السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نزهات في غابة السرد

نزهات في غابة السرد
6 نوفمبر 2014 15:23
في كتابه «ست نزهات في غابة السرد»، يطرح أمبرتو إيكو قضايا جوهرية تتعلق بالظاهرة الأدبية من خلال النص السردي، وهو الرواية تحديداً، والمؤلف والمتلقي. وسأكتفي بالتقاط ما يتعلق بالقارئ من خلال ما ورد في المحاضرات الأربع الأولى وهي: (ولوج الغابة، غابات لوازي، التريُّث في الغابة، الغابات الممكنة). فهو يميز بين قارئ فعلي وآخر نموذجي. فأما القارئ الفعلي فيمكن أن يكون أي شخص. لا تخضع قراءته لأية ضوابط أو قوانين، إنها قراءة حرة. لكن غالباً ما ينساق فيها إلى أهوائه حين يصادف إثارات تتعلق بتجربته الشخصية. لذلك فهو لا يقرأ النص بقدر ما يقرأ نفسه. مخلوف عامر يُمثِّل لهذه الحالة بصديق عاتبه على أنه أدرج في روايته بعض أفراد عائلته، وكان مخطئاً. إذ هم أفراد من عائلة الكاتب أيْضاً. بهذا المعنى، فإن القارئ الفعلي، يبحث في النص عمَّا يبرر قناعاته ويؤكدها معتمداً على إشارات ولو جاءت في النص عارضة، فيقوم حينئذ بتغييب النص: «القارئ الفعلي هو أي كان، نحن جميعاً، أنت وأنا ونحن نقرأ النص، فهذا القارئ قد يقرأ بطرق مختلفة، فلا وجود لقانون يفرض عليه طريقة معينة في القراءة، وعادة ما يتخذ النص وعاء لأهوائه الخاصة، وهي أهواء مصدرها عالم آخر غير عالم النص، ولا يقوم النص سوى بإثارتها بشكل عرضي». «أما القارئ النموذجي الذي يتحدّث عنه إيكو 1979، فإنه لا يحضر بصفته المحفل الذي يشارك ويتفاعل مع النص فحسب، إنه يولد إلى حد كبير من النص، إنه يشكل العصب الاستراتيجي التأويلي. والحاصل أن أهلية القراء النموذجيين تحددها نوعية الأصل التوليدي التي يمدهم النص بها (...) وفيما هم نتاج النص وأسرى لديْه، فإنهم يتمتَّعون بالحرية التي يمنحهم النص إياها». ويبدو أن «إيكو» يختلف إلى حد ما مع «إيزر» حين يرى هذا الأخير أن فكرة القارئ الضمني أو المحتمل تحيل على «بنية نصية تسبق حضور المتلقي» (...) «دون أن تحدده بالضرورة»، ويستعيض عن ذلك باستعمال الاستراتيجيات النصية ويتحدث عن قارئ تخييلي، وكأن الأبنية النصية تخلو من هذه الاستراتيجيات النصية. أو كأنه ينأى بنفسه أحياناً عن القول بالدلالة على الرغم من أن القراءة بالنسبة إليه ليست سوى شطر بسيط من الواقع، ويستحيل على أي كاتب أن يرصد تفاصيل الواقع والحياة والكوْن لأنها أوْسع بكثير من نصه المحدود. وكما يقول: بول ريكور: «الكتابة شريحة من الحياة قبل أن تهاجر بها الحياة إلى الكتابة». التباس لا شك أن تشبيهه النص السردي بالغابة، تشبيه ذكي وغني، لا يختلف عمَّا يقوله «عبد السلام المسدي عند تمييزه النص الأدبي من سواه: «إن الحدث الألسني «العادي» هو خطاب شفّاف نرى من خلاله معناه، ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو منفذ بلّوري لا يقوم حاجزاً أمام أشعة البصر، بينما يتميّز عنه