الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طائر النورس الحارس .. المحترس

طائر النورس الحارس .. المحترس
11 أكتوبر 2012
النورس.. فارس محترس مفترس، متمرس، متغطرس، متجسس، متحسس، متوجس، متحمس، جناحاك قوس قزح، وهامتك غيمة متفاقمة، تمطر الماء بعينين شاخصتين، متفحصتين، متلصصتين، متمحصتين، أنت.. أنت الذي كنت الطارق المارق، سارق اللقمة من فم البحر، حارق النجمة ساعة الفجر، أنت المتأجج المؤدلج، بعناوين الفطرة، والقدرة والسحر الألي، وعندما تهفهف الريح على أديم الشطئان، كنت أنت الحادب في أتون بمجون وخيون، كنت أنت الناهض المستفيض خبرة وعبرة، أسئلتك للوجود، أنك لا تسأل عن عنقود في أخاديد الرمل، ولا تسأل عن عنود في تجاويف اللوعة، كنت في غابة البحر، ليشأ مخلبه أسنان البطش، ونابه حد يسف وينسف، ويخطف ثمرات الزمن من أغصان فضاءات تفرعت، كأحشاء شجرة عظيمة، نسجت خلاياها، من زمن قبل الأزمنة، قبل التكوين وقبل تلوين الأشياء بالأسماء. أنت.. الحلم المحدث بالزرقة، أنت الحداثة القلقة، محارات البحر كانت فقاعات، وكنت أنت البلبلة والغربلة، كنت أنت الحنين إلى الأرض كما كنت جنين المعالي، وكان الجناحان جبلين من زغب وريش، كنت العريش المهيمن، الكامن في روح الذين عشقوا الآفاق البعيدة. ونشيدك لحن الأبد، والناي والأمد، وبوح لا أحد سواك، يرقص النجوم حين يعلو الغناء، وتشدو الموجة طرباً وجذلاً. النورس، موجة أنت في الفضاءات البعيدة، وقدرة فريدة، لما تخب وتهب وتصب وتحب وتجب، وتطرب وتستطرب، ونقطب وتستقطب، وتتسرب لحناً كونياً، يعانق المدى، ويغسل وجوه المتعبين، بملح العناق، بأحر الأشواق، لما يكون التلاقي تساقي، ويكون التوحد ماء المآقي. النورس.. كم مرة مرت على جناحيك أنامل، أندى من الندى، وأملس من ملمس أوراق اللوز، كم مرة شعرت بالقشعريرة، وأنت تنكفئ محتضناً رائحة وتفاحة، كم مرة سافرت كأنك البحار المؤزر بالهوى، تسأل الله بألا تشيخ الأشرعة، وألا تميل الصواري، وألا تقبض العاصفة على عنق الزجاجة، فتغضب الموجة ويهدر البحر. ريش يرعش النورس.. غادرت الآن الشطئان، بقدر ما انحسر البحر، متوارياً خلف قضبان وبهتان، وأسنان تقضم، وتقتحم وتلجم وتكتم، وتقصم وتسقم وتلطم وتضرم، وترجم ولا تسأم، غادرت بقدر ما غادر وعي الإنسان، عن قلق الشواطئ، ونسيت بقدر ما نسي الإنسان أن لرفرفة جناحيك لغة الحرية، وأن لتغريدك بوح القصائد البلبلية، ولهيامك مفردة من مفردات الحروف السومرية. النورس.. ريشتك الأبدية لم تعصف بها الأهوال، لم تزل ترعش يداً سفها الوجد، واستشاطت شغفاً، وما زالت تقبض رقبة الهواء، تقبض رائحة الانتماء، وتمضي في السؤال عن نورس خربش في القلب، خدش الدرب، ولم تزل آثار الأقدام الحافية، تحفر رنينها في التراب، رغم الاغتراب ورغم نحيب الرمل. النورس.. سؤال بحمم أجنحة الأشواق، بحجم صرخة أنثى أوماها الرمح المسنن، وما ربحت غير الدموع، ثم تنشف لوعتها، بنظرة ثم قطرة من وجيب، ثم تغفو عند الجناحين، كأنها الحنين القديم، والله يضع سره في أضعف خلقه. النورس.. من سيبيريا حتى شطئان الدفء، تستغرق الرحلة وأشواقاً، وأطواقاً، وأطباقاً، لكنك كنت تأتي تخبئ في معطفك الرهيف، ما تخبره وما تسبره، كطيف كنت مغامراً، تمر على أكتاف عارية، تبحث عن رداء، تسأل عن هواء لا يغرقه الثلج، تسأل رائحة البحر، مضمخة بزعانف عبقها مسك الأيام، وريق السمكات، رضاب القبلات، حامية الوطئ والوطيس، تبحث عن أشياءك المخبأة في رداء البحر، تبحث عنك في المواسم البريئة. النورس.. نونك قلم البحر، وسطرك تلك الموجة البيضاء، تسأل الله أن يحفظ السائرين في رحاب الموج، تحت جنح الوحشة، عند حواف الخطر، تسأل الليل بألا يحيق ولا يخيف، ولا يرفع النزيف إلى حد الغرق، ثم تثابر وتغامر، وأحياناً تكابر وتصابر، وتعبر أنهار الصبر، لا تمل ولا تكل، والذائبون في الحنين، يسحقهم كل ما قل ودل من أنين، يسكبون أشواقهم في حنايا البحر، في ثنايا الزمن، ثم يطوون أشرعة الخيبة، عائدين بلا هدي كأنهم في ضياع الصحراء، كأنهم في غياب الوعي، كأنهم يبحثون عن الأسئلة في نهاية المسألة وخاتمة المرحلة، كأنهم المأزق وأنت الغارق المتخندق في الأفق، وفي نزق ترهف السمع وتصفق الجناحين مختالاً جذلاً، كأنك النجمة الفارة من أسوار وأطوار وأدوار، كأنك الغيمة المذعورة من برق ورعد ووعد مستبد، كأنك الحالم المتكبد من غياهب وأبد. النورس.. محبس القلب وعويل الوجدان، وهدير المكان، وزمجرة الزمان، وفجوة بجفوة الإنسان، ونعمة مزخرفة بوقار وأوار، وأطوار تنفي أطواراً، وأدوار تلغي أدواراً، وليل يغشي نهاراً، وحنين يتطهر بحوار داخلي، لا ينفك عن الثغاء. النورس.. يقظة اللحظة، ونهضة الرمضاء، حين تشع الشمس بخرير أشبه بالحرير، يتسرب في لمح البصر كأنه القدر، المتورم بالكبرياء المتحزم ببعض ما خلفه الأتقياء، ورهبان الرمل، وقديسو ساعات الفجر المداهم.. واهمٌ من لا يعرف كيف كان النورس يخاطب الموجة، وكيف كان يعانق الريح ساعة الفرار من مقبض الحرية، وساعة انحطاط النفس البشرية وولوجها في شيم الأدعياء. النورس.. لم تكن طائراً بأجنحة، بل كنت أجنحة تحمل لوعات وصيحات، ونواح وجراح، وأشياء أخرى لم يبح بها البحر، كونه المتأزم بورطة المرتجفين النازفين ضياعاً وانصياعاً والتياعاً، كانوا هم الذين يغرقون البحر بملح العرق، كان يغدوقه بالقلق، كانوا يملأون وعاءه بالنزق حين يرتفع الموال، خليجياً صرفاً، يهتفون باسم القدرة الفائقة أن تحفظ الود، وأن يكون المد مداداً وامتداداً، لوجود لا يثنيه جحود، ويكسر مجاديفه كنود، ولا مارد ولا نمرود، ولا ناهد ولا عنود، ولا بارق ولا رعود، ولا مارق ولا مكدور، ولا ساحق ولا يوم موعود، ولا نار ذات أخدود. النورس.. وحدك الآن تتذكر، ناصيتك فوق الصارية، وهفوة الماء المتسرب في شرايين الخشب المترتب من صخب، المعذب من عتب، المركب من مفردات الموج ومن غضب الجاثم والغاشم، والآثم والقاتم، والمداهم المتفاقم الحالم بشهوة الموج المتلاطم. أنت وحدك تتذكر سمات البحر وصفار الغدر، وما اعتلى وما انحدر وما شاع وضاع في دياجير الدجى، وما اختفى بين كثبان الموج حين خبت السفن، واشتدت المحن، واختلط الصوت، صوت الجلاد وباقي العباد، الكل يهتف يا نورس الحرية، رفرف الجناح، واعزف لحن الخلود لأجل وجود، لا فاقد فيه ولا مفقود. أنت وحدك الذي تقرأ ما قالته الموجة المتأججة، وما حاكه البحر من حكايات فجة، وما أفصح عنه النابشون في أتون الغيب، متسائلين أين وقار الطير وحشمة الأجنحة، فالوقت أزف، والليل يغرف من وعاء النهار ولا يكتفي، وتعكف النجوم على تلاوة آيات اللألأة، والقمر يغزل خيوطه مرقعاً ثياب العوز، لعله يشفي غليل المرحلة، لعله ينسج قماشة بلا غربلة، ولكن أنت كنت النجوى، كنت ترسم خارطة الوصل إلى بلاد غير البلاد، وكنت تحثو في الوهاد، رمل الفراق، والنادبون كثر. حبال الوصال النورس.. منذ متى وأنت تجلد حبال الوصال، وتدخل في أصابع البحر، نعال التشدق والتحرق، والتمزق، والتدفق ومنذ متى وأنت تحسو من نخب الهوى، وتمضي مستدرجاً الآفاق لعلها تستفيق، بعد شهيق الف.. الف غريق، ومنذ متى وأنت تنهر وتزجر، وتمخر وتسحر، وتسهر وتطفر، ولا تدخر وسعاً في إشاعة الفقاعة، وتقول للعالمين إن البحر سمل عيون كائناته، وأعلن العصيان ضد الإنسان، واستفاق بعد نسيان أن الأمر فيه معادلة، قوامة الإنسان أم قيامة الأزمان. النورس.. في الفجر كنت تحمس رغيفك، وتهدي للصيادين مواقع الأثمار، وتقول بزقزقة الحنون، هذه شحمة القلب، ولب الفؤاد، هذه زعانف الحياة، ببلاد ومهاد ووداد وسداد. النورس.. حطّ وغطّ وشطَّ وربطَ ورابطَ وسخطَ.. فرّ، وكرّ، وسرّ، ونهرَ، وزجرَ، وسخرَ، وسَحَرَ، وسَهَرَ، ونَغَرَ، ونَحَرَ، وسَبَرَ، ونَقَرَ، وقرَّ، واستقرّ، ودبرَ، وسَكَرَ، وأدبرَ، واستدرج وجدّج، وفرَّج، وأخرجَ، ومزَجَ، ولهَجَ، وضَرَجَ، وسفح، وقدح، وجرَّح، وبرَّح، وصدَّح، وصرَّح، وجَمَحَ، ورَمَحَ، وشرح، وأفصحَ، وسرَّحَ، وكدَحَ، وقرَّحَ، ونفحَ، ورجَّح. النورس.. نور وأسرار وحبور، بدر وأطوار وسرور، قدر وأدوار وسفور، دهر وأفكار وجذور، فجر وأسحار ونفور، وورطة لذيذة، تتسرب في أتون الذاكرة، تخدشها أو تدهشها، تحبلها أو تحملها أثقالاً وأهوالاً، وتملي على الذين لم يبلغوا سن الرشد، ما شاب وما طاب، وما استجابت له السواحل، حين نقش الجناحان، منمنمات على الرمل، مثلثات بزوايا حادة، تحد من غثيان السواحل، فيستفيق البحر على صبوة الغير، ونخوة الكائنات الجليلة.. هو المد حين يعكف البحر على تلاوة هيبته، وحين تحصي القواقع خطواتها باتجاه البلل، وحين ينام القمر تحت ملاءة الغيمة الشفيفة، وحين ترتب النجوم على أكتاف النجوم لأجل صحوة بعد غفوة، ولأجل انتباهة الغير أن قيامة الكائنات تكون حين يكون الليل خليلاً، معللاً خلانه بالهدأة والسكينة، وحين تنشد الأشياء قلق البدايات والنهايات القصوى، وحين لا يسهر غير النورس مغازلاً غنج الموجة، ولهج إمرأة أسفر عن لوعة بعد فراق، وقَرَّ واستنفر، ما يجيش تحت الجلد وما يجلد المضغة المراهقة. النورس.. الحادب السارب الغارب، المتسرب المتشرب، من لوعة السفر الطويل، ومن ولولة الموج، ونخوة السواحل، أنت الحاضر، الناهر، السافر المسافر في مجون التحليق وجنون الهوى.. أنت الشيء والفيء والطيء أنت، أنت نفرة الطير وزفرة البحر، وأنت المسربل بالنوايا، تخطف ولا تلطف تخسف ولا تعطف، تعصف ولا تأنف، تستأنف جورك وثورتك بصفات الحابلين في عراء المراحل المكفهرة، وتجيش في المعنى كأنك الأغنيات القديمة، والأماني المستديمة، كأنك الأشياء التي لا تلون ريشها، بالزيف والحيف، وخريف المنايا، ووشاية النفس الأمّارة. النورس.. القابع في صلب الذاكرة النابع من ترائب التنهيد، المطوق بتعاويذ اليافعات، المنمق بألوان الفرح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©