الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

جنة الروائح وجحيمها تتجسد في فيلم العطر

18 فبراير 2007 02:10
إبراهيم الملا: عندما يكون أنف الإنسان هو دليل تعرّفه الوحيد على العالم، ووسيلته الخفية لاختراق الحياة من جانبها الأكثر غموضا وغرابة، فإن هذا الأنف يتحول بدوره إلى بوصلة من لحم ودم، تهدي الإنسان الغافل والمعطل عن حواسه الأخرى، وتقوده وسط أمواج ضبابية هائلة من التيه واليتم والعذابات، وهو الأنف ذاته الذي يأخذ بيده في هدير الأجساد والأشجار والحدائق والنساء والأزقة والأبنية والحوانيت والخرائب وكل ما هو جامد ومتحرك ومرصود في عين الأحياء والأموات معا، إنها حاسة الشم الخرافية التي تحولت إلى غريزة وجود، وإلى هبة إلهية، ورئة مفتوحة على هواء العالم ومحيطاته وغيومه وغاباته· من هنا، ومن قوارير العطر، وجغرافيا الروائح، وتاريخها الضارب في الجذر الشيطاني والمقدس، وانطلاقا من أرضية هذا الوعي السحري والماورائي بطاقة الكائن البشري، وبنوازعه الخطيرة والطاهرة في آن، والموزعة بين صورتي الوحش والملاك، من هذا النقيض المربك والممزق والحافل بالحقائق والشعوذات والجمال والقبح والفراديس والمهالك، خرجت رواية ''العطر'' الحابسة للأنفاس ـ وبكل ما يحمله هذا الوصف من دقة وخطورة ـ أطلق الكاتب الألماني: ''باتريك زوسكيند'' روايته الاستثنائية تلك في العام،1985 كي تحدث الصدمة الحسيّة والروحية المزلزلة التي لامست القراء المذهولين في مختلف أرجاء العالم، رواية كان على السينما أن تتلقفها باكرا، ولكن ''زوسكيند'' نفسه لم يكن على قناعة بقدرة الرواية على نقل الرائحة إلى أنف القارئ، فما بالك بالصورة السينمائية وبالقيمة المعرفية و''الشمّية'' والإيحائية المرتجاة، هذا الشك راود أيضا كل من قرأ النص المكتوب، لأن نقل رواية شبيهة بـ''مختبر روائح'' إلى وسيط بصري خالص هو السينما، يعتبر ضربا من المغامرة والادعاء والمبالغة· والآن وبعد أكثر من عشرين عاما من صدور الرواية استطاع المخرج الألماني ''توم تويكر'' صاحب الفيلم الشهير: ''اركضي لولا، أركضي'' أن يقنع زوسكيند بقدرته على تحويل الرواية إلى الشاشة، وبأقصى قدر ممكن من الأمانة الشكلية والتأويلية، والإحاطة بجل التفاصيل الرثة والمأساوية لمدينة باريس قبل ثلاثمائة عام، والإحاطة أيضا بكل التنويعات الجمالية لنهايات عصر النهضة وبدايات العصر الباروكي في أوربا والموازية للفضاء المسيحي بعقائده الصارمة، وطرزه المعمارية ''القوطية'' والكنسية، وكان هناك وعد ووثيقة غير موقعة من ''تويكر'' بنقل الإيحاء المعمق لشخصيات الرواية، وللروائح المعقدة والاستثنائية والفريدة التي دوّخت قراء رواية ''زوسكيند'' الأكثر مبيعا في العالم، والتي وضع لها عنوانا مزدوجا هو: ''العطر ـ قصة قاتل''· يوتوبيا الروائح يبدأ الفيلم بمشهد لشاب غريب الأطوار ومقيد بالسلاسل في أحد السجون القديمة، والشاب هائم في خيالاته الخاصة وغير مكترث بشيء، حيث يخبره السجان باقتراب موعد إعدامه، ثم يذهب