الخطاب الأدبي بكونه ثخيناً غير شفّاف، يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكّنك من عبوره واختراقه، فهو حاجز بلّوري طُلي صورا ونقوشا وألوانا فصدّ أشعة البصر أن تتجاوزه» (1). إلا أنه تشبيه يحمل بالنسبة لي التباساً لعل مردَّه إلى ثقافة ّ«إيكو الموسوعية» وخلفيته الثقافية التي يستشهد فيها بأعمال لم نطَّلع عليها وليست من تراثنا. فلعلَّ «إيكو» ينطلق من نموذج أدبي متكامل، يمتلك مقوِّمات الكتابة الروائية، ولكن هل كل نص سردي صالح لأن يُشبَّه بغابة من هذا النوع أو بغابات «لوازي»؟ ثم من هو القارئ الذي ينتظر منه المؤلف أن يشارك ويتفاعل من غير أن يدخل الغابة بفكرة مسبَّقة؟ «إن قراءة نص سردي ما معناه تبني قناعة أساسها: يعقد القارئ ميثاقاً تخييلياً مع المؤلف، وهو ما كان يسميه كولردج «تعطيل الإحساس بالارتياب» فعلى القارئ أن يعلم بأن المحكي هو قصة خيالية دون أن يعني ذلك أنها مجرد كذب، إن المؤلف يوهم فقط». (ست نزهات في غابة السرد، ص: 125). لكن على الرغم من هذا الميثاق الذي هو ضروري، والذي يدرك القارئ بموجبه أن النص خيالي، إلا أنه يقبل بالدخول في اللعبة. وهي ليست لعبة سهلة، خاصة في الكتابة الروائية المعاصرة. إذ تداخل الأزمنة باعتماد السوابق واللواحق والتَّماس بين المؤلف والسارد والمناوبة بين الضمائر والقدرة على التمييز بين زمن الحكاية وزمن الخطاب وزمن القراءة، وغيرها من التقنيات التي صارت ظاهرة شائعة في الكتابة السردية، كل ذلك يطرح أمام القارئ مهمة شاقة تلزمه الصبر وقراءة النص عدة مرات. إنه يعيد ترتيب الأزمنة والوقوف على ما تعمَّد المؤلف إضاعته. وينتهي إلى أن يقوم بعمليات تأويلية يتطلَّبها الصوت. فالنص كما يقول«إيكو» «آلة كسولة توكل إلى القارئ جزءاً من عملها». قد تكفي قراءة واحدة بالنسبة لقارئ من الدرجة الأولى يسعى إلى معرفة كيف تنتهي القصة التي بدأها.. «إلا أن النص يتوجَّه أيْضاً إلى قارئ نموذجي من الدرجة الثانية: وهذا القارئ يتوق إلى معرفة أية نوعية من القراء يريد النص، كما يطمح إلى اكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجي من أجل تسريب معلوماته قطرة قطرة، فمن أجل معرفة نهاية القصة، يكفي أن نقرأ مرة واحدة، ومن أجل التعرف على المؤلف النموذجي يجب قراءة القصة مرات عديدة وربما إلى ما لا نهاية». (المصدر السابق، ص: 55- 56). وبحكم هذا العقد التخييلي بين المؤلف والقارئ، لا يهمني بوصفي قارئاً أن «زينب» أخت المهدي بن تومرت هي فعلاً من تصدَّرت المعركة إلى أن سكن الرمح صدرها ولفظت أنفاسها الأخيرة، بقدر ما تعلق في ذهني الصورة التي رسمها «كمال الخمليشي» في روايته (الإمام). بينما يستمر المؤرخون في بحثهم وفي تقليب الروايات التي قد لا تستقر إحداها على حقيقة ثابتة. الرقعة الأرجوانية إن المؤلف قد يلجأ إلى إبطاء الحركة وكأنه يدعو القارئ إلى التوقُّف. وقد يبدو هذا بالنسبة للبعض مضيعة