السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

بيروت مدينة الإبداع الرباني والإنساني

15 فبراير 2007 23:34
أحمد خضر: مذ تدلف بوابة المصنع على الحدود مع سوريا، يتجلى لك لبنان بخضرته وأبهته وكبريائه وجماله،إنه كطبعه دوماً لا يتغير،البهاء والسناء والوجه المبتسم، لبنان الجميل جزء من جغرافية البحر المتوسط، لذا طالما كان الإنسان في أحضانه ومنذ القدم أحد البناة الأساسيين لمجد الحضارة الإنسانية، لبنان لوحة فنية بديعة صاغها الله في لحظة رضاه، وجعل كل من فيها جميلا، وحمل الآخرين على تأمل هذه اللوحة، وحبها وعشقها· من صنين الذي يفترشه الثلج حتى نهاية إبريل تبدأ رحلة العشق والتفاؤل والذوبان في الجمال، بالنسبة لزائر مثلي، ذهب إلى هناك وهو في مقتبل العمر، ذلك أن المنظر الذي أطللت فيه على بيروت من الجبل يشبه تماماً الإطلالة ذاتها على حيفا، وميناء حيفا من جبل الكرمل وإذا كان الفلسطينيون اعتادوا على ريادة البحار عبر العواصم المتوسطية الخمس في الزمن القديم، وساهموا في نشر الثقافة والحضارة والقيم الإنسانية المتسامحة، فإن اللبنانيين كذلك حملوا معهم أشرعة حروف الأبجدية، عبر الانطلاق من المدن المفتوحة مثل بيروت وصور وصيدا ينشرونها على امتداد العالم من حولهم· الحرب اللبنانية يقال إن حيفا المدينة (الكزموبولوتية) قبل عام ،1948 وبعد سقوطها في يد الصهاينة وقيام إسرائيل، أخذت بيروت الدور، ولكن بعد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 التي أثرت في كل شيء في لبنان، كان من الطبيعي أن يتأثر الدور الطليعي الهام، وتتأثر الصحافة والثقافة والسياحة، حيث ضاقت رقعة العمل عندما اختفت المهرجانات والمسارح والمرابع إلى حد كبير، وجفت أقلام العديد من الكتاب، وانتقل العديد من الفنانين اللبنانيين إلى مصر، واحتلت القاهرة دور المدينة العربية ( لكزموبولوتية )· وصلت بيروت، ونزلت قريباً من حي صبرا، حيث كان أحد إخواني يدرس في الجامعة اللبنانية، بعد أن جعلت من نفسي عدواً للموت، غير آبه بالقذائف الحارقة والخارقة التي تضيء سماء المدينة، وفي تلك السنين من عمري كنت أعتقد أنني أعيش على بحيرة جنيف، لأنني أسافر إلى مدينة تمثل الحلم بالنسبة لشاب صغير· كانت العلاقات الموجودة بين البشر يسودها الفوضى بسبب الوجود الفلسطيني في بيروت، ووجود المناضلين العرب الذين احتضنتهم الثورة الفلسطينية في تلك المرحلة، وكذلك التناقضات الداخلية ما بين القوى اللبنانية ذاتها، والتي أفرزت الهزيمة عام 1982 ، بسبب الاختلاف في الرؤى، وعدم وحدة المواقف والأهداف · لم أكن في تلك المرحلة من حياتي أهتم بالسياسة، لكن ما نراه في بيروت اليوم ـ وهو ما لا نرجوه ـ ربما يعيدنا إلى صورة الماضي، إذ ما زالت بيروت تتجاذبها الصراعات والخلافات· ومع ذلك فإن بيروت هي بيروت، لها مقامها في السلم، وفي الحرب، إنها مثل الحياة في سرائها وضرائها، ونهارها وليلها، وشمسها، وقمرها، وإذا ما اعتل الجسم يوماً فإنه لا يمحو شخصية صاحبه، فبيروت هي بيروت، بلد الحرية والانفتاح والديمقراطية،العاصمة الرائدة في الفن والفكر والثقافة والسياسة، مدينة الموضة والجمال والإبداع الإنساني· بنت الجيران من الأمور الطريفة التي حدثت معي في تلك الزيارة المبكرة لبيروت، ولم يكن عمري يتجاوز الثامنة عشر عاماً، أن أحد الأقارب من الشباب الذين غادروا نابلس للدراسة في جامعة بيروت العربية، تعلق في حب بنت الجيران، وهي فلسطينية من سكان لبنان، وبمجرد وصولي طلب مني أن أذهب معه، وهو بعد في السنة الثالثة الجامعية، من أجل طلب يد البنت من والدها، وكان والدها أحد قادة التنظيمات، وهكذا حدث حيث وافق الأب دون تردد، بعد أن أسمعنا محاضرة عن ضرورة أن تقوم العلاقات الزوجية على الثقة والاحترام، وكانت تلك أول مرة أطلب فيها فتاة للزواج، ويكلل طلبي بالنجاح، أما بقية المرات رغم أنني أصبحت أكثر نضجاً، فإنها جميعاً فشلت، وكنت في كل الحالات أبتسم، وأحياناً أضحك، لأن شر البلية ما يضحك· في بيروت ذهبنا إلى الروشة، وهي عبارة عن حجر مرتفع جداً عن البحر، يذهب الناس هناك للاستمتاع والسباحة والجلوس على الشاطىء، وربما للانتحار، وفي إحدى المرات التي كان فيها البحر غاضباً، وهناك حوامات بحرية تنبىء بالخطر، نزل أخي يسبح، وما هي إلا بضعة ثوان حتى أخذت الحوامات تسحبه بعيداً عن الشاطىء،ويبدأ بالغرق، فقمت أنا بمحاولة إنقاذه فكدنا نغرق معاً، ولولا بعض الشباب اللبنانيين الذين هبوا لنجدتنا ورموا بنا على الشاطىء لكنا الآن في خبر كان، ومن يومها، لم أستطع أن أتغلب على الخوف من الغرق، ولم أنزل البحر من أجل السباحة· من المعالم الهامة في بيروت جامعة بيروت العربية، التي كان لها فضل كبير في تخريج أفواج من الطلاب العرب، وهم يحتلون اليوم أعلى المراكز في بلدانهم، وفي بيروت كذلك الجامعة اللبنانية، والجامعة الأمريكية، التي تخرج فيها كبار القادة والمفكرين والجامعة اليسوعية، وغيرها· كنا نطل على المدينة الرياضية، ونسير في منطقة الرملة البيضاء، حتى السفارة الكويتية، وفي أسواق بيروت، وشوارعها التي ما زالت تمتلىء بالشعارات السياسية، وصور الشهداء والزعماء العرب والعالميين، وكل صورة تعبر عن رمز لحزب سياسي معين من الأحزاب اللبنانية، صور عبدالناصر، ومعروف سعد، وكمال جنبلاط، وتشي غيفارا، وغيرها وغيرها، وهناك ساحة رياض الصلح بطل الاستقلال اللبناني الذي اغتيل في العاصمة الأردنية عمان منتصف الخمسينات، تلك هي بيروت مدينة الجميع· مدينة الشعراء بيروت مدينة الشعراء والفنانين، والقامات الفنية الشامخة من فيروز التي لم تغادرها في الحرب الأهلية،إلى ماجدة الرومي التي صمدت فيها خلال العدوان الصهيوني الأخير على لبنان،في بيروت يظهر بجلاء مستوى الغنى الفكري والثقافي الذي يتمتع به الفنان اللبناني،وانفتاحه على التيارات المعاصرة من نافذة خلاقة واعية ترنو إلى العدالة والخير والجمال،إنها مدينة الرواد الذين أطلقوا المسرح والفكر والفن والثقافة إلى العالم العربي،وقد منحت الأبعاد التاريخية الحضارية الإنسان اللبناني، أن يؤثر في أقصى مكان على وجه الكرة الأرضية عبر الهجرة إلى أمريكا الشمالية والجنوبية أواخر القرن التاسع عشر ، وأوائل القرن العشرين، انطلق من موقع لبنان المتوسطي الهام في قلب الحضارة القديمة، ليشارك في مسيرة الحضارة الجديدة، حاملاً مشعل الثقافة الإنسانية، يشق عبر المسيرة التاريخية درباً متصلاً في طريق الحرية والنور· البعض من الأحفاد اندمجوا في المجتمعات الجديدة، وصاروا قادة ومسؤولين ورؤساء دول،والبعض عاد ليدفن في ثرى لبنان مردداً بعد طول غياب ما قاله الشاعر القروي وهو يخاطب حبيبته (مود) الأجنبية حيث اشترط في رفيقة العمر أن تكون من قومه العرب: ولو لم تكوني فرنجية لكنت سعادي قبل سعادي لعمرك يا مود لولا ذووك لما فرق الحب بين العباد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©