السرد من خلال الفلاش باك إلى قصة ولادة طفل في القرن الثامن عشر وفي أقذر بقعة على وجه الأرض، وبالتحديد في سوق السمك بمدينة باريس، المحاصرة في تلك الفترة بأكثر الحواس البشرية عصفا بالأمزجة والأهواء، وبأكثر اللعنات فتكا وتنكيلا، ألا وهي لعنة الرائحة الكريهة التي كانت تنبعث من كل شيء تقريبا، من أجساد الفقراء والنبلاء، ومن المدابغ والمسالخ والأنهار والساحات والكنائس وحتى من القصور ! في سوق السمك هذا والقائم على قبور جماعية غابرة في حي''مونمارتر'' وسط شارع ''أوفير'' وفي يوم حار جدا، وداخل أتون من الروائح العفنة واللاذعة لأحشاء السمك الدموية ولد '' جان باتيست غرنوي'' في السابع عشر من يوليو ،1738 خرج غرونوي من بطن أمه مثل قطعة لحم بشرية منزلقة على البقايا اللزجة للأسماك، قطعة لحم ليست أكثر، وكأن والدته اختارت له مصير أخوته الأربعة الذين ولدوا بنفس الطريقة، وماتوا تحت طاولة بيع الأسماك دون أن يشعر بهم أحد، فالمنظفون في آخر النهار لم يميزوا بين الأجنة البشرية الحمراء وبين خياشيم الأسماك وبقاياها الدامية، ولكن ''غرونوي'' الرضيع الذي شرب وابتلع وتنشق كل روائح باريس العفنة في ذلك النهار، أعلن عن وجوده الصارخ من خلال البكاء المتواصل والحاد، وكان هذا البكاء كفيلا بإرسال والدته إلى حبل المشنقة، وهكذا ارتبط مصير ''غرونوي'' بحدثين كبيرين: قدرته الشميّة الخارقة، وارتباط اسمه بالموت والقتل منذ إشراقته الأولى على الحياة· كاهن العطور تنتقل الكاميرا المرهفة والأنيقة للمخرج ''تويكر'' إلى الخبايا العميقة لهذا الطفل اليتيم والموعود بأكاليل المجد المنتظر، فهناك ومن داخل الظلمات الجارفة لدار الأيتام، وتحت معية ''مدام غايار'' المشرفة على الدار، تفتحت المواهب الحسية النادرة لأنف ''غرونوي'' الصغير، هذا الخيميائي بالفطرة، الذي لم يعش براءة الطفولة ولا لذتها إلا من أجل اكتساب المعرفة ''الشمّية''، وامتصاص العالم كله من خلال أنفه الضئيل، هذا الأنف الشره والجائع لكل الانبعاثات الخفية ولكل البصمات الوراثية والكيميائية التي انغرست في الكائنات الحية والجوامد الميتة وكل عناصر الطبيعة التي صنفها الخيال الضخم لغرنوي فتحولت إلى مكتبة ذهنية هائلة احتوت على أبجدية الرائحة من ألفها إلى يائها· في سن الثامنة عشر يتحول ''غرنوي'' (أدى دوره هنا الممثل البريطاني ''بن ويشاو'') للعمل لدى دباغ الجلود المشهور ''غريمال'' وهناك يتعرف غرنوي على سديم الأبخرة الحيوانية وروائح الجلد المسلوخ من اللحم، فيستيقظ في داخله شيطان العطور الدموية والعضوية، وكأنها العطور المخزنة في ذاكرة حيوان مفترس !· وعندما يلتحق بالعمل لدى صانع العطور الشهير ''بالديني'' ( قام بدوره بارتجال واضح وإتقان عفوي الممثل الشهير ''داستين هوفمان'' ) يتحول ''غرنوي'' من الهواية الضالة والمشتتة والذهنية إلى الاحتراف العملي والدقيق في التعامل مع المختبرات العطرية للوصول إلى حلم شخصي وطموح ذاتي لن يقف أمامه أي حاجز، ألا وهو الوصول لصيغة خرافية من التراكيب السرية لاختراع العطر المقدس ذي الرائحة المستحيلة والذي يمكن أن يحمل ألقابا أخرى مثل: عطر الجنة، عطر الفراعنة، العطر الإلهي، يوتوبيا الروائح، عطر القيامة، عطر الخلود، إكسير المعجزات··· وكما هي عادة الحقب المظلمة والعصور الداكنة فإن ظهور ''المخلّص'' أو ''كائن النور'' هو ظهور مشفوع بغرابة وعزلة وشطحات سلوكية طالما ارتبطت بشخصية هذا ''المخلّص'' وطالما وضعته في الجهة المضادة من الأعراف العامة والطقوس الجماعية لفكر الشعب ولمعتقداته المتداولة والمتوارثة إلى حين· الذوبان في الأسطورة يسعى غرنوي طوال اللحظات المثيرة في الفيلم للوصول إلى تركيبته الجهنمية تلك، حتى ولو كان ذلك على حساب الحب والعشق والفضائل البشرية، يقتل ''غرنوي 25 امرأة وفتاة كي يستخلص من أجسادهن القواعد العطرية لتحفته النهائية، 25 امرأة وفتاة ذهبن كقرابين بشرية على مذبح الخلاص، ومن أجل رؤى وتنبؤات واستنارات داخلية لكاهن العطر الأخير، هذا المخلوق الشعري والمرعب، الشفاف والمدنس، الوديع والذئبوي، المسالم والمسلّح بالنوايا المدمرة، هذا الكائن الدائخ بين السماوي والأرضي والإلهي والدنيوي، سوف يجتمع الناس والقضاة والجلادين من حوله كي يشهدوا خاتمته المأساوية، ولكن قنينة العطر الخرافي سوف تنقذه، فعندما يطلق رائحتها وسط المهووسين بالقصاص والانتقام، تهبط المعجزة من مكمنها البعيد والغامض وتتحول الجموع المسعورة إلى كائنات وديعة ومحبة ومصابة بشعور وصفته الرواية الأصلية لـ''زوسكيند'' بأنه: ''خبل طفولي مجنون: لقد أحبوه'' ! '' إن جان باتيست غرنوي الذي ولد دون رائحة، في أكثر أماكن العالم تخمة بالروائح الكريهة'' سيتحول إلى كائن نوراني مرفوع على المباخر الفردوسية، إنه القديس المخلّص، وهو أيضا القربان الذي مبلغ المرتبة القصوى من النشوة الذاتية، وعليه أن يتبع الآن سيرة الضحايا المبجلين، والأبطال الذين ذوبتهم الأسطورة في شعلة ''بروميثيوس''، وفي تفجّرات الإلهام، وفورة الروح الحارقة· ولذلك فإن نهاية فيلم ''العطر'' سوف تشهد خاتمة مدوخة وتفتيتية دون شك، يذهب غرنوي ـ بعد أن امتلأ وفاض بالمجد واللذة والمباهج الروحية ـ إلى سوق السمك الذي شهد ولادته، وهناك يرى جمعا من الفقراء والمشردين، فيسكب كل مكونات العطر المقدس على جسده وثيابه، ومن فرط المحبة الخرافية التي أصابت هؤلاء يجتمعون فوق جسده ويلتهمونه قطعة قطعة وفي دقائق قليلة يختفي ''غرنوي'' عن وجه الأرض ! لقد تحول الكائن الذي شغل الناس والدنيا إلى كائن من عدم وهباء ونثار، ولكن السيرة الضارية والمتبخرة لـ''غرنوي'' ظلت عالقة في الهواء وللأبد، وهكذا أيضا فإن خروج عمل سينمائي مثل: ''العطر'' إلى صالات العرض سوف يعيد الأمل في بعث الروايات المستحيلة، وهنا نتذكر رواية ''العماء'' للبرتغالي جوزيه ساراماغو، فالسينما كفن إنساني متجدد، قادرة على حفظ وجمع وتخليد الروائح المبددة في أفق الأدب والذاكرة والشغف والخيال·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©