وقت أو يشعره بالرتابة والملل، لأنه يتعجَّل الوصول إلى النهاية أو إلى موقف أكثر درامية، كما حدث مع الشخص الذي كان يشتغل لحساب ناشر «بروست» حين لم يستسغ كيف أنه في (البحث عن الزمن المفقود) استغرق (ثلاثين صفحة لكي يصف لنا كيف أنه ظل يتقلب في فراشه قبل أن يداعب النوم جفنيْه). إن التهدئة كما يرى «إيكو» من شأنها أن تسمح للقارئ باستدعاء تجربته الحياتية ومخزونه الثقافي والمعرفي، ويقوم بجولات استدلالية تمكِّنه من توقُّع ما سيتلو. فالتريُّث لا يعني –دائماً – مضيعة وقت، بل كثيراً ما يساعد على اتخاذ قرار. ربما كانت تقنية التهدئة والتباطؤ أشبه بـ: (الرقعة الأرجوانية) التي اعتمدها بعض الأدباء الإنجليز، حيث يعتنون فيها بالبحث عن لغة راقية وصور جميلة بهدف تشويق القارئ وحمْله على مواصلة القراءة بلا ملل. كما كانت وظيفة الاستطراد في الأدب العربي القديم. فلا أتصوَّر أن قارئاً في العصر الحاضر سيُقدم على قراءة رواية «أمبرتو إيكو» (باودولينو)، وهي في أكثر من ستمائة صفحة، إذا لم تكن لديْه صورة عن الروائي الناقد ذي القيمة العالية، ويدرك – بلا شك – أنه سيستفيد أكثر مما لو قرأ ستة كتب في كل منها مائة صفحة، وهو القارئ المشدود إلى واقع تزاحمت في وسائل التواصل وتعقَّدت فيه الحياة وكثرت مشاكلها ومتطلباتها. أقدِّر أنه إذا لم يكن لديْه حافز أولي، فإنه لن يدخل الغابة أصلاً. لم يعد الانفتاح – كما يؤكد «إيكو» – مسألة حتمية، بل مبدأ إبداع: «والقارئ يعرف أن كل جملة وكل شخصية تخفي دلالات متعددة الأشكال يتحتَّم عليه اكتشافها، وهو يختار حسب حالته الذهنية المفتاح الأفضل بالنسبة إليه (...) والحال أن الانفتاح لا يعني هنا أيضا «غموض» الخطاب و«تعدد» إمكانيات الشكل وحرية التأويل، فالقارئ يمتلك فقط جدولا بالإمكانيات المحددة بدقة والمشروطة بحيث إن الفعل التأويلي لا يفلت من مراقبة المؤلف» (2). ومهما يكن الكاتب، فإنه لا يستطيع أن يُلمَّ بشتات الواقع، لأنه لا يملك إلا جزءاً بسيطاً مما يُسمِّيه «إيكو» الموسوعة المعرفية الشاملة. لذلك ينصح القارئ بأن يكون أوْسع اطلاعاً على تفاصيل الواقع. وأن يبقى يقظاً – وهو في زحمة المعلومات والأجواء الخيالية – حتى لا يضيع منه خيط «أريان». (3) ثمَّ عندما ينسحب من النص وينظر إليه من مسافة، يكون قادراً على تحريكه في رحابة ذهنية. غابة السرد.. فقيرة من النصوص السردية ما لا يكون غابة كثيفة غنية ولا عراء أجرد تماماً، يَلِجُه القارئ ويخرج منه من غير أن تجتذبه أشجار أو نباتات أو طيور أو حيوانات، لا يمحص الفقاعات ولا الطفيليات ولا الأعشاب ولا يراقب الضوء المتسلِّل من بين الأغصان. ولكنه -مع ذلك- ينتسب إلى السرديات. فهو يتجوَّل في غابة فقيرة ولا بد أن يسلك طريقاً واحداً. أما القارئ النموذجي، فيسلك طرقاً متعددة، لأن الغابة بطبيعتها تدفعه إلى ذلك وتأسره بغناها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©