السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حفيت.. حصيرةُ الإثنولوجيا

حفيت.. حصيرةُ الإثنولوجيا
6 نوفمبر 2014 15:20
لا شيء في مدينة العين يمتّع العين أكثر من النظر إلى الشواهد التاريخية التي تتناثر على أرضها في بذخ ديموغرافي يدير الرأس.. اينما تسرّح بصرك ثمة حكي يسيل من الحجر. لا شيء يمكنه أن يسرد روح المدينة بمثل هذه البلاغة.. وحدها تلك الحجارة الهاربة من عصور التاريخ يمكنها أن تدخلك في طقس إغوائي تدبّره لك على هواها لتقع في شراكها، وإذ تفعل تجد أنك أمام رَشْقٍ جمالي ينصب عليك من كل حدب وصوب. هكذا أرى العين التي لطالما تدخْلنَت فيّ وهي تأخذني إلى خيمة التاريخ العتيق. تفرش لي حصيراً اثنولوجياً منسوجاً بخيط حضاري يرجع نسبه إلى سبعة ملايين سنة.. لا يروي فقط تاريخاً عريقاً يسكن ذاكرة المكان، بل يعكس حجم التنوع الحضاري والثقافي الذي مرّ على رأس المدينة وأقام في قلبها. شـهـيـرة أحــمــد بهذا الدفق الانفعالي أذهب إلى مدينة العين كل مرة.. أيمّم شطر الآثار ولسان حالي يقول: لا ينبئكِ بتاريخ العين إلا آثارها؛ وفي كل مرّة أرجع بصيد ثمين وجعبتي ملأى. في رحلتي الأخيرة عثرت على ضالتي في جبل. لقية من كنوز البعيد الإماراتي ستأخذني إلى مطارح أخرى. تمرّر لي درساً لأدرك أنني أعرف عنها شيئا وتغيب عني أشياء. أما اللقية فهي جبل حفيت، هذا الذي غادرته وفي روحي شيء من النقصان.. النقصان الجميل الذي يجعلك تنحني أمام حكمة الحياة العميقة النائمة في بطن البشرية الذي حبل بحضارة وادي الرافدين ومصر القديمة.. حضارتان ثريّتان يبوح بعلاقتهما بالإمارات لسان جبل حفيت. هنا سفر الغواية مفتوح على الروح البشري العتيق.. هنا امتدادات المكان والزمان تسردها حضارة ضمت الشواطئ كما احتضنت مساحات الداخل ثم انتشرت في البلاد.. هنا لقىً من كل شكل ولون استخرجها قرّاء الحجر من بطن الأرض التي عايشت عصور التاريخ الأولى: الحجري والبرونزي والحديدي... الحكمة.. جبل لا تفتح العين سفرها الحضاري إلا وتدعو عينك لتمارس اغتسالاً بصرياً في قلبها الذي ينبض بين جنبيّ الجبل؛ الجبل العالي الذي يرسل لها مع كل شروق رسائله الحضارية ثم يلمّ العابرين في المساء ليقضوا في فضاءاته العالية ما شاء لهم الحب وشاءت لهم الرغبة في المعرفة أن يقضوا من الوقت. على بعد شهقة من حصن الجاهلي العريق يقع الجبل الرابض مثل أسد في وجه العاديات. الجبل الذي ظل يخبئ مطموراته ولقاه تحت طبقة كثيفة من الإهمال التاريخي لآلاف السنوات، إلى أن قرر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «رحمه الله» في لحظة صواب حضاري أن يستمع لما يقول الجبل. فكان أن حضرت أول بعثة دانماركية من البحرين للتنقيب عن الآثار.. وتحت ضربات مطارق الآثاريين قال الجبل بفصاحة سرديته التي فاجأت الجميع بعمق الجذور الحضارية للإمارات.. ثم توالت البعثات وتوالت معها اللقى والاكتشافات. في اللغة.. جبل من فعلٍ له نفاسَتَهُ الوجودية خرج الجبل الاسم.. من (جَبَلَ) الفعل، الذي تسمع في نطقه هسيس الحياة وهي تتخلق في الكون تأتي الدلالات إليّ تسعى. أنتخبُ بعضها لنصي وأدحرجُ بعضها الآخر إلى أسفل الجبل. في الجَبَل والجَبْل يحضر الماء والتراب، يصيران طيناً.. ومن الطين (جُبِلَ) الإنسان. قيل إنه جُبِلَ على الكرم، لكنني كغيري من المتشائمين لا أرى كرماً ولا ما يحزنون... هل من الكرم في شيء أن يُتْحِفَ الإنسان الكوكب بكل هذا النكران الجمالي، ويزوّده بكل هذه النفايات والفضلات التي لا ترحم مناخاً ولا بيئة؟ ربما في باحة دلالية أخرى يلتقي الجبل بالإنسان، في الاسم يقع المرء على دلالات العلو الذي يفعل الإنسان المستحيل لكي يحصل عليه، غير عابئ بمن يسحق في سبيل تحقيقه.. في الثبات أيضاً (يقال: فلان جبلُ: ثابت لا يتزحزح) وفي المثل الشعبي (يا جبل ما يهزّك ريح)، والجبل: سيّد القوم، و... و... وأترك المعاني تعانق بعضها على الورق، وأسحب معنىً واحداً يخصّني في الكتابة عن الجبل: العالِم، هذه أول صفحة من كتاب الجبل. نصّ.. للجبل دارت العين دورتها ثم استقرّت على الجبل، قلت له: نصّك أيها العالي. هيّا امنحني بعض ما لديك؟ قال: توغلي في معناي واقرأي دلالات الآركيولوجيا في أعماقي، تزهر بين يديك حكمتي. قرأت كتباً كثيرة، تمليت شواهد وقبوراً للموتى، مررت على أقوام يرفلون في نعاسٍ تاريخي. فاجأني عبق سحر غرائبي يأتي من نائيات العصور يقرأ عليَّ ما تيسّر من سير العابرين.. أطلّت أثنولوجيا تفصح عن أجناس وبنيانات ثقافية ومبانٍ آثارية وتقاليد تتمطى في قرون لا يدرك معناها إلا الراسخون في أرواح المدن، الذين يقولون إن العين ظلت مأهولة حضارياً بشكل متواصل منذ أواخر العصر الحجري، ثم يضيفون بهزّة الرأس إياها: وهنا تكمن أهميتها. هناك، على كتف الجبل الذي يغازل واحة العين والبريمي من ارتفاع (1200) متر فوق مستوى البحر، تتخلص العين من فكرة الإبصار لتدخل في سعة البصيرة. فالجبل لا يصيبك بالدوار التاريخي فقط، بل يدخلك بكل أريحية في رحلة معاكسة للزمن، إلى الماضي القديم لتدخل في العصر الحجري من خلال لقى ومدافن يعد بعضها من اقدم الآثار البشرية. على طول الطريق المؤدي إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، تشاهد القبور القديمة. تحكي لك عن علاقتها والروابط التي ربطت بين أبوظبي والمدن القديمة في بلاد الرافدين في تلك الحقبة من فجر التاريخ، تشعر بقشعريرة روحية لعل مصدرها سطوة الفناء الذي لا يترك أحداً. يقرئك الحجر السلام الآتي من حكمة الرفات: منذ ما يقارب 5000 سنة اختار سكان المنطقة الأوائل الجرف الشمالي والمنحدرات الشرقية لهذا الجبل لدفن موتاهم. وهنا، في البقعة التي تقف عليها الآن، سائحاً أو باحثاً يرتجف في العراء الوجودي، عثر الحفارون على 500 قبر. كانوا هنا، عاشوا، ضحكوا، بكوا، تزوجوا، تشاجروا، تحابوا.. مارسوا الحياة بكل عنفوانها ثم... ذهبوا.. كلهم ذهبوا. تركوا آثارهم لتدل الباحثين عليهم. تركوا قبورهم، بعضها اندثر وما تبقى أو ما نجا منها من فكّي التطور أو التمدن ينبئك بما كانت عليه حياتهم. هذه مدافن حفيت (تُعرف أيضاً بمدافن مَزيَد وهو اسم القرية التي تقع بالقرب من المجموعة الشرقية، المجموعة الناجية من التلف)، تأخذك إلى الحقبة المعروفة في أدبيات علماء الآثار بـ «فترة حفيت»، وهي الفترة الممتدة من (3200 إلى 2700) قبل الميلاد. تقرأ في القبور دلالات الغموض البشري وحيرته أمام ظاهرة وجودية مريعة: الموت، ففي هذه المدافن تتكدس الأسئلة الفلسفية الكبرى عن معنى الحياة والموت والتحقق الوجودي للبشري. تتساءل: لماذا وضعوا موتاهم في قبر واحد؟ يجيب علماء الآثار والمتخصصون: نعتقد أن سكان الإمارات الأوائل كانوا يدفنون الموتى معاً في قبر واحد (نحو عشرة معاً في مجموعات عائلية) لأسباب لها علاقة بطبيعة التنظيم الاجتماعي.. تراه رهاب الوحدة والعزلة الكاملة في مواجهة الغامض جعلهم يتكاتفون في الموت.. أم أنهم اعتقدوا مثل غيرهم بأن الميت ينتقل إلى حياة أخرى يحتاج فيها إلى بعض حاجياته.. لماذا بنوا قبورهم بتصميم يشبه خلية النحل؟ يظل السؤال معلقاً في شرنقة علم الآثار، أما أنت، فتستشعر في داخلك سكينة مفتقدة، تريحك ولو لساعات قليلة من مشاهد الموت المجاني، المتواتر على شاشات الفضائيات التي لا تمنحك سوى البؤس البشري على هيئة صورة.. بعيداً عن صداع الأفكار الكبرى وثقل صخرة المعرفة تجلس في حضرة الموتى، تضع رأسك بين فكيّ التاريخ، هارباً من كل قيد، حراً، خارجاً على النسق، تتقدم بصدر عار تماماً، بعدَمٍ سارتريّ، وجنون كيريجارديّ، تدخل متاهتك باذخاً، أنيقاً كيوم ميلاد، ضارباً عرض الحائط بتنظيرات البنية أو تعقيدات الخطاب المكاني عند باشلار.. أبسط ، أبسط، أبسط من صوفي متمرّس تدخل في جبّة المعنى، في بياض العصور.. تدخل فيكَ أو تلتفّ على نفسك، كما كهف، وحيد، وأعزل. هذا هو النص أمامك.. مفتوحاً على آخره لتذرعه بشهوة التلصص على مطمورات الكائنات، حيواتها الذائبة في كسرة فخار أو قطعة برونز.. تتهاطل الأسئلة من غيوم الرأس واحدة تتبع أختها، تدخل في التأويل. في الموت تتحقق المساواة الكاملة.. ها هنا تتشابه المدافن من حيث الأحادية والتقسيم. كل واحدة منها تتكون من غرفة واحدة ذات شكل دائري أو بيضاوي مبنية من الأحجار المحلية غير المشذبة. كان بإمكان هذه القبور أن تعطينا معلومات أكثر عن حياة الأسلاف، لكن التخريب والنهب الذي لحق بها عبر العصور حرمنا من الكثير... مع ذلك، يمكن للأواني الفخارية القليلة التي تم العثور عليها أن تنبئنا بأنها جاءت أو تم استيرادها من بلاد ما بين النهرين. فهي مزينة برسومات هندسية وتوريقية من النوع الذي يطلق عليه فخار (جمدت نصر)، والذي يرجع تاريخه إلى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. رأس الجبل في طريقك إلى قمة الجبل، ستجد الكثير من المعلومات التاريخية المكتوبة في ملصقات مثبتة على صخور كبيرة. تقرأ فيها عن الطبيعة البيئية والجغرافية والجيولوجية القديمة للجبل فيما أنت تجيل الطرف في الماحوْل. تدلك المعلومات على أحافير بحرية يعود تاريخها إلى 70 مليون سنة مضت، عندما انبثق الجبل عن المحيط. تقول الكتيبات التي أعدتها هيئة أبظبي للسياحة والثقافة أنه تكوّن من صخور رسوبية يعود تاريخها إلى العصر الجيولوجي الثالث. يترسب في أعماقك إحساس نشوة مباغتة.. تصعد إلى قمة الجبل فيزيائياً فيما أنت تمارس صعوداً داخلياً في الوقت نفسه.. تتأمل ما حولك من جمال.. قبل بناء الطريق السريع الذي أنشئ عام 1986م، لم يكن من السهل الوصول إلى رأس الجبل.. كيف تعرف كائناً من دون رأسه؟! الآن يمكنك الحصول على رأس الجبل/ معرفته التي يتسرب ضوءها من الأحافير معلناً حضور الماء في ذاكرة الجبل. على قمة الجبل لا تقع العين فقط على أجمل مشهد لمدينة العين، إنما تمارس حريتها بعيداً عن الجدران.. هنا، تخرج الروح على هواها لتركض في حرية المعنى وحقول الدلالة.. هنا تستعيد النفس علاقتها الأولى مع أمّها، الطبيعة، وتسرح في ملكوت يتجلّى على خط الأفق.. هنا نسيم يهب رقيقاً، على مهله مغادراً أواخر أكتوبر ليحل ضيفاً على نوفمبر، يأتيك هادئاً، عليلاً، رقيقاً، يداعب صفحة وجهك اليمنى فتدير له اليسرى.. كم أنت متعب من صخب الحياة وتكاليفها، هكذا تهمس لنفسك وأنت تدخل في طقس الجبل في لغة الصمت التي يتقن حفيت صياغتها. لحظة الغروب على هذا الجبل تحرك لواعج القلب، تسحنه سحناً حين تستحضر من الذاكرة العتيقة ذكرى جبل في الذاكرة رميت ذات مرّة فوق كتفيه شالي المطرز بعبق كنعانيات قديمات، بين الجبلين تشققت الروح ونمَتْ بل قل تعملق شجر الغياب.. بين جبلين تحتدم في النفس ضلالاتها، تصفر رياح من كل كل ولون، تولد أفكار شتى وتكبر فجأة كما يكبر ابن الحكاية في سطر واحد. بين جبلين حكايات وحكايات... مشاهد منحيفا لا تغرب عن البال تلتقي بمشاهد العين فيما تحلق على مقربة من القلب سنونوة صغيرة، خطر لها ذات سفر، أن تسافر في الأرض لتجمع الحكمة. بين جبلين.. يصحو الجمال وتصحو الذكريات كما لو أن أحدهم فتح باب الأبدية... هناك، في الأعلى، في القمة الشاهقة، وضعت يدي على قلبي... خشيت عليه من الفتنة!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©