الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طلب لجوء

طلب لجوء
6 نوفمبر 2014 15:23
مريم الساعدي «هل تستقبلون طلبات لجوء؟». قال صوت بلهجة سورية. التفت للمصدر. شاب صغير يقف على شباك السفارة الأجنبية. «لا، لا نستقبل طلبات لجوء، وهذا مكتوب بوضوح على لوحة كبيرة أمام باب السفارة!»، تقول موظفة السفارة بنفاد صبر واضح. تتبعه بتأفف ثم تنهيدة طويلة كمن أعاد هذا التصريح مليون مرة لجمهور أصم. تنظر إلي. حتماً تنتظر مني نظرة تفهم ومؤازرة، فكلانا نمر بالمعاناة نفسها، كلانا من بلدان عليها التعامل مع الطامعين في البقاء على أرضها باستمرار. أتجاهلها وأتظاهر أني أقرأ الإعلان السياحي المعلق على الجدار المقابل. كنت أجلس بانتظار تقديم طلبي لتأشيرة شنغن سياحية. الصيف لاهب، وأردت التخطيط لرحلة إلى منطقة أكثر اعتدالاً، ربما برودة، في هذا الجحيم لا أمانع حتى الذهاب لمكان متجمد صقيعاً، لإطفاء كل الحرائق التي اشتعلت برأسي بفعل هذا القيظ الذي أسقط علينا هذا العام، وبشكل خاص، حمماً من لهب. أو ربما هكذا أشعر أنا فقط في كل صيف. انتبهت إلى أن الشاب، اعتذر بهدوء وخرج من القاعة. حين أنهيت معاملتي وخرجت رأيته يقف على باب السفارة الأجنبية المجاورة، لكن الباب كان مغلق. في الطريق على ناصية البناية وقفت أنتظر السائق. يتأخر في الحضور، أو أنا من أتأخر في استدعائه، أستغل كل مشوار أقضيه كفرصة للوقوف قليلاً في الشارع لرؤية الناس. فنحن هنا لا نسير في الشوارع كثيراً، نخرج من بيوتنا إلى سياراتنا إلى أماكن أعمالنا أو أي وجهة نخرج لأجلها. لا نسير. ولولا الخطوات المطلوبة للنزول من السيارة إلى مدخل المكان لنسينا أننا نمتلك قدمين. أنا أحب المشي كثيراً، لكن طبيعة المجتمع لا توفر هذه الفرصة، وربما طبيعة تخطيط المدينة أيضاً، والأكيد هو طبيعة المناخ. أقف على مدخل البناية في الظل، أشم رائحة الناس العابرين. ورائحة المكان، الشارع والرصيف، والأبواب، وأكياس البلاستيك الواقعة أرضاً، وعلبة الكولا المتدحرجة والغسيل المنشور على البلكونات رغم تحذير البلدية للحفاظ على مظهر عصري للمدينة. أقف هناك. أميز الروائح، روائح الحياة، وأفكر أن أكتب مقالي القادم حول ذاكرة الرائحة. يمر أمامي مجموعة عمال آسيويين، يفوح عرقهم بشكل لافت. موظفون عرب، يسيرون ببدلهم وربطات عنقهم، في هذا الحر!. حتماً هي ضرورة الوظيفة المكتبية. كاضطرارنا ارتداء الأسود رغم أنه أكثر الألوان جذباً لحرارة الشمس. بعضهم تفوح منه رائحة عرق بارد مختلطة بعطر، وبعضهم تتقدمه رائحة سجائره. يقف بعضهم ليتنفس سجائره، يشعل واحده تلو أخرى، لعلها استراحة سريعة يعودون بعدها إلى مكتب بارد جداً. أفكر في أن هكذا عادات قد تسبب المرض للناس؛ الانتقال الدائم بين برودة المكاتب الشديدة وحرارة الشمس الشديدة لأجل سيجارة. ولكن من يفكر بالصحة حين تختزل هذه الاستراحة لحظة حرية. أسير قليلاً على الرصيف. أحب السير على الأرصفة، لكن لن أستطيع السير كثيراً، العيون تبحلق، وهي كثيرة، وهذا مزعج، تعلمت أن أبحلق فيمن يبحلق، بمعنى «نعم؟؟» فيُحرج ويلتفت جانباً. تكنيك جيد، ينجح أحياناً، لكن أحياناً يصير متعباً، فبعضهم يستمرئ البحلقة. انتبه لمرور الشاب السوري الباحث عن اللجوء من جانبي، حاولت تمييز رائحته. لكن لم يترك أثراً. يسير خطوتين ويقف عند الرصيف، أتوقف عند بقالة أشتري عصير راني حبيبات بارد. فكرة الحبيبات في هذا العصير تعجبني، تشعرني أنه حقاً طازج، أعرف أنها خدعة، ولكن أحب تصديقها. بعض الخدع تمنحنا حياة. أنتبه أن الشاب السوري لا يزال يراوح مكانه، أقف على زاوية وأتأمله. يروح ويجيء، يبدو محتاراً، تائهاً، وغارقاً في التفكير. يخرج هاتفه النقال من جيب بنطاله الجينز، يتأمله قليلاً، يبدو كأنه يفكر بمن يتصل، يتصل بأحدهم أخيراً، ويتحدث، يمسك الهاتف بيد فيما يظل يمسح رأسه بيده الأخرى طوال المكالمة، يظل ماشياً ويتحدث بجمل متقطعة، كأنه محرج من الطرف الآخر، تنتهي المكالمة سريعاً. يمسح على ذقنه ذات الوبر الخفيف الأشقر، يضع يده على خاصرته، يقف على الرصيف مقابلاً الشارع، ثم يقرر العبور، يمشي خطوتين، وما يلبث أن يعود ليقف على الرصيف. يتلفت يمنه ويسره. يرفع رأسه إلى أعلى، كمن يقرأ لافتات المحال، يبقى على ذلك الوضع لبعض الوقت. يبدو متعباً جداً، وجائعاً.. وغير مهتم بذلك. مجموعة من الملتحين، سته أو ثمانية، بثيابهم البيضاء الناصعة، يقبلون من الناحية المقابلة. تبدو وجوههم مرتاحة، خدودهم بيضاء موردة، أحسدهم على نصاعة بشراتهم، وأفكر ربما هو فعلاً نور الإيمان. كل كريمات العناية بالبشرة باهظة الثمن ما كانت لتعطي النتيجة نفسها. يسيرون ببطء وتنظيم، يتبادلون أطراف حديث ما، يبدون قريبين جداً من بعضهم، متفاهمين، متآلفين، متماسكين، حولهم هالة من التفوق على الحر والشمس والعرق وهموم الناس العاديين. حولهم هالة من الاطمئنان. يتقدمون باتجاه الشاب الباحث عن اللجوء. يبدو هو أيضاً قد انتبه لهم، يسير إليهم، يلقي عليهم التحية الإسلامية، فيصافحونه. يقفون قليلاً يتبادلون حديث ما. يربت أحدهم على كتفه. يهز آخر رأسه. يطوقه آخر بذراعه. ثم يسيرون معاً وهم يكملون الحديث. أظل واقفة وقد انتهيت من شرب عصيري البارد، متخيلة أن الجو لطيف، فيما يختفون عن مرأى البصر في منعطف جانبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©