الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما وراء النَّص المُجدول

ما وراء النَّص المُجدول
6 نوفمبر 2014 15:22
في أية مناسبة يكون فيها الفيلسوف الإيطالي (أمبرتو إيكو) موجوداً بقامته المعرفية، عندها تتوهَّج لديه أنوار التأويل السِّيميائي، سواء كان ماكثاً في (منزله) وهو يكتب رواية أو يتجوَّل في ممرات مدينة (البندقية) المائية بزورق ما أو عندما يكون في (متحف اللوفر) وهو يتأمَّل لوحات كبار الفنانين العالميين، وهو ما حدث له عندما وجّهت إليه دعوة في عام 2009 لإلقاء محاضرات عن موضوعات عدَّة؛ تلك المحاضرات التي تجاوز فيها «الشكل الفني» إلى «ما بعده»، وتحديداً الانطلاق من تناهي «الشكل الجمالي» إلى «لا نهائية الجمالي» فيها أو إلى «جماليات اللامتناهي» أو «جماليات ما بعد الجدولة»، وذلك بالانطلاق من مفاهيم قرائية غاية في البساطة، لكنّها من أشد المفاهيم تأويليةً في المجال السِّيميائي، تلك التي كثَّفها في مفهوم «لا نهائية القوائم» بدلالته السِّيميائية النابضة عشقاً وهي تبحر في معالم ما هو خارج جدولة المعاني والعلامات في أي نص طبيعي أو متخيَّل كما ظهر ذلك في كتاب إيكو (لا نهائية القوائم). د. رسول محمد رسول هكذا إذاً جرى الأمر؛ ضميمة من المفاهيم التأويلية يقرأ بها إيكو مجموعة من النُّصوص الشِّعرية والسردية والتشكيلية باحثاً فيها عمّا سقط من جدولة المتخيَّل الإبداعي فيها أو ما أرجأه المبدع في نصه ليبقى خارجه سابحاً في عالم لا متناه. في منظور إيكو، تبدو «لا نهائية الجمالي» عبارة عن «إحساس يتأتى إلينا من الاكتمال التام والمحدود للشيء الذي ينال إعجابنا»، فعندما ننظر إلى إحدى لوحات (سلفادور بالي)، مثلاً، نمتلك إحساساً بتمامية هذا الشكل الجمالي الطبيعي، إلاّ أن هناك يوجد، وكما يرى إيكو، وعي جمالي آخر بالأشياء أو نمط تمثيلي آخر لا يقف فقط عند تمامية المعنى والدلالة الخاصتين بأي شكل من الأشكال، بل يتجاوز ذلك بفتحهما على عوالم لا نهائية، وهو ما يمثله مفهوم القائمة (List) الذي يحفل به إيكو هذه المرة، فهو يفترض وجود «لا نهائية فيزيقية» لكل الأشياء، لا تنحل ولا تنتهي في شكل معين؛ لا نهائية تدور في فضاءات ما بعد أو ما وراء نص الموجود الجمالي، كنص منظور ومرئي وقابل للتأمُّل والقراءة الحرة. إن «أسد بابل» في العراق، و»برج إيفل» في فرنسا، و»برج خليفة» في الإمارات، هي أشكال فنية اجتهد مصمموها في بناء قائمة خواصها، لكن تبدو تلك الخواص المجدولة محدودة من حيث الكم والكيف، ما يعني وجود خواص أخرى غير مجدولة؛ خواص غير متناهية لم يكن الشكل الذي ظهرت به هذه النماذج قد احتواها، بل وضعها جانباً، وهنا تبرز دلالة مفهوم «لا نهائية القائمة» بوصفه مفهوماً إجرائياً يهدف إلى تأويل دلالات الشكل الفني، خصوصاً المتخيَّل منه. إن كل خاصَّة من خواص أي شكل جمالي، مكتوب أو مقروء أو منظور، تمثل عنصراً من عناصر القائمة حتى يظهر كل عمل فني بقائمة يضمّها شكل ما، ويظهر، في الوقت نفسه بعناصر أخرى لم ترد في تلك القائمة. تطبيق سيميائي يبدو هذا النمط من التمثيل الإبداعي قديماً لدى (هوميروس) ولدى (هزيود)، لكنه، وبحسب إيكو، ظهر مجدداً خلال العصور الوسطى في المختصرات الدينية، وظهر في العصور الحديثة؛ عصر النَّهضة، وعصر الباروك، فضلاً على عصور ما بعد الحداثة، وهو ما تناوله إيكو في كتابه (Vertigine della Lista) = (لا نهائية القوائم.. من هوميروس إلى جويس)، الذي صدر باللغة الإيطالية في عام 2009، وحظي بترجمة أولى إلى اللغة العربية نهض بها (ناصر أبو الهيجاء)، ومراجعة الدكتور (أحمد خريس) من الأردن، وصدر ضمن منشورات (مشروع كلمة للترجمة) في أبوظبي عام 2013، وهي الترجمة التي حافظت على كل اللوحات التشكيلية التي نظرَ فيها إيكو في الطبعة الإيطالية الأصل من الكتاب، وعمدَ إلى تحليلها فكان التأويل السِّيميائي لهذه اللوحات والقصائد الشِّعرية التي وردت في متن الكتاب مقرونة بوجود اللوحات والقصائد نفسها بين دفتي الكتاب، ما عدَّ - هذا الكتاب - مادة تحليلية تطبيقية ذات جدوى للمهتمين بالتحليل السِّيمائي للنّصوص الشعرية والنثرية والتشكيلية المرئية. بعد «المقدِّمة»، يتضمَّن الكتاب فصولاً عدَّة هي على التوالي: الترس وشكله كتأويل لـ (ترس آخيل). والقائمة والكتالوج، يحدِّد إيكو فيهما مفهومه لمعنى القوائم، ويتطرق إلى كتابات هزيود في أنساب الآلهة، وكذلك إلى الفصل الثاني من إلياذة هوميروس. والقائمة البصريَّة، ويتناول فيها تأملاً مقارناً بين لوحة (الموناليزا)، ولوحة (المباهج الأرضية)، ولوحة (يوم الدينونة) بوصفها لوحات «تتكاثر سماتها ومعانيها خارج إطار اللوحة». وما لا يُوصف، ويعود فيها إلى كتابات هوميروس الذي «قدم من خلال عرضه للسفن مثالاً رائعاً على القائمة، التي تزداد فاعليتها بقدر تغايرها مع شكل الترس، فحسب، وإنما يستدعي أيضاً ما يطلق عليه الأنماط التي لا توصف التي تكررت غير مرة لدى هوميروس في الفصل الرابع» من ملحمته، والأمر نفسه يجده إيكو في الفصل السادس من (إلياذة فرجيل)، وكذلك في (الكوميديا الإلهية) لدانتي، والقوائم الخاصَّة بالملائكة، وأيضاً بالشياطين كما تبديا في لوحة (الملائكة في كوكب عطارد) لغوستاف دورييه، وفي لوحة (أشكال شيطانية) لكولين ديبانسي. وقوائم الأشياء، ويتناول فيه القصيدة الرابعة والثلاثين للودوفيكو في القرن السادس عشر، وكذلك نص لماكبث شكسبير، ونص بستان المسرة لأدونيس أو مارينو في القرن السابع عشر، وكذلك بعض النصوص النثرية لتوماس مان من (دكتور فاوستس)، وباتريك زوسكيند من روايته (العطر). واضح هنا أن إيكو يقدم مادة تحليلية لمن يريد معرفة الكيفية التي اشتغل بها عدد كبير من المبدعين في العالم، وعبر التاريخ، على سرد الظواهر المادية، الحسية والحيوية، مثل قوائم الأماكن، وقوائم العجائب، وقوائم المجموعات والكنوز، وقوائم الإعلام، وقوائم الأشياء غير الطبيعية، والتبادلات بين القوائم الشعرية والعملية، وكل قائمة من تلك القوائم يشفعها إيكو بنماذج من النصوص الإبداعية والجمالية المتخيلة وغير المتخيلة كشواهد دالة على ذلك، وكذلك مشفوعة بعدد وافر من اللوحات التشكيلية لكبار الفنانين العالميين التي تعكس حالة الأشياء المجدولة في قوائم لا تكاد تنتهي. القوائم اللانهائية ختم إيكو كتابه بفصل اختار له عنوان (القوائم اللانهائية)، تحدث فيه عن تجربة بورخيس في (برج بابل)، وكذلك تجربة توماس بافل في كتابه (العوالم القصصية) الذي صدر عام 1986، وكلاهما يأخذنا، وعبر الكتاب والمكتبة، إلى تعدد غير متناهي من العنوانات والمكتبات حتى ليخيَّل لنا بأن العالم لا يعدو أن يكون كتاباً ومكتبة لا غير، حتى إن أيكو يقدم لنا بضعة نصوص مسلية في هذا المجال وهي تتناول عوالم الكتب والمكتبات، هي: حياة عظماء الفلاسفة ورؤاهم لديوجين لايرتيوس، وخمسة كتب عن حياة غارغانتو فرانسوا رابلييه، والفصل السادس من كتاب دون كيخوته لميغيل دي ثربانتس، والفصل الثالث من كتاب ضد الطبيعة لجورجيس كارل ويسمانس، وأخيراً نص من رواية إيتالو كالفينو (لو أن مسافرا في ليلة شتاء). أخيراً، يبدو لي، أن أمبرتو أيكو في كتابه هذا (لا نهائية القوائم)، كشف عن باعه الطويل في متابعة كل ما يمت بصلة إلى جمالية الكتابة السردية؛ فهذا الكتاب يدخل في صميم عملية تلك الكتابة عامة والروائية منها على نحو خاص. ولا أغالي إن قلت إن فصول هذا الكتاب تقدم لنا درساً في كيفية قراءة نص الوجود عبر تأمل نص الأشياء من حولنا، إنه درس تعليمي يقدمه لنا هذا الكتاب لكي نعرف ماذا علينا أن نجرد ونحن نعيش يوميات حياتنا، وماذا نصطفي ونختار من تلك الأشياء التي تصادفنا لكي نرتقي بها إلى مصاف التمثيل الإبداعي المتخيل في رواية أو قصة أو مسرحية أو حتى في عمل تشكيلي ما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©