الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السياسة آفة العلم

السياسة آفة العلم
11 أكتوبر 2012
“نحن والعلم”، كتاب صغير الحجم في عدد صفحاته، شديد الأهمية في الأفكار التي يطرحها ويستحق أن يقرأه صناع القرار وكبار المسؤولين وافراد النخبة قبل المواطنين العاديين، هو ايضا كتاب مؤلم لأن مؤلفه هو العالم الرائد د. مصطفى مشرفة، وقد وضعه بعد الحرب العالمية الثانية، وتشعر معه بأنه مكتوب عن احوالنا وبلادنا اليوم، عام 2012، أي ان قرابة السبعين عاما مضت من دون أن نتحرك في مجال العلم.. ثقافة وبحثاً وإنتاجاً. الكتاب مجموعة مقالات في موضوع واحد، هو علاقتنا بالعلم، وينبه مشرفة الى خطأ مازال قائما، وهو أن الكثيرين يتصورون أن افتتاح بعض المصانع والحصول على توكيلات اجنبية، أو التعامل مع المنتج الأجنبي مباشرة يعني تحقيق نهضة وتقدم علمي، هذا قد يحقق رواجا اقتصاديا، لكنه يبقينا أسرى المنتج وصاحب المصنع الاجنبي، هو وحده بيده التطوير والتحديث وعنده قطع الغيار هذا المنطق، يعني ان يكون لدينا مهندسون وفنيون وعمال مهرة، لكن لا يسمح بوجود علماء يخترعون ويبتكرون، ولا يخلق ثورة علمية، فإذا وصلنا الى الصناعات الدقيقة، كصناعة الطائرات، فقد لا يعطينا المنتج الاجنبي ما عنده ليبقى هو متقدماً ومتفوقاً علينا. واجبات المجتمع بناء العلم وتحقيق التقدم العلمي يحتاج من المجتمع إلى أمور عدة، في مقدمتها الإنفاق المالي الضخم، وفي العصر الحديث لم يعد يكفي كما كان الأمر قديما، إنفاق الافراد من الاغنياء، بل انفاق الدولة والحكومة، فضلا عن تكوين وبناء مؤسسات كبرى مختصة بالبحث العلمي والانفاق عليه، الى جوار الانفاق، لابد من حرية كاملة للبحث والعلماء، فالعلم وحرية الفكر والبحث لا يقبل أي قيود، ولا يخضع لأي اعتبار سوى طلب الحقيقة. يقول مشرفة “الجامعات والهيئات العلمية يجب ان تترك حرة مستقلة لا تخضع لسلطان السياسة، ولا لسلطان الجاه، ولا لسلطان المال فهي تحقق اغراضها بنفسها، رائدها طلب الحقيقة لذاتها” حرية واستقلال العلم والعلماء ليس رغبة في التفرد لدى العلماء، ولا هي تعبير عن انانية خاصة لديهم هم عند د. مشرفة ابعد عن ذلك، لكن الحرية والاستقلال لغرض آخر يتعلق بالعلم ذاته. يقول مشرفة “العلم الذي يخضع لمؤثرات سياسية أو اخرى خارجية، علم باطل مآله الركود وكل تقدم في العلم اساسه استقلال الفكر وابتعاد الباحث عن كل مؤثر خارجي، وحصره الجهد في طلب الحقيقة، وبعبارة أخرى إن الاستقلال جزء من طبيعة العلم يقتضيه ناموس تطوره، به يحيا وبغيره يضمحل ويموت”. في المقابل، هناك واجبات عديدة على العلماء والباحثين والمفكرين تجاه المجتمع، هو ان تشغلهم قضايا وهموم ذلك المجتمع، ويقدموا له حلولا ناجعة لمشكلاته وأزماته، وطرح مشرفة مشروعا منذ منتصف الاربعينيات لم ينفذ الى اليوم، وهو توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية المتوافرة بكثافة في بلادنا، وتقدر كمية الطاقة التي تهبط كل يوم في صورة الاشعة على الجزء المسكون من الاراضي المصرية، ويبلغ كما قال مشرفة 9 آلاف ميل مربع، هذه الطاقة تزيد على طاقة المحركات الآلية في العالم كله، سواء منها ما دار بالفحم أو البترول، أو بالريح وبمساقط المياه، ولو امكن للعلماء بمساعدة مؤسسات المجتمع دراسة هذا الجانب لحلت الكثير من المشاكل، وما وجدنا ازمات الطاقة والبنزين والكهرباء وغيرها. والحق أن إنجاز مثل هذه الامور ليس واجب العلماء وحدهم، لكن ان تكون هناك إرادة اجتماعية وسياسية تدفع العلماء أو تطلب منهم القيام به، بل تكلفهم بخوض هذه المجالات وغيرها. مسؤولية العلماء كتب مشرفة هذا الكلام بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقتها كان العلم والعلماء يهاجمون في العالم كله، اثر تفجير قنبلة هيروشيما، فقد اتضح الأثر المدمر للعلم على الانسانية كلها، ويدافع هو عن العلم والعلماء بأن المسؤولية تقع على من يستخدمون نتاج العلم والعلماء في الاساليب والادوات المدمرة، سواء القنابل النووية، أو ادوات التعذيب التي يمارسها الحكام على المواطنين ومع ذلك فإنه يتحدث عن المسؤولية الاخلاقية للعلماء حول استعمال العلم ضد مصلحة البشر، وطالب القائمين على تنظيم التعاون العالمي بأن يضعوا القوانين لدرء تلك الافكار، وان يعامل من يريد استخدام نتائج العلم في التدمير والتخريب “معاملة المجرم، سواء بسواء” وان يكون لديهم من سلطة التنفيذ ما يمكنهم من معاقبة هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم، وقد لاحظ هو ان بعض الحكومات تشجع العلماء على اجراء البحوث التي تستخدم نتائجها في التدمير، لقد اتسع هذا المجال منذ الاربعينيات، ويتسع كل يوم ولا رادع من قوانين أو أخلاق. هذه قضية تخص في المقام الاول الدول والمجتمعات المنتجة للعلوم، ونحن لسنا منها، ويضع خطة للنهوض العلمي عندنا تتمثل في عدة خطوات، منها الاهتمام باللغة العربية كي تكون لغة البحث العلمي ويتم التأليف بها، وقد كان منزعجا من ان العلماء العرب يكتبون ابحاثهم بغير العربية ولا يؤلفون الكتب بالعربية، ولا يترجمون الى العربية احدث الكتب العلمية، وبذلك لن تكون لدينا ثقافة علمية، ولن يتشجع الطلاب والباحثون الجدد على خوض الدراسات العلمية، حيث لن يجدوا امامهم كتبا بلغتهم، والحق أن الخلفاء العرب منذ العهد الاموي انتبهوا الى ذلك الجانب فطلبوا ترجمة الكتب اليونانية والسريانية والفارسية وغيرها في مجالات العلوم المختلفة الى العربية، وبلغت حركة الترجمة ذروتها في القرن الرابع الهجري، ثم ظهر من يؤلف ويكتب بالعربية وصارت لغتنا من اللغات العالمية المعدودة وقتها، حيث ترجمت الى اللاتينية اعمال ابن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي وغيرهم من علماء العرب، وكانت اعمالهم تلك بداية النهضة الاوروبية في مجالات العلوم المختلفة. القضايا التي أثارها مشرفة مازالت مطروحة مع تراجع الاهتمام بها، لم يعد احد يهتم بتعريب العلوم والتأليف العلمي باللغة العربية، بل وجدنا من يعارض ذلك صراحة، وبات الفخر والتباهي بأن يكتب العالم والباحث ما لديه بالانجليزية، وان ينشر في دوريات اميركية أو انجليزية، فضلا عن الفرنسية والالمانية. أما ميزانيات البحث العلمي فهي جد متدنية، ولا تكفي لظهور عالم واحد، ناهيك عن بناء مجتمع علمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©