة وكلُّ قتيلٍ بينهنّ شهيدُ يقولون جاهِدْ يا جميلُ بغزوةٍ وأيّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ ? إذن؟ - ما فعلتنّ إلا الحسن.. ضحكت وضحكن.. وطال بيننا الحديث ثم ودعتهنّ وانصرفت لأسجل هذه الحكاية في قصيدتي التي أقول فيها: ألَمْ تسألِ الأطلال والمتربعا ببطنِ حليَّاتٍ دوارسَ بَلْقَعا (1) إلى الشِري من وادي المغَمّسِ بَدَّلتْ معالمُهُ وبلاً ونكباءَ زعزعا (2) فيبخلنَ أو يُخبرنَ بالعِلمِ بعدما نكأنَ فؤاداً كان قِدْماً مُفجَّعا بهندٍ وأتراب لهندٍ إذِ الهوى جميعٌ وإذ لمْ نَخَشَ أن يتصدَّعا وإذ نحن مثل الماء كان مزاجُهُ كما صفَّق الساقي الرحيقَ المشعشعا (3) وإذ لا نطيعُ العاذلينَ ولا نرى لواش لدينا يطلبُ الصرمَ مطمَعا تُنوعِتْنَ حتى عاود القلبَ سُقْمُهُ وحتى تذكرتُ الحديث المُودَّعا (4) فقلتُ لمُطريهنَّ بالحُسنِ إنّما ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعاً فتَنْفَعا؟ وأشريتَ فاستشرى وإن كان قدْ صَحا فؤاد بأمثالِ المَها كانَ موزعا (5) وهيجتَ قلباً كانَ قد ودّع الصّبا وأشياعَه فاشفعْ عَسى أن تُشفّعا لئِنْ كان ما حَدّثتَ حقاً فما أرى كمثلِ الألى أطريتَ في الناس أربعا (6) فقال تعالَ انظرْ فقلتُ وكيف بي أخافُ مقاماً أن يَشيعَ فيَشْنُعا فقال اكتفل ثمّ الْتَثِمْ فأتِ باغياً فسلّم ولا تكثرْ بأن تتورّعا (7) فإني سأخفي العينَ عنكَ فلا ترى مَخافة أنْ يفشو الحديثُ فيُسْمَعا فأقبلتُ أهوي مثلَ ما قال صاحبي لِمَوعدِه أزجي قعوداً مُوَقّعَا (8) فلمّا توافَقْنا وسَلّمتُ أشرقَتْ وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تَتَقنّعا تبالَهْنَ بالعِرفان لمّا عَرفنني وقُلنَ امرؤٌ باغٍ أكلَّ وأوْضعَا (9) وقرَّبْنَ أسباب الصّبا لِمُتيِّمٍ يقيسُ ذراعاً كلّما قِسْنَ إصبَعا فلمّا تنازَعْنا الأحاديثَ قُلنَ لي أخِفْتَ عَلَينا أنْ نُغَرَّ ونُخدَعا فبالأمسِ أرسَلْنا لذلكَ خالداً إليكَ وبيَّنَّا له الشأنَ أجمَعَا فما جِئنا إلاّ على وِفْقَ موعِدٍ على ملإٍ منّا خرجنا لهُ مَعا (10) رأينا خلاءً من عيونٍ ومَجْلساً دميثَ الرُّبى سَهْلَ المحَلَّةِ مُمْرِعا (11) وقلنَ كريمٌ نالَ وصلَ كرائمٍ فحُقَّ لهُ اليومِ أنْ يتمتَّعا هوامش: 1 ـ الأطلال: آثار الديار بعد تهدمها. المتربع: المسكن أيام الربيع، بطن حليات: اسم موضع. دوارس: جمع دارس وهو الذي ذهبت معالمه. البلقع: الموحش الخالي. 2 ـ الشري: اسم موضع قريب من قلة. النكباء: ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. ريح زعزع: متحركة وشديدة. 3 ـ صفّق: مزَج. الرحيق: الخمر. المشعشع: الذي مازجه الماء 4 ـ تُنوعِتْنَ: وُصِفْنَ 5 ـ أشريت: أغريت. موزع: متعلّق ومغري 6 ـ الألي: اللاتي. أطريت: وصفت 7 ـ الكفل: الكساء. اكتفل: جعل على بعيده كفلاً. الْتَثِمْ: ضع لثاماً على وجهك. 8 ـ أهوي: أسرع السير. أزجي: أشوق. القعود: ما يقتعده الرجل للركوب والحمل. الموقع: الذي تظهر عليه آثار الدّبر لكثرة استخدامه. 9 ـ تبالَهْنَ: أظهرن البلاهة. أتحلَّ: أعيا ميته. أوضع: سار سيراً سريعاً دون رفق بمطيته. 10 ـ الملأ: التشاور والإجماع. 11 ـ الدميث: السهل الممتد. الممرع: الحصب. المراجع والمصادر: 1 - ديوان عمر بن أبي ربيعة/ قدم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور فايز محمد 2 - الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©