السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وزير يعاتب الملك

وزير يعاتب الملك
23 أكتوبر 2013 19:56
شعراء الأندلس كانوا ظاهرة مميزة، منسجمة ومتسقة مع المجتمع العربي الإسلامي على تلك البقعة من الأرض التي فتحها العرب المسلمون سنة 93 هجرية أيام خلافة الوليد بن عبدالملك بن مروان، وعلى يد القائد موسى بن نصير الذي كلف طارق بن زياد بالمهمة العسكرية ثم لحق به فيما بعد. ورغم أن طارق بن زياد نفسه كان من البربر الزناتيين أو النفزاويين، إلا أنه كان عربياً لا بدينه فحسب بل بلغته أيضاً، وقد وصفته مراجع التاريخ بأنه كان طويل القامة، ضخم الهامة، أشقر اللون، وقد رأيت بأم عيني بعض البربر في جنوب المغرب وفي المناطق الجبلية، وكانوا ذوي عيون زرقاء وشعر أشقر. كان ذلك القائد العظيم الذي فتح الأندلس، وقال خطبته الفصيحة المشهورة، عربي اللسان، مسلم الفؤاد، وحتى يومنا هذا نستشهد بخطبته التي يقول فيها: “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مائدة اللئام”.ولكن المقري في كتابه “نفح الطيب” أكد أن طارق بن زياد كان من الشعراء المبدعين، ونقل لنا عن بعض الكتاب والمراجع بعض ما نظمه من الشعر مثل قوله: ركبنا سفيناً بالمجاز مقيرا(1) عسى أن يكون الله منّا قد اشترى نفوساً وأموالاً وأهلاً بجنّة إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا وإذا كان الشعر العربي قد شارك بالفتح من خلال ذلك القائد فإنه وجد في تلك البلاد كل أسباب التقدم والإبداع. ولقد حاولت في هذه السلسة ومن خلال إلقاء الأضواء على أهم شعراء الأندلس، أن أضع أمام القارئ الكريم صورة واضحة عن شعر الأندلس الذي كان مرآة صادقة انعكست فيها تفاصيل الصورة وألوانها.كان الشعر في الأندلس محل اهتمام الصغير والكبير، الغني والفقير، البسيط والأمير.. العالم في أمور الدنيا والمتفقه في أمور الدين.فمن ملك شاعر كالمعتمد بن عباد إلى يتيم مبدع كإبن اللبانة وابن الحداد. وإذا كنا في الحلقة الماضية قد ألقينا الضوء على ابن الحداد العاشق نويرة المسيحية، فلا بد لنا أن نتناول اليوم جوانب أخرى من حياته وشعره.ابن الحداد كما قلنا هو محمد بن أحمد بن عثمان القيسي أبو عبدالله ولد في وادي آشي وهي مدينة في شرق غرناطة وعلى بعد خمسين كيلومتراً منها باتجاه مدينة مرسية، وهي على الطريق المؤدية إلى مرسية أيضاً.لا نعرف سنة ميلاده ولكنه توفي سنة 480 هجرية 1087 ميلادية وكان من عائلة فقيرة متواضعة.ذكرت بعض المراجع أن أمه تنتسب إلى أسرة عربية مرموقة بقرطبة، وأن هذه الأسرة من بني تميم، وأنها أي الأم هي أخت القاضي أبي عمر بن الحذاء الذي كان عالماً فقيهاً مالكياً، تقلد أحكام القضاء في طليطلة ودانية.. وعندما توفي سنة 467 هجرية في اشبيلية مشى في جنازته ملك اشبيلية المعتمد بن عباد راجلاً لا يمتطي صهوة فرسه.. ولكن أباه كما ذكرت مصادر قليلة كان يعمل حداداً، ولذلك سُمي بإبن الحداد، وكما فعل أبو العلاء المعرّي في كتابه “رسالة الغفران” أسمح لخيالي أن يستحضر ذلك الشاعر الأندلسي ابن الحداد لنكمل حوارنا الذي بدأناه في الحلقة الماضية. ? قل يا ابن الحداد.. هل كان أبوك مشرقياً أيضاً، أي من العرب؟ ـ بالطبع كان.. فأبي أحمد وجدي عثمان القيسي أي إنني أنتسب إلى قبيلة قيس. ? أليس غريباً إذن أن تكون عائلتك فقيرة؟ ـ لا علاقة للفقر والغنى بالنسب يا بني.. ولم نكن في مجتمع يميز بين العربي وغير العربي، لقد وحّد ما بيننا الإسلام، وجعلنا أكثر انفتاحاً على العالم وعلى الآخر. ? لا أشك في ذلك فأنت واحد من أولئك الذين عاشوا هذا الانفتاح بعشقك لتلك الاسبانية نويرة. ـ لم نكن نقول الاسبان في ذلك الوقت بل نقول: الروم. ? كل من لم يكن عربياً كان من الروم أو الفرس. ـ هذا صحيح.. ونويرة كانت روسية مسيحية. ? ولكن هل منعك الفقر من التعلم؟ ـ إلى حد كبير نعم.. ولكنني اعتمدت على نفسي. ? كيف؟ ـ لم أترك مخطوطاً إلا قرأته، وخاصة ما خطه خالي ابن الحذّاء القاضي.. وقد رويت عنه وأفدت منه. ? كان الكتاب إذن أنيسك وجليسك. ـ أنت تشير إلى قصيدتي. ? هل نسمع شيئاً منها؟ ـ أقول: ذهب الناس فانفرادي أنيسي وكتابي محدثي وجليسي صاحبٌ قد أمنت منه ملالاً(2) واختلالاً وكلَّ خُلقٍ بئيسِ(3) ليس في نوعه بحيٍ ولكن يلتقي الحي فيه بالمرموس(4) ? أتعرف ما يحيرني يا ابن الحداد.. كنت تميل إلى الانفراد والعزلة ولم تكن تكره أحداً.. ومع ذلك كان حسّادك كثيرين وأعداؤك أكثر.. لماذا يا ابن الحداد؟ لماذا حسدك الناس وعادوك؟ ـ الناس؟.. الناس أحبوني.. ولكن يجب أن تعرف يا بني أن الاقتراب من الملك أو الحاكم أو ذوي النفوذ سيضع الحاسدين والحاقدين.. هذه طبيعة الأمور.. وبسبب اقترابي من المعتصم بن صمادح صاحب المرية أو ملكها في ذلك الوقت، كثر الحسّاد الذين رأوا في وجودي عنده حاجزاً أمام أطماعهم.. ولكنني لم أكن أكترث بهم، بل واجهتهم. ? كيف؟ ـ في احدى رسائلي قلت: ولم أمدح المعتصم طالب جدىّ ولا راغبَ ندىً على أن جميعها رائدٌ في رياض إنعامه ووارد في حياض إكرامه، ولكني منيتُ بقَرَدَ: حسدة، أعجزتهم محاكاتي وأعوزتهم محاذاتي، فوخزوا فضلي. ? ماذا فعلوا؟ ـ حاولوا الإيقاع بيني وبين المعتصم بن صمادح ? وماذا كنت عنده؟ أكنت وزيراً؟ ـ بل كنت ناظر الديوان.. في مفهومكم الآن رئيس الديوان ? يعني الوزير ـ بل هي رتبة أعلى.. أو كانت في ذلك الوقت أعلى من رتبة وزير؟ ? كيف يا ابن الحداد؟ ـ كت مقدماً على الجميع، فأنا أول من يدخل على الملك وآخر من يخرج، وكان من طبيعة عملي أن أصغي إليه وأكتم أسراره وأشير عليه بما هو خير.. وما أرى أنه ضار، فكان لا يثق بأحدٍ من خاصته كما يثق بي، وكنت أتحكم بمن يدخل وأمنع من لا أراه أهلاً للدخول عليه. ? إذن كنت الوزير غير المعين.. ـ كنت الوزير العملي والتنفيذي ? وظل اسمك ابن الحداد ـ وبكل الفخر والاعتزاز ? وما الذي قربك إلى المعتصم حتى هذه الدرجة؟ ـ المعتصم بن صمادح كان شاعراً بطبعه وحديثه وثقافته يعرف الغث من السمين والصادق من الكاذب.. ولذلك لم ير في شعري له مدحاً متسولاً.. فأنا لم أكن أحتاج أن أُكافأ على أية قصيدة مدح فيه.. لأنه غمرني بجوده ولم أكن أحتاج أن أتكسب بشعري. ? عشت عمرك كله في المرية.. وفي بلاط المعتصم بن صمادح ـ لا.. خرجت لفترة قصيرة إلى سرقسطة، حيث أكرم وفادتي المقتدر أحمد بن المستعين سليمان بن أحمد بن هود ? ولماذا خرجت؟ ـ أحرجتني بسؤالك.. هل يمكنك أن تحذف هذا السؤال؟ ? وما عليك ما دمت ميتاً ـ بل إنني الميت الحي ? وماذا يضيرك؟ ـ حسناً.. وأنا في بلاط المعتصم، قام أخي بقتل رجل عربي، واختفى عن الأنظار.. وقامت عشيرة المقتول بطلب الثأر على عادة العرب، ولما لم تجد أخي، وضعتني بديلاً عنه.. وصار رأسي مطلوباً. ? هربت؟ ـ بل آثرت الابتعاد عن التعقيدات ? ومتى عدت؟ ـ عندما قبض على أخي وأودع السجن، سقطت مطالبة تلك العشيرة بالثأر.. وعدت لمواصلة عملي.. ? ألم يستطع المعتصم أن يحميك. ـ إنها العادات والتقاليد ولا يخرج عنها حتى الملك. ? ولكن يقال إن المعتصم غضب عليك لقصيدة قلتها لم ترضه. ـ أقوال الحاسدين.. صحيح أنها كانت جريئة ولكنها لم تغضبه أبداً، بل جعلته يفكر بإصلاح خطأه. ? أقلت للسلطان أنت مخطئ؟ ـ أنا عاتبته على ما فعله بي من أذى ومن حطٍ لشأني لديه ? أتعاتب ملكاً يا ابن الحداد؟ ـ لم لا.. ما كان المعتصم جباراً ولا كنت أنا منافقاً أو جباناً. ? أثرتني.. أسمعني القصيدة من فضلك ـ بكل سرور.. القصيدة تقول: الدهر لا ينفكُّ من حدثانه(5) والمرء منقادٌ لحكم زمانِهِ فدع الزمان فإنه لم يعتمد بجلاله أحداً ولا بهوانِهِ كالمزن لم يخصص بنافع صوبه(6) أفقاً ولم يختر أذى طوفانِهِ لكن لباريه(7) بواطن حكمةٍ في ظاهر الأضداد من أكوانِهِ وعلمت أن السعد ليس بمنجح ما لا يكون السعد من أعوانِهِ والجِد(8) دون الجَد(9) ليس بنافعٍ والرمح لا يمضي بغير سنانِهِ(10) وسما إلى الملك الرضى ابن صادحٍ فأدالني بالسخط من رضوانِهِ وهوى بنجمي من سماد سنائه وقضى بحظي من ذرى سلطانه ? وماذا كانت النتائج يا ابن الحداد.. كيف كان رد الفعل لدى الملك المعتصم بن صادح؟ ـ ما قاله المقري قد يكون أقرب إلى الواقع.. حيث أشار إلى أن المعتصم عندما وصلت إليه تلك الأبيات.. قال: شعره أعقل منه.. ولقد صدق.. فإنه لا يتهيأ له صلاح عيشٍ إلا بأخيه، وهو منه بمنزلة السنان من الرمح ثم أمر بإطلاق سراحه ولحاقه به. معاني الألفاظ: 1 - المقير: المنقوع بالماء والملح 2 - ملالاً: سأماً وضجراً 3 - بئيس: مذموم 4 - مرموس: الميت في قبره 5 - الحدثان: النوائب والمصائب 6 - الصوب: المطر وهو ينزل 7 - باريه: خالقه، البارئ هو الخالق 8 - الجِد: بكسر الجيم الاجتهاد 9 - الجَد: بفتح الجيم الحظ 10 - السنان: رأس الرمح الحاد أو نصله المراجع: 1 - ديوان ابن الحداد الأندلسي/ جمع وشرح الدكتور يوسف علي طويل 2 - الإحاطة في أخبار غرناطة/ لسان الدين بن الخطيب 3 - لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©