الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الامتثال للقارئ

6 نوفمبر 2014 15:25
قاسم حداد 1 هكذا في كل مرة. ما إن أسمع أحدهم يضع شرطاً (أو طلباً) مسبقاً لما ينبغي أن أكتبه، حتى تستنفر الحواسُ كلها، كمن استشعر عسفاً. دائماًَ أرى الكتابة حرة قبل النص وبعده. ليس ثمة ما يُفرض على الكاتب من خارج تجربته. الحياة الشاسعة هي لبّ الكتابة في كل وقت وزمان. ولا يحتاج الكاتب لخريطة طريق من أجل أن يكتب. هكذا يحضرني الهاجس الحذر في كل مرة أصادف من يضع قناديله السوداء أمام كتابتي. 2 تتصل بك الصحيفة، تدعوك لأن تقترح مشاركتك في فعاليتها الثقافية، بكتابتك، وتتوقع أن يكون الداعي مدركاً لطريقتك في الكتابة، لكنه، استكمالاً لبروتوكول الدعوة، يتبرع بتوجيهك (الإداري) بجملة تظل غامضة بالنسبة لي طوال الوقت: (الموضوعات التي تختارها وترى أنها تهم القارئ العربي). هنا شرطٌ مسبق تضعه رسالة الدعوة أمامك، خشية أن تخرج عما (يهم القارئ العربي). ربما لا يعني كاتب الرسالة أن يضع حدوداً لكتابتك، لكنه (من حيث لا يدرك) سوف يدفعني إلى الحيرة في (حظيرة) غامضة من الحدود، بحثاً عن موضوعات (تهم القارئ العربي). 3 ستسعدني الدعوة والفسحة التي تتيحها لي الصحيفة من أجل الكتابة، وسأعتبر دائماً أن هذه الدعوة جديرة بالعناية القصوى من الوعي، كما أنها شرفة كريمة للذة الكتابة، علماً بأن مفهومي للكتابة لا ينفصل عن ذلك الأفق الذي على الكاتب أن يحسن التحديق بعدسات الروح والعقل في آن، متحملاً عبء الكتابة، كمن يكتب نصه الأول / نصه الأخير. غير أنني لا أزعم، فعلاً، بأنني أعرف جيداً (القارئ العربي) هذا. 4 لا أذهب إلى الكتابة بشروط الصحافة، بل أنني أكتب للصحيفة بالشرط الأدبي، وخصوصاً بشرطي التعبيري الخاص في كل مرة. بمعنى أنني لا أتخلى عن طبيعتي الأدبية من أجل أن أصوغ مقالة صحافية، وهذا ما يستطيع عشرات من كتاب الصحافة أن يفعلوه بإتقان أكثر مني. أستجيب لدعوة الصحيفة لكي أكتب ما أحب. وهو الأفق الذي يجعلني اشعر بحريتي الخالصة في الكتابة، شكلاً وموضوعاً ومضموناً. مما يجعلني أشعر بأنني لا أزال في فضاء الأفق الذي يصلح للكتابة، ويستحق الخروج من البيت لأجله. عادة، تجربة الكتابة للصحافة مناسبة لاكتساب خبرة حياة إضافية يصعب توفرها في أشكال الكتابة الأدبية الأخرى. عادة لا أكاد أرى مسافة (فيزيائية)، بين النص الأدبي والنص المكتوب للصحيفة، عندما يكون الكاتب مؤلفاً أدبياً، وخصوصاً حين يكون شاعراً، فليس من الحكمة التفريط في حساسيات الشعر عندما تكون المناسبة هي الكتابة في الصحافة. ولكي تكون هذه التجربة منتجة ومفيدة لجميع الأطراف، يتوجب، عند دعوة الشاعر للكتابة في الصحافة، أن يتوقع هؤلاء ما تضيفه تجربة الشاعر والأديب (رؤىً ولغة وأسلوباً) إلى فضاء الكتابة في الصحيفة، وإلا ما معنى أن يكتب شاعرٌ في الجريدة، في حين لدى الجريدة (وبإمكانها) استكتاب عشرات الصحافيين لتحبير مقالاتهم وتسويد صفحاتها. 5 الكتابة هي الحرية الأخيرة التي يتوجب على الكاتب أن يتشبث بها، في مواجهة السعي الحثيث للعديد من القوى التي تعمل على اجهاض الأمل الأخير في أحلامنا. وهي الحرية التي تنجح هذه القوى في مصادرتها من عموم (القارئ العربي). حتى بات (اهتمام) القارئ العربي محصوراً في سطوح الأشياء وقشور الحياة ومرتجلات القضايا. القارئ الذي صار يتخبط في مستنقعات تفادي النفي الماثل والموت الوشيك. تلك هي الكتابة التي تدعوني الصحيفة لاقتراحها على قارئ مجهول، يبحث معي عن الأفق المفقود. وإلا ما الفرق بين كتابة الشاعر وكتابة الصحافي؟ ما الفرق بين اجتياح الطبيعة وبين اكتشافها؟ أرى أن من الأجدى أن نصغي إلى روح الجناح وليس الانشغال بحفيف خفقانه وتوقع اخفاقاته. هذه هي الكتابة التي نتوقع من القارئ أن يذهب إليها بأسئلته العميقة وليس بامتثالاته الفادحة. 6 أكثر من هذا، من قال إنني معنيٌ بكتابة الموضوعات التي تهم (القارئ العربي)؟ من قال إنني أعرف، (مثل الذين يزعمون) معرفة كل شيء عن العربي، قارئاً أو مقروءاً؟ من قال إن لديّ وصفات الحياة لهذا الكائن المذهول أمام ما يتعرض له ويحدث له ويقع عليه؟ الحق انني لست معنياً، لكي أكتب، بعقد الجمعيات العمومية للقارئ العربي، من أجل معرفة ما يهمه فأكتب له عنها. ذلك ليس شأني، وليس من بين مهمات النص الذي أحب أن أكتبه. تلك هي الشرفة التي أشعر بضرورة عدم التفريط بخصوصيتها، كلما تعلق الأمر بالكتابة. خصوصاً كتابة الأديب أو الشاعر في الصحافة. لئلا يقع الأدب ضحية الشرط الصحافي. 7 قبل كل ذلك وبعده، من قال إنني سأكتب ما (يهم القارئ العربي) إذا هو اهتمّ؟ على العكس، إن أقصى ما يشغلني هو أن أكتب ما يهمني وأحب أن أكتبه، وليس ما يحبه القارئ. فذلك هو الشأن الذي يتوجب أن تقوم دعوة الصحيفة للشاعر لكي يكتب نصوصه في صفحاتها. إنني ضائعٌ وأضيعُ، ضحية مثل القارئ، غير أنني قادر على النجاة من أوهامه. أقوى على طرح الأسئلة، دون الزعم بامتلاك الأجوبة. ففي الأسئلة شيء من النجاة. ذلك هو ما أحب أن أكون قريناً له في الكتابة والقراءة، في النص والشخص